للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخمر أم الخبائث

] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ [[*] .
خلق الله الحيوان محدود الشهوة، وما به قوام حياته وأعطاه إدراكًا محدودًا
بحسب حاجته، وخلق الإنسان ذا شهوات ممدودة، ورغائب غير محدودة، وجعل
منافعه وحاجاته غير متناهية، فوهبه إدراكًا غير محدود ولا متناه، وهو العقل الذي
يَفْضُل به سائر الحيوان، فيسخره لمنافعه، ويستعمله في حاجه، كما يُسَخِّر القوى
الحيوانية التي في نفسه، ويتحكم فيها بعزته وسلطانه، فيوقفها في موقف الاعتدال
ويربأ بها عن حد التفريط والإفراط.
هذه وظيفة العقل الكامل في الإنسان؛ ولكنه لم يوهب العقل كاملاً، وإنما
يكمل فيه بالتربية الصحيحة المعتدلة، ولا بد للتربية من قانون، وقد وهب الله
الإنسان قانون الفطرة والطبيعة ليستفيد منه ما يربي به عقله الذي يربي نفسه؛
ولكن هذا القانون كسائر القوانين والشرائع يحتاج إلى مرشد وأستاذ يعلمه وسلطان
ينفذ أحكامه؛ لأن الناس لا يفهمون من القوانين بدون المعلم إلا قليلاً، ولا يعملون
بكل ما يفهمون، إلا إذا كان عليهم سلطان يحملهم على العمل، ووازع يزعهم عن
الزلل، لذلك وهبهم الله الدين الذي هو أهدى مرشد وأعدل سلطان، بل هو سلطان
السلاطين، وأحكم الحاكمين؛ لأنه حكم فاطر السموات والأرض الذي أنزله لتربية
الفطرة الإنسانية التي هي أكمل المخلوقات في عالم الملك.
كيف يتربى العقل بالطبيعة حتى يقوى على طغيان الشهوة، وفي الطبيعة ما
ينصر الشهوة عليه حتى تظفر به وتقتله أو تعقله، ثم تعيث في الأرض فسادًا
فتهتك الأعراض وتسفك الدماء وتبذر الأموال، وتضيع العيال، فأي عاصم للعقل
من ذلك النصير للشهوة، وهو أقوى منه بأسًا، وأصعب مراسًا، وهل يستطيع
العقل أن يساور الخمرة وهي غوله، وبها خسوف بدره أو أفوله؟ كلا إنه ينشأ
ضعيفًا فتسطو عليه الشهوات، فإذا أراد أن يستعين عليها بما يستفيده من حوادث
الطبيعة تسلط عليه الخمرة فتثل عرشه، وتنكث فتله، ويكون النصر للبهيمية على
الإنسانية ولا يقوى على الخمر إلا سلطان الدين إذا كان صاحبه منه على يقين.
إذا لم يكن للخمر جناية على الأعراض، ولم تكن مولدة للأمراض، ولم تكن
ملقية للعداوة والبغضاء، ولم تكن صادة عن ذكر الله وعن الصلاة، فحسبها خبثًا
ورجسًا جنايتها على سلطان العقل الذي فَضُل به الإنسان الحيوان، وبفقده يكون
الحيوان أهدى منه، وأبعد عن الإضرار بنفسه، والإيقاع بأبناء جنسه، وربما
وصل شارب الخمر إلى حالة يكون بها شرًّا من المجنون.
العقل أفضل نعم الله على الإنسان، فما ذهب به فهو أخس الأشياء وأقبحها،
وإذا كان خبث الرذائل وقبحها مما يوزن بميزان المضار والمنافع، فالخمرة جديرة
بكنيتها المعروفة عند المسلمين، وهي (أم الخبائث) وحقيقة بأن تسمى باعتبار
أثرها أكبر الكبائر، وأن يعاقب معاقرها بأشد العقوبات، وكأن الشريعة جعلت حد
السكر أخف من حدي الزنا والقتل، مع أنهما كثيرًا ما يكونان بعض آثارها إذا
أفضت إلى جريمة يعاقب المجرم عقابين عقاب السكر وعقاب تلك الجريمة.
للخمر غوائل ومضار كثيرة، تكفي كل واحدة منها لتحريمها والبعد منها،
فكيف بها إذا اجتمعت، وإننا نعد ما يحضرنا منها من غير شرح طويل.
(الغائلة الأولى) : ذهاب العقل وهبوط السكران إلى دركة المجانين
والصبيان، كأن الإفراط في حب اللذة ينفر هذا الإنسان الضعيف من كل ما يحكم
عليه بالاعتدال فيها والحذر من غوائلها، فيسعى في مقاوتمه وإن كان فيه سعادته
وكماله كما يتمنى الجناة هلاك القضاة والحكام، والأطفال البعد عن المربي القاسي
والمعلم الجافي، وعجيب ممن يعتاد السكر كيف يحتقر المجانين والأطفال، وهم ما
أعطوا العقل ثم انسلخوا منه باختيارهم كما هو شأنه، فهو أولى منهم بالاحتقار،
ولقد أحسن ذلك المجنون في جوابه للملك الذي شرب الخمر وعرض عليه أن
يشربها حيث قال: (أنت تشرب لتكون مثلي، فأنا أشرب لأكون مثل من؟)
وفاتحة المقالة كلها في هذا النوع من مضرة الخمر، وهو أصل أكثر المضرات
الأخرى، وأكثر الذين طرأ عليهم الجنون هم من السكارى والحشاشين، ومن كان
في شك فليسأل قَيِّم البيمارستان.
(الغائلة الثانية) : الخمول والخمود اللذان يعقبان زيادة التنبه التي يعدونها
من فائدة الخمرة، فأفضل حالات الإنسان أن يكون على اعتداله الطبيعي في جسمه
وعقله، وأن لا يتخذ شيئًا يزيد في قوتهما؛ لأن هذه الزيادة لا بد أن يعقبها نقص
بحكم قاعدة (رد الفعل) المعروفة، وهذا النقص يستدعي معاودة اتخاذ ما زاد القوة
أولاً؛ لأن من لم يرض بقوته المعتدلة، فأجدر به أن لا يرضى بها إذا نقصت عن
الاعتدال، وإذا عاد إلى اتخاذ ذلك السبب المقوي يرى أنه محتاج إلى مقدار منه
يزيد على المقدار الأول؛ لأن الحاجة زادت بما طرأ من الضعف برد الفعل، فيزيد
في المقدار، ويكون من أثر ذلك زيادة الضعف عقيبه، ثم لا يزال يزيد منه ويزيد
ضعفًا حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين.
ولسنا نعني بقولنا يرى أنه محتاج إلى الزيادة فيزيد، أن ذلك يكون عن فكر
وروية؛ وإنما هو شيء تقتضيه طبيعة هذا الشيء، فيكون الاندفاع إليه بعلم
ضروري لا بعلم نظري وترتيب مقدمات، وهذه الغائلة من غوائل الخمر تتحقق في
كل ما هو بمعناها من المخدرات كالحشيش والأفيون، وكذلك الدخان وقهوة البن
عند المفرطين فيهما لكن أثرهما أخف.
ومثل ذلك المقويات الجسدية التي تتخذ لتقوية المعدة أو الباه؛ فإن أثرها في
رد الفعل يضر بالجسم كما تضر المسكرات والمخدرات بالعقل، وكل هؤلاء
الحمقى يطلبون زيادة اللذة، فيقعون في النقصان بعد رد الفعل.
ترى مدمن الخمر أو الحشيش ونحوهما كاسف البال، ممتقع اللون، كئيب
الوجه، ضيق العطن، شرس الأخلاق، فالشر لا يزايله؛ وإنما يلعب به كما يلعب
الصبيان بالكرة يقذفه من جانب الإفراط إلى جانب التفريط ولا خير ولا راحة ولا
سعادة إلا في الاعتدال، وأنى لمن يتربى على مجاراة اللذة والانقياد للشهوة أن يفقه
هذا؟ وهل من سبيل إلى استقامة ميزان اللذة، وتأديب عامل الشهوة إلا بتربية
الدين؟ ؟
(الغائلة الثالثة) : فساد الأخلاق؛ فإن الأخلاق الفاضلة نتيجة اعتدال القوى
النفسية، وسلطان هذه القوى العقل وقانونه الشرع، والسكر اعتداء على هذا
السلطان وعلى قانونه ونبذ لسلطتهما، ومتى ذهب الحاكم والقانون كانت المملكة
فوضى، أي حاجة إلى تعليل إفساد السكر للأخلاق كما هو مشاهد بعد العلم بأن
ضعف العقل سبب بديهي لهذا الفساد، وهو الغائلة الأولى للخمر على ما بيَّنا، وأن
ضعف المزاج سبب له كما يشاهد في أخلاق المرضى، وهذا الضعف من غوائل
الخمر على ما نبين، السكر يُذْهِب بالعفة والوقار، ويجعل الحليم سفيهًا، والحكيم
جهولاً، والحيي وقحًا، والنزيه بذيئًا، والأمين خوانًا، والشجاع متهورًا أو جبانًا،
فهذه أمثلة من أصول الأخلاق فقس بها غيرها مما تشاهد أثره، وتعرف مصدره.
(الغائلة الرابعة) : فساد المزاج واختلال الصحة، فالإنسان روح وجسد
مرتبط أحدهما بالآخر، فما يطرأ على الأول من ضعف يتعدى أثره إلى الثاني،
وما يصيب الثاني ينتقل إلى الأول، ولهذا قال الحكماء: (العقل السليم في الجسم
السليم) وليس إفساد الخمر للمزاج محصورًا بإضعافها للروح على ما تقدم شرحه
في الغوائل الثلاث، فقد تقرر في الطب أنها تُحْدِث أمراضًا كثيرة وأدواء معضلة
كداء السل الذي أعيا علاجه أطباء العالم كله، ولا شك أن السكر يُعِدُّ المزاج لقبوله
ويكن من أسباب حصوله، وقد قيل إن سُبْع الوفيات في العالم من السل، وإن
ستين في المائة من أموات أبناء العشرين إلى الأربعين من المسلولين، وكأمراض
الكبد والقلب والرئتين والكليتين، وقد قال بعض الأطباء إن تسعة أعشار المصابين
بهذا المرض من السكارى والسكر هو السبب في مرضهم، ومنها أمراض الدماغ
والحبل الشوكي والعضلات والأوعية الدموية وفقر الدم (الأنيميا) وتلبك المعدة
وآثاره، وذلك أن شارب الخمر يكثر أكله ويقل هضمه، وأقبح أداواء الخمر الخُمار
الذي يدعو الشاب إلى المعاودة والإدمان، وهو نوع من التسمم، وثم أنواع أخرى.
(الغائلة الخامسة) : ارتكاب الفواحش البهيمية والمنكرات الوحشية،
فالسكران يفجر حتى بالأقارب؛ لأن التمييز يزول، والطبيعة تطغى، والإيمان
يذهب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو
مؤمن) فأي رادع يردع من فقد كل وازع من نفسه؟ قال الشاعر:
لا ترجع النفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
والسكران يعتدي على من لا يقدر عليه، ويحاول ما لا سبيل إليه؛ لأنه لا
يخاف عقابًا، ولا يحسب للعاقبة حسابًا.
(الغائلة السادسة) : انطلاق اللسان بما يجب السكوت عنه، كإفشاء السر
الذي هو من أقبح الرذائل وأشدها فضيحة للمرء في نفسه وأهله، ولا سيما إذا كان
من أسرار الأمراء والسلاطين، أو الدول والحكومات، فرب كلمة يقولها سكران
تكون سببًا في انكسار جيش وإذلال أمة بأسرها، وكالغيبة والنميمة والفحش والبذاء
وغير ذلك من آفات اللسان التي أوصلها بعض العلماء إلى سبعين آفة.
(الغائلة السابعة) : الإسراف والتبذير، فكم أفقرت الخمرة غنيًّا، وخربت
بيتًا عامرًا؛ وذلك لأنها تفضي إلى جميع أنواع الإسراف.
(الغائلة الثامنة) : قلة النسل فإن مدمني الخمر كثيرًا ما يُصابون بالعقم،
ومن يولد له لا يكون نسله كثيرًا، ويرث من والده أكثر أدواء السكر الجسدية
والعقلية والنفسية، فيجيء قميئًا قشعوما وأبله أو معتوهًا، فإن أعقب فولده يكون
شرًّا منه وهكذا يتدلى النسل حتى ينقرض البيت؛ ولذلك قال غير واحد من ساسة
الأوربيين وحكمائهم: إن انقراض الأمم المتوحشة سيكون بفتك الأشربة الروحية
فيهم، ذلك أنهم يشربون من غير عقل ولا قانون ولا معرفة بمداراة الصحة،
فتغتالهم غوائل الخمر كلها بخلاف أهل الحضارة؛ فإنهم يتقون تلك الغوائل بما
يعطيهم العلم؛ ولذلك يقل السكر في أمم الغرب عامًا بعد عام، وكثرت فيهم
الجمعيات المقاومة للمسكرات، ولو كان عندهم دين يتربون عليه وهو يحرم الخمر
قطعًا، لكفى تلك الجمعيات كثيرًا من العناء والنفقات، وقد ظهر أثر السكر والزنا
في تقليل النسل في فرنسا على ما فيها من علم وحكمة، والسكر والسفاح من أسباب
ذلك قطعًا.
(الغائلة التاسعة) : فساد تربية العيال والجناية على عفة النساء، سمعنا
غير واحد من الواقفين على أسرار البيوت والمراقبين سير التربية يقولون إنه لا
يكاد يوجد مدمن خمر عفيف المرأة، مُربَّى الولد، ولا يسعنا الآن أن نطيل في هذا
الموضوع.
(الغائلة العاشرة) : العداوة والبغضاء وقطع الأرحام وصلات الصداقة
والوداد، وهذا أيضًا ظاهر مما تقدم؛ لأنه نتيجة لذهاب العقل وفساد الأخلاق؛
ولذلك أخَّرناه، وهذه الغائلة أضر الغوائل الفرعية لتعدي أثرها، وهي مشاهدة
ولذلك نصت عليها الآية الكريمة.
(الغائلة الحادية عشرة) : الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويقال في هذه
الغائلة مثلما تقدم في التي قبلها من حيث هي نتيجة ومعلولة لبعض الغوائل المتقدمة
وكون هذا هو السبب في تأخيرها في الذكر، ومَن لاحظ تأثير الصلاة إذا أقيمت
على وجهها وتأثير ذكر الله تعالى في النهي عن الفحشاء والمنكر، يفهم السر في
تنصيص الآية الكريمة على هذه الغائلة الدينية.
فهذه إحدى عشرة غائلة، منها عقلية، ومنها نفسية، ومنها بدنية، ومنها
لسانية، ومنها منزلية (عائلية) ومنها مالية، ومنها اجتماعية، ومنها دينية،
ولو أردنا ن نبسط غوائل الخمرة ومضارها بالتفصيل، ونذكر ما يتفرع عما ذكرناه
ونشرحه لاحتجنا إلى تأليف كتاب ضخم، ولا بد أن نضم إلى ما ذكرناه غائلة
أخرى عارضة في مثل هذه البلاد، وهي أضر من كثير من الغوائل الذاتية وهي:
(الغائلة الثانية عشرة) : الذهاب بثروة البلاد التي يجلب الخمر إليها
الأجانب من الخارج، ويبيعونها من أهلها كالبلاد المصرية؛ فإن الخمور ترد إليها
من أوربا والذين يبيعونها كلهم من الأجانب كالروم والتليانيين، فإذا كانت قيمة
الوارد منها تقدر ببضع ملايين من الجنيهات - كما هو مشهور - وكان الربح فيها
مضاعفًا كما هو معلوم، فلا شك أن تجار المسكرات من الأجانب يأخذون من ثروة
البلاد في كل عام أكثر مما تأخذه الحكومة من الخراج والضرائب، وكل هذه
الأموال تدفعها الأمة الفاسقة باختيارها ولا تشعر به، وهي مع ذلك تطلب من
الحكومة أن تربي أولادها وتعلمهم من فضل المال الذي يتوفر في صناديقها، وترى
جل هؤلاء المتعلمين أو كلهم يطلبون أن يعيشوا بمال الحكومة بما يعملون لها،
والحكومة عاجزة عن تعميم التعليم، والأمة قادرة عليه لو اقتصدت هذه الأموال
التي تبذلها في الخمرة فقط، فما بالك بما يتبع الخمرة من الفسق والفجور.
كل هذه المضرات والغوائل معروفة للخواص، وإن كان يصعب على
الأكثرين استحضارها في وقت واحد، وبعضها معروف للعوام والتحوت أيضًا؛
ولكن أكثرهم مدمن سكر لأنه عبد الشهوة، وأسير اللذة فلا يصده عن الانهماك في
لذته خوف الله، ولا مصلحة الأمة، ولا حفظ الذرية، ولا صيانة العرض، ولا
أدب الاجتماع، ولا الحرص على المال.
أما السبب الأكبر في فشو هذا المنكر الذي هو مثار جميع ما علمت من
الفواحش والمنكرات، فهو مجاهرة الأمراء والحكام به وإطلاق الحرية لمرتكبه،
وقد مضت سنة الاجتماع في تقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج في
سوقهم يروج في أسواق الأمة، وإذا كان حديث (الناس على دين ملوكهم) لم
يُعرف له سند يصل نسبه ويرفعه، فمعناه صحيح وهو ضروري الوقوع في
الحكومات المطلقة الاستبدادية، وإننا نعلم أن أكثر أمرائنا يجعلون الخمر من
متممات الموائد الرسمية، يحيون بها ضيوفهم، ويتقربون بها إلى الأجانب، ولو
شئت لصرحت بأسماء بعض الذين يحبون الظهور بلباس الدين منهم وذكرت من
وقائعهم؛ لأنهم لمجاهرتهم لا غيبة لهم؛ ولكن لا غرض لنا بذكر الأشخاص، على
أن أكثر الناس يعرفون ذلك منهم بالمشاهدة أو بالأخبار المستفيضة والمتواترة.
وأما علاج هذا الداء الخبيث فهو التربية الدينية العملية، وما أصعب هذه
التربية في أمة فسق أمراؤها وكبراؤها، وضعف هداتها وعلماؤها، ومرض أُساتها
وأطباؤها، وبخل مثروها وأغنياؤها، وجمح مساكينها وفقراؤها.
على أننا لا نيأس من روح الله، فهو القابض الباسط الذي يغير ولا يتغير،
وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه، حتى يبلغ نصابه، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم، وإنما يغير الناس ما بأنفسهم بإرشاد المرشدين وسعي المصلحين، وتقديم
الاهتداء بهم على التزلف للأمراء والسلاطين، والله ولي المتقين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا
نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) .