ومانع الزكاة من الإيمان [*] جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله أنعم علينا بالإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قام بتبليغ الدين خير قيام. أما بعد فإن الصلاة والزكاة أهم أركان الدين، وأعظم الشعائر للمسلمين، بهما تزكية النفوس، وصلاح حال الجمهور. جمع الله تعالى كل الخير فيهما؛ لأن من اتصف بهما يتصف بكل فضيلة سواهما. فمن تركهما فلا حظ له في الإسلام، ولا الإيمان، فهلمّ اسمعْ في ذلك نصوص القرآن. ولأقدم لك تعريف الصلاة والزكاة، ومقصود الشارع الحكيم منهما، على طريق السؤال والجواب، عسى أن تأنس به، وترتاح نفسك إلى تدبره، فأعرني سمعك، واستعمل عقلك. س: ما حقيقة الصلاة؟ ج: هي مناجاة الله تعالى، وذكره، ودعاؤه، والخضوع له بالصفة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم. س: لم جُعلت الصلاة بالكيفية المخصوصة، ولم تُترك إلى اختيار المؤمنين؟ ج: لئلا يتشعب الخلاف بين الناس فيها، فيفوت غرض الدين من اتحادهم عليها، المساعدِ لهم على الاتحاد في غيرها. فالناس كلما كثر ما يشتركون فيه كان اتحادهم عليه أقوى، وانجذابهم بعضهم إلى بعض أقرب وأمتن. س: ما دليل وجوبها، وحكمة مشروعيتها؟ ج: قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: ٤٥) . س: كيف تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ج: انظر إلى نفسك حين تواجه القبلة، وتتهيأ لإقامة الصلاة، فتستفتحها بقولك: الله أكبر، ألا تراك مُلِئت خشية لذكرك ربك وكبرياءه، وغشيتك السكينة لوقوفك بين يدي سيدك مستصغرًا كل شيء دونه، وغاضًّا الطرف عما سواه. فإذا قرأت الفاتحة ذَكَّرتك معانيها بإلهك الذي خلقك بقدرته، وربك الذي رباك على نعمه - رباك لا ليستبد بك، ولا لينتفع منك، بل ليجعلك موضع رحمته، ومحل وإحسانه، وهناك ترى سيدًا عظيمًا، ومالكًا للجزاء وحيدًا، جميع الكون في قبضة يده، وكل العالم تحت تصرفه وقهره، لا إرادة فوق إرادته، ولا ينفع أحد أحدًا عنده، فبينما أنت ترجو رحمته، إذا بك تخاف عذابه، قوته فوق الأسباب، فلا تجد ملجأ إلا إليه، ولا تستعين إلا به، فهو الذي يهديك طريقه المستقيم، ويأخذ بيدك فيه، ما دمت فيه، مرافقًا لأهله الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، بعيدًا عن طرق المعاندين، والحيرانين، المغضوب عليهم والضالين، أضف إلى ذلك ما في ركوعك وسجودك، وقيامك طوع أمره وقعودك، كل هذا يا مقيم الصلاة يؤثر فيك تأثيرًا، ويأخذ منك مأخذًا كبيرًا، فلا تلبث أن تتربى في نفسك ملكة المراقبة لله، تثبتك على صراطه، وتقيك الوقوع في عصيانه، فإذا مسَّك طائف من الشيطان، أو دعاك داعٍ من الشهوة إلى العصيان، ناداك صوت من ضميرك: اذكر ربك واتقه، واحذر أن يراك حيث نهاك! فإذا أنت من المبصرين. س: يظهر من هذا أن المرء إذا حافظ على إقامة الصلاة تصفو نفسه وتحسن أخلاقه؟ ج: من غير شك، وذلك هو مقصود الدين من تكرار الصلاة كل يوم خمس مرات، وتدبر القرآن فيها. وقد علمت أن الله لم يسقطها عن المؤمنين، وهم في مقاتلة أعدائهم، ولا عن المرضى، وهم في موتهم، وما ذلك إلا لحاجتهم إليها، وعدم استغنائهم عنها، فإنها تشجعهم، وتجعلهم أكثر تحملاً للمشاق، وأقوى صبرًا على الشدائد، وأقرب إلى الرجاء، وأبعد عن اليأس. س: صلينا كثيرًا فلماذا لم تنهنا صلاتنا عما نحن فيه من المنكرات؟ ج: سبب ذلك أننا لم نلاحظ المقصود منها، فغفلنا عن التدبر والخشوع فيها فما لنا من الصلاة الآن إلا اسمها، وليس في مساجدنا منها إلا صورتها ورسمها. وإن شئت فقل: إنها أصبحت عندنا عادة من العادات، التي يقلد فيها الولد أباه، وغيره ممن ينشأ فيهم. وقد وصل الجهل بناس إلى أن يتركوا الصلاة طول حياتهم، اعتمادًا على أنه يمكن إسقاطها عنهم بعد مماتهم بالطريقة المشهورة بإسقاط الصلاة - ذلك بأن يؤتى بمن يسمونهم فقهاء، وهم قراء القبور، الذين اتخذوا القراءة على القبور، والصياح في الجنازات بنشيد البردة وغيرها صناعة، فيحسبوا ما ترك الميت من الصلوات في سني عمره، ثم يطاف عليهم بصرة فيها عدد من النقود، فيقبل كل منهم أن يتحمل عددًا من تلك الصلوات عن الميت نظير مبلغ يأخذه مما في الصرة، حتى إذا تحمل الجميع ما على الميت من الصلوات فرق عليهم عدد النقود، وبهذا يزعمون أن الصلاة سقطت عن الميت، وأن الله عفا عمن تحملوها. وفي هذا من العجب ما ترى، وقد ذكرته ليظهر لك كيف يؤدي الجهل بحكمة الله إلى إضاعة شرعه، والاستهزاء بدينه، وكأن هؤلاء لم يعقلوا أن تارك الصلاة قد صدئت نفسه، وتلوثت روحه، فلم يعد يستحق مقام الكرامة، و {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٨-٣٩) فهل للقبوريين عهد من الله أن يقبل منهم ما يقبلون، ويحط عنهم ما يتحملون؟ فرحماك اللهم! فإن القوم لا يعلمون وعساهم عن ذلك يرجعون. س: عرفنا الصلاة، فما معنى الزكاة؟ ج: الزكاة جزء من مال الأغنياء، يصرف في مصالح المسلمين، كالفقراء والمساكين، وأبناء السبيل، والغارمين، وغير ذلك من مهمات الدين. س: ما دليل وجوبها، وحكمة شرعيتها؟ ج: قال الله تعالى في سورة براءة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: ١٠٣) . س: ما معنى التطهير والتزكية بها؟ ج: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: ٦-٧) فكلما كثر جمعه للمال، زاد حبه له، وطمعه فيه، حتى لا يُؤْثِر شيئًا عليه، ولا يكون له هم في سواه، فتنقطع العلائق بينه وبين الله، فتخبث نفسه، فيكسب المال من أي وجه حلالاً كان أو حرامًا، فإذا هو جعل نصيبًا من ماله لله على حبه إياه، استحى أن يكسبه من طريق يبغضه الله، وكان حب الله في نفسه متغلبًا على حب المال، فهذا ينظف النفس من الأرجاس العالقة بها، ويزكيها بإنماء الفضائل فيها. وهذه تزكية روحية، وهناك تزكية أدبية اجتماعية - وهي أن الأغنياء الذين يقبضون أيديهم عن الفقراء يُعَرِّضون أموالهم للسلب، وأعراضهم وأنفسهم للإهانة؛ لأن الفقراء يبغضونهم، ويكيدون لهم، وإذا اشتد الجوع بهم، ولم يجدوا وسيلة لسد الرمق إلا بالاعتداء على الأموال والأنفس اعتدوا، ولا يخفى ما في ذلك من اختلال الأمن، وتزعزع النظام، فيمسي الأغنياء ويصبحون لا يهدأ لهم بال، ولا يرتاح لهم ضمير، فيموتون أو يموت الفقراء جوعًا وذلاًّ، وكل ذلك - كما تعلم - سبب في ضعف الأمة، وانقراضها، فإذا هم بذلوا، وأنفقوا، حفظوا حياتهم، وهدءوا روعهم، وجعلوا الفقراء إخوانهم، يهتمون لهم، ويتعاونون معهم، فببسط أيديهم يتبدل ضعفهم قوة، وتنقلب قلتهم كثرة، أضف إلى ذلك ما يتوفر للأمة فيصرف في منافعها العامة، ومصالحها المدنية، وما يعود عليها من بسط الأمن في ربوعها، وتوثيق عرى المحبة بين أفرادها، وحسبك دليلاً على ذلك أن المسلمين لما تهاونوا في إخراج الزكاة انحلت رابطتهم، وتأخرت مدنيتهم. س: إذا كان في الزكاة ما ذكرت من رابط الود بين الأفراد، ومن مصالح جماعة الأمة، وكانت بذلك من أعظم أركان العمران، فما بالنا نرى الإفرنج وقد استبحرعمرانهم ليس عندهم زكاة مثلنا؟ ج: لعلك لم تنظر إلى ما عندهم من الجمعيات الخيرية، والملاجئ، والمستشفيات المجانية، وغير ذلك مما يُقصد به تحسين حال الأيتام والفقراء، وغير ذلك من المنافع، والمصالح، وهل هذا إلا بمعنى الزكاة عندنا؟ وهل تقوم لأمة قائمة من غير أن يكون فيها هذا الركن الاقتصادي العمراني الجليل؟ ألا تعجب حينما ترى الإفرنج يعرفون قيمة هذا الركن، وقومنا عنه غافلون؟ ألا يزيد عجبك عندما تسمع مقلدة الفقهاء يُعَلِّمُون الناس إسقاط فرضية الزكاة بما يوحي إليهم الشياطين من الحيل؟ ولعلك شاهدت كثيرًا ممن تجب عليهم زكاة المال يأتي قبل الحول الذي تجب بحلوله الزكاة؛ فيتنازل لامرأته عن ماله، ثم بعد أن يفوت الحول يستوهبها إياه، ويزعم أنه بذلك قد خرج عن دائرة المالكين فلم يُكَلَّف وأن حيلته صحت عند الله. وأغرب من ذلك أن الرجل يضع زكاة ماله نقودًا في داخل كمية من الحبوب، ويأتي ببعض المستحقين فيعرض عليه تلك الكمية من الحبوب من غير أن يريه المال المدفون فيها، فيقول له: هذه زكاة مالي فاقبلها، وبعد قبوله إياها يبتاعها منه بضعف ثمنها، فيفرح المسكين، ويرجع المكلف بدفع الزكاة زاعمًا أنه قد تخلص منها، ولم يعد يُسأل عنها. فيا حسرة على هؤلاء الذين فضلاً عن تضييعهم للشريعة، وقضائهم على أحكامها، قد هزئوا بربهم، وسخروا بخالقهم، فاكتسبوا جريمتين بعملهم هذا، إحداهما تضييع دينه، والأخرى الاحتيال عليه، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (إبراهيم: ٤٢) يوم يتقاضاهم الفقراء والمساكين، ويحكم الله بينهم وبين المستحقين، يوم يحمى على أموالهم في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ويقال لهم: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: ٣٥) . حكم تارك الصلاة والزكاة: س: حسبنا ما وقفنا عليه من معنى الصلاة والزكاة، وما وراءهما من المنافع وما انطوتا عليه من الحكم، فما حكم تارك الصلاة، أو مانع الزكاة؟ ج: كلاهما مُعْرِض عن الإسلام هادم لأعظم أركانه، وقد ذهب جماهير العلماء إلى وجوب قتله إن لم يتب - قيل كفرا وقيل عقوبة - وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال مانعي الزكاة، والخلاف في كفر تارك الصلاة أقوى. س: كيف يعد تارك عبادة من عبادات الإسلام مرتدًّا عن الدين، تاركًا له؟ ج: لأن الإسلام ليس له معنى إلا الانقياد لله تعالى، فيما يزكي النفوس، ويصلح الاجتماع، وذلك إنما يتجلى في الصلاة والزكاة - كما علمت - وغيرهما تابع لهما، بل من أقام الصلاة وحدها، أقام كل أمر بعدها. س: هذا صحيح وفهمناه مما سبق، فأين الأدلة على أن تارك الصلاة، أو مانع الزكاة خارج عن الملة الإسلامية؟ ج: ذكر الله سبحانه الصلاة، والزكاة في أكثر من خمسين موضعًا من كتابه، وكلها يدل على الاهتمام بهما، وبناء الإسلام عليهما، غير أننا نكتفي هنا بذكر الصريح من الآيات في موضوعنا فنقول: ما جاء في الصلاة وحدها: من ذلك قوله تعالى في سورة الروم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (الروم: ٣٠- ٣٢) الآية، وفي قراءة (من الذين فارقوا دينهم) ، فانظر كيف أراك عز شأنه أنه لا يعدل عن إقامة الصلاة إلا المشركون [١] ، ولا يتصف بها إلا المتقون، من أقامها صاحب الدين، ومن لم يقمها فارق الدين، فهي الصفة المميزة، والحد الفاصل بين المسلم والمشرك. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))