(س٢٢) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : ما هي الحكمة في إنزال القرآن الحكيم؟ هل الحكمة بذلك التعبد بتلاوته كما يقول العلماء؟ وهل من نص قطعي يؤيد قولهم؟ أو لنجعله حانوتًا نبيع منه (عدية يس) ونقرأه على الموتى ونكتب آياته في آنية ونمحوها بالماء ونتعاطاها لنشفى من داء كذا أو لنقرأه للتبرك وما هو التبرك؟ ألم يكن هو فهم آياته حق الفهم، والتأدب بآدابه الكريمة، واتباع أوامره واجتناب نواهيه {ليَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: ٢٩) كما قال جل ثناؤه. أرجو الجواب على صفحات مناركم، ولكم الأجر من ربي وربكم. (ج) الحكمة من إنزال القرآن مبينة في القرآن ليس فيها شبهة لمن جعلوه حرفة، بل فيه الحجة واللعنة على من يشترون به ثمنًا قليلاً. وليس فيها نص قطعي يؤيد قولهم بالتعبد بتلاوته على إطلاقهم الذي يتناقلونه، ولكنهم يستدلون عليه بأحاديث هم يتفقون على أنها ليست نصوصًا قطعية كالأحاديث التي وردت في كون تالي القرآن يعطى بكل حرف عشر حسنات ونحو ذلك من الثواب وهناك أحاديث أخرى في وعيد من يتلو القرآن وهو غافل عن هدايته لا بد من الجمع بينها وبينها، وإننا نذكر المؤمنين بشيء من الآيات والأحاديث في الحكمة والفائدة التي أنزل الله لها القرآن؛ لأن أهل الأهواء السياسية والشخصية في مصر قد جعلوا القرآن في هذه الأيام موضعًا لأهوائهم، فكل يزعم نصره ونصر حفاظه، والله أعلم بالصادقين، ولا تخفى على الناس آيات المنافقين. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وهاك طائفة من الآيات الكريمة في حكمة تنزيل القرآن: (١) {الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: ١-٢) (٢) {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: ٢) (٣) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ} (إبراهيم: ١) . (٤) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً * قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} (الكهف: ١-٣) . (٥) {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} (طه: ١-٣) . (٦) {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:١) . (٧) {طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: ١-٣) . (٨) {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان: ١-٧) [*] . (٩) {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: ١-٥) . (١٠) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) . (١١) {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِين} (المؤمنون: ٦٨) . (١٢) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: ٢٤) . (١٣) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (ص: ٢٩) . (١٤) {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ٢٠٣) . (١٥) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: ٥٧) . (١٦) {كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: ١٢٠) . (١٧) {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: ١١١) . (١٨) {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (الرعد: ٣٧) . (١٩) {هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (إبراهيم: ٥٢) . (٢٠) {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: ٤٤) . (٢١) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} (النحل: ١٠٢) . (٢٢) {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: ٩) (وفي هذه السورة آيات أخرى فيها عبر كبرى) . (٢٣) {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ} (مريم: ٩٧) . (٢٤) {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: ٢١) . والآيات في هذه المعنى كثيرة، وكلها ناطقة بأن القرآن أنزل هداية للناس وبشيرًا للمحسنين في أعمالهم ونذيرًا للمسيئين، وأنه عبرة وتذكرة وموعظة وشفاء لما في الصدور أي القلوب من أمراض الجهل بالله، وبما له على عباده من الحقوق وما لبعضهم من ذلك على بعض، وأمراض الأخلاق السيئة والعادات الضارة. وهناك آيات كثيرة في وعيد المعرضين عن هدايته الغافلين عن تدبره والذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، وكون هذا من صفات الكافرين، ومن أشد ما نزل في المؤمنين الأولين على علو كعبهم، وقوة يقينهم، من قوله تعالى في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: ١٦) ذكر الله (وما نَزَلَ من الحق) هو القرآن. قال في الجلالين: إن الآية نزلت في الصحابة لما أكثروا المزاح، وقال السيوطي في أسباب النزول: إنها نزلت فيهم بعد أن قدموا المدنية فأصابوا من عيشها بعد ما كان بهم من الجهد وكأنهم فتروا في العمل. فهذا هو القرآن وهذا وعظه وتربيته للمؤمنين فانظر إلى حفاظه اليوم وإلى الذين يزعمون أن من تعظيمه وتكريمه أن يكون حافظه أميًّا لا يكلف قراءة ولا كتابة ولا فهمًا ولا عقلاً ولا تدبرًا ولا تذكرًا ولا تفكرًا بل يكلف أن يتلوه ولو بغير تجويد، وأن يأكل به أوقاف الأموات ومال الأحياء، أين هم من هدايته وأين هم مما جاء به؟ وأما الأحاديث الواردة في القرآن فمنها ما ورد في حفظه وتعلّمه وتعليمه، وهذا مطلوب لأمرين: أحدهما: فرض عيني، وهو معرفة العقائد الصحيحة والآداب الكاملة، وفقه الأعمال التعبدية والدنيوية التي فصلت السنة كيفياتها أو بينت صورها. والثاني: فرض كفاية، وهو تبليغه وحفظه لأجل تبليغه بلفظه على الوجه الذي أدى إليه وبمعناه في الدعوة إلى ما دعا إليه من العقائد والأحكام والفضائل ليكون الدين بذلك محفوظًا، ولا ينسى أن الترغيب في قراءته وحفظه يستلزم الترغيب في فهمه والاهتداء به؛ لأنهم كانوا يفهمونه، بل ذلك مما يتضمنه الترغيب بلفظه. ومنها ما ورد في وعد العاملين به ووعيد المعرضين عنه والواجب فهم مراد الشارع من مجموع كلامه؛ فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وهذه طائفة من الأحاديث في ذلك. (١) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - قال (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والمراد بالعمل مثل ما يعمل فلان في الأولى هو العمل بالقرآن كما تدل عليه المقابلة، ورواية ابن عمر في الحديث نفسه (فقام به آناء الليل) إلخ. قالوا: والمراد قام به تلاوة وطاعة. وفي الحديث رواية أخرى أَبين في المراد، وهي عند البخاري ومسلم وغيره، وفيها بدل أوتي القرآن (رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها للناس) والمراد بالحكمة القرآن جمعًا بين الروايات. (٢) عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري وغيره وفي رواية عنه (إن أفضلكم) إلخ. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي؛ ولهذا كان أفضل، وهو ممن عنى الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: ٣٣) والدعاء إلى الله يقع بأمور: جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} (الأنعام: ١٥٧) فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه، قلت: لا؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس؛ لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدردها مَن بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئًا محضًا لا يفهم شيئًا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم عناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً. قلنا: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فيمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل،فلعل (من) مضمرة في الخبر بعد (إن [١] ) ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خُوطبوا بذلك وكان اللائق بحالهم ذلك أو المراد من المتعلمين من يُعلِّم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية [٢] لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن. وكيفما كان هو مخصوص بمن تعلم وعلَّم حيث يكون قد علم ما يجب عليه عينًا اهـ. (المنار) هذا كلام الحافظ في معنى الحديث وفيه بيان مراد الثوري بتفضيل إقراء القرآن على الجهاد؛ إذ لا يمكن أن يكون من لا يفهم القرآن ولا يفيد الناس أحكامه كالمجاهد في سبيل الله، فانظر أين هذا من زعم بعض الناس أن أمثال الحافظ للألفاظ في مصر أفضل من المجاهدين بالإجماع فما أجرأ الناس على دعوى الإجماع بغير علم اعتمادًا على أن العامة تقبل منهم كل قول بغير دليل. (٣) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم - أي لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوه منه - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ... إلخ، رواه البخاري. (٤) عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مر) رواه البخاري ومسلم، وأنت ترى أنه جعل المؤمنين قسمين قسمًا يقرأ ويعمل بما يقرأ وهو النافع لنفسه ولغيره أو الذي هو طيب في ظاهره وباطنه وإن كان لا ينتفع بظاهره، ولم يذكر أن من المؤمنين قسمًا آخر وهو الذي يقرأ فقط بل عدّ هذا من المنافقين. فانظر أين علم الرسول صلى الله عليه وسلم من علم هؤلاء الذين يقولون: إن حفاظ الألفاظ الذين لا يقصدون بها الاهتداء ولا الإرشاد بل الكسب والاستجداء أئمة في الدين، وإن من إهانة القرآن أن يقال: إنهم يحتاجون معها إلى العلم بالقراءة والكتابة أو شيء آخر!!! أعوذ بالله من شر هذا الزمان، الذي عبث فيه الجاهلون بالسنة والقرآن. (٥) عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي فقال: (اقرءوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أبو داود والبيهقي في (شعب الإيمان) والمعنى: أن الذين يجيئون من بعده يقيمون ظاهر اللفظ من غير طلب لإقامة عقائد الدين وأحكامه وهدايتهم به، فهو كالذي يقوم القدح وهو بالكسر السهم الذي لا ريش له ولا نصل فلا تمكن المناضلة به. ومعنى يتعجلونه ولا يتأجلونه: يطلبون الانتفاع به والأجر عليه في الدنيا لا في الآخرة. وهذا الحديث يصدق على القراء لأجل الكسب في هذا الزمان، وأوضح منه انطباقًا عليهم الحديث الآتي. (٦) عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق، ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) رواه البيهقي في (شعب الإيمان) ورزين في كتابه. والذين يعجبهم شأنهم هم الذين يطربون بقراءتهم أو يستأجرونهم لها والذين يرون الفضيلة والخدمة للإسلام في تكثير سوادهم وشدة احترامهم. (٧) عن جابر - رضي الله عنهما - مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقرءوا القرآن وابتغوا به الله - تعالى - من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أحمد وأبو داود. (٨) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرأ القرآن ما نهاك؛ فإن لم ينهك فلست تقرؤه) رواه الديلمي في مسند الفردوس. (٩) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرءوا القرآن واسألوا به الله قبل أن يأتي قوم يقرءون القرآن فيسألون به الناس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني. (١٠) عن صهيب - رضي الله عنه - مرفوعًا (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) رواه الترمذي. (١١) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا (من أخذ على القرآن أجرًا فذاك حظه من القرآن) رواه أبو نعيم في الحلية. (١٢) عن بريدة -رضي الله عنه- مرفوعًا (من قرأ القرآن يتأكل به الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم) رواه البيهقي. (١٣) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -مرفوعًا (من أخذ على تعليم القرآن قوسًا قلده الله مكانها قوسًا من نار جهنم) رواه البيهقي وأبو نعيم في الحلية. والطبراني بلفظ آخر، والروايات في القوس متعدد، وكان أُهْدِيَ مقرئ قوسًا فأخذها. (١٤) عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: (من أخذ على تعليم القرآن أجرًا؛ فقد تعجَّل حسناته في الدنيا والقرآن يحاجه يوم القيامة) رواه أبو نعيم. (١٥) حديث أبي هريرة المرفوع في الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وفيه: (أنه يقول لله تعالى يوم القيامة تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، وأن الله تعالى يقول له: كذبت إنما تعلمت ليقال: إنك عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ ثم يسحب على وجهه ويلقى في النار) والأحاديث في العمل بالقرآن وابتغاء وجه الله تعالى به كثيرة ومنها ما فيه ترغيب في البكاء فنكتفي بهذا القدر، ونذكر جملة في ذلك من سيرة السلف الصالح الذين كانوا مهتدين بالكتاب والسنة. جاء في كتاب إحياء علوم الدين الفصل الآتي: في ذم تلاوة الغافلين
قال أنس بن مالك: رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه، وقال ميسرة: الغريب هو القرآن في جوف الفاجر، وقال أبو سليمان الداراني: الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله -عز وجل- منهم إلى عبدة الأوثان حيث عصوا الله سبحانه بعد القرآن. وقال بعض العلماء: إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلط ثم عاد فقرأ قيل له: ما لك ولكلامي، وقال ابن الرماح: ندمت على استظهاري القرآن؛ لأنه بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة، وقال ابن مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا، ولا مماريًا ولا صيَّاحًا ولا صخَّابًا ولا حديدًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي هذه الأمة قرّاؤها) . وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرؤه) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا آمن بالقرآن مَنْ استحل محارمه) وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها، وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها فقال العلماء: إن البعد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: ١٨) وهو ظالم لنفسه، ألا {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} (آل عمران: ٦١) وهو منهم، وقال الحسن: إنكم اتخذتم قراء القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً، فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوا رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار، وقال ابن مسعود: أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملاً، وإن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفًا وقد أسقط العمل به وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما لقد عشنا دهرًا وأحدنا يؤتى الإيما قبل القرآن: فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم رأيت رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره الدقل، وقد ورد في التوراة: (يا عبدي، أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفًا حرفًا حتى لا يفوتك شيء منه وهذا كتابي أنزلته إليك، انظر كم فصّلت لك فيه من القول؟ وكم كررت عليك فيه؟ لتتأمل طوله وعرضه، ثم أنت معرض عنه، أفكنت أهون من بعض إخوانك؟ يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك؛ فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف، وها أنا ذا مقبل عليك ومحدِّث لك وأنت معرض بقلبك عني أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك؟) اهـ. وأما علماء الخلف وأئمتهم فهم متفقون مع السف على ذلك قال الإمام محيي الدين النووي في آداب حملة القرآن ما نصه: (فصل) وينبغي أن لا يقصد به توصلاً إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع عن أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك، ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالاً أو خدمة، وإن قلّ ولو كان على صورة الهدية التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه، قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى: ٢٠) ، وقال تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} (الإسراء: ١٨) الآية. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه أبو داود بإسناد صحيح. ومثله كثير إلخ. وقال: (فصل) ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته واشتهرت صيانته. ونكتفي بهذا القليل من الكثير في هذا المقام. (النتيجة) علم مما تقدم من الآيات والأحاديث، وآثار السلف الصالح أن القرآن هو الهداية العظمى، وأن حَمَلته وحُفَّاظه هم أئمة المسلمين ومرشدوهم ولذلك أمر عمر - رضي الله عنه - أن لا يقرئ الناس القرآن إلا عالم بالعربية ليقيم اللفظ فلا يسري إليه الخطأ والغلط، ويفهم المعنى فيعمل به ويعلم الناس. وقد كان المشتهرون من الصحابة بإقراء القرآن أكابر علمائهم كعلي وعثمان وأبيّ وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري. وممن قرأ على أُبيّ أبو هريرة وابن عباس. فينبغي الاقتداء بالسلف بأن يكون حفاظ القرآن الذين يؤخذ عنهم هم الذين ينقطعون لإتقان علوم القرآن اللفظية والمعنوية فيتقنونها. ولا يجوز أخذ القرآن عن الجاهلين باللغة وبأحكام الدين والمرتكبين للمحرمات والدناءات؛ لأنهم ليسوا عدولاً يوثق بروايتهم.