الشريف، ومازالوا دائما كل وقت فى احترام وتوقير، فلا يجرفون الجسور ولا يحفرون الترع ولا يؤخذ منهم عساكر النظام، وهذا هو السبب غالبا فى كثرتهم من أهل القطر، فإن الأزهر حرم آمن حتى إنه يحتمى به من ليس قصده طلب العلم.
ثم إن العادة أن يتبع الطالب/مذهب أبيه أو أهل بلده ولا يخالفه إلا لسبب، ولا ينتقل أحد عما اختاره من المذاهب إذ كان كل يفتى على مذهبه من غير نكير ولا تحجير، ولما انحصرت الفتوى فى مذهب أبى حنيفة آثره كثير منهم لقصد التعيش بالفتوى، لكن كانوا لا ينتقلون إليه بعد التمذهب بغيره بل يختارونه ابتداء.
ثم لما انتقلت المشيخة إلى أهله وكثرت مرتباتهم وانحصرت الوظائف فيهم، ازدادت رغبة الطلبة فيه خصوصا من بعد سنة ثمانين بعد المائتين والألف، فدخل الناس فيه أفواجا وانتقل إليه كثير بعد الانتهاء فى المذاهب الأخر، بل انتقل إليه بعض المدرسين طلبا للمعاش، وبعضهم يشتغل به مع عدم هجر مذهبه، فصار أشهر المذاهب بعد أن لم يكن كذلك، وكان الشافعية والمالكية يستقبحون الانتقال إليه ولا ينسبون لأهله علما فصار اليوم مستحسنا أكيدا، وجدّ طالبوه فيه وفى غيره من الفنون فتقدموا وشهد لهم الجميع بالتحصيل.
ثم إنه ليس بالأزهر عادة امتحان للطلبة لا ابتداء ولا انتهاء، ولا يعود الطالب لما حضره بمذاكرة ولا غيرها اكتفاء بحضور كتاب أكبر من الأول مشتمل على ما فيه وزيادة، وقد مر أن المشايخ أيضا غير مسئولين عن مواظبتهم أو تقصيرهم فهم مخيرون فى كل أفعالهم، وإنما السائق لهم الرغبة الذاتية وهى تختلف كما تختلف جودة الأذهان وفراغ البال، وبحسب ذلك تأتى درجاتهم، وقد يكون الحث والتحضيض من آبائهم أو المتفقين عليهم فيجبرونهم على ذلك، والغالب أن كل من بعدت بلدته يكون أكثر اجتهادا وتحصيلا، وأن من عاش فيه متقشفا هو الذى يحصل ويسود فكأن الرفاهية ترقد القريحة على وساد الكسل، وتقعد صاحبها عن الكد والعمل، كما أن الغالب على أولاد العلماء المشهورين عدم النجاح لتكاسلهم اتكالا على شهرة آبائهم، ثم إذا أراد المنتهى التصدر للتدريس فحينئذ بعقد له مجلس الامتحان الذى مر بيانه.
ثم إن فى أهل كل جهة عصبية وحمية، فكثيرا ما يتضاربون على أسباب واهية كمجالس الدرس أو المشاغبة فى المسائل، وأكثرهم حمية الصعايدة ثم الشرقاوية والشوام والمغاربة، وترفع القضايا التى بينهم لمشايخ الأروقة، فإن لم تنحسم فلشيخ العموم، فإن تجسمت فللمحتسب كما ترفع له ابتداء القضايا التى بينهم وبين غيرهم.