وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية* (٣)
وإنه لتقل أمثلة تلك الجرأة والشهامة والشجاعة التي أبداها طول هذه المدة، فإنه مازال قبل سجنه يدعو الحكومة إلى القبض عليه بمخالفتها ونبذ طاعتها فما حذرت عملاً من الأعمال الوطنية إلا وبادر إلى إعادته صائحًا (إن كان هذا العمل جناية وذنبًا عند الحكومة، فها أنا ذا فاعله، فلتعاقبني!) ولكنها ما زالت تغض الطرف عنه وتهاب جانبه؛ لأنها تعلم أن الأمة كلها معه، وأن التعدي عليه يزيد الطين بلة. غير أنها اضطرت أن تسجنه أخيرًا للائحة سنتها وليس في وسعها سحب قوانينها المعلنة ولا أن تسكت عن نابذيها. المحاكمة والخطاب إن خطاب هذا الزعيم سيسجل في تاريخ الحرية والجهاد للأمم، إذ هو آية عظيمة من آيات الصدع بالحق وتشنيع الباطل وتقبيح الاستبداد، ومَثَلٌ عالٍ للجرأة والشجاعة والثبات علي الحق كالجبال الراسيات، ولا سيما الأمور الآتية منها، التي تستحق الاعتبار والتدبر فيها، وهي: (١) أن تاريخ الجهاد الوطني في كل البلاد يروي لنا أن الناس كانوا بادئ ذي بدء يجاهرون بمقاومة القوات المستبدة والحكومات الجائرة بكل جرأة وشجاعة، حتى إذا أخذتهم الحكومة وأرادت معاقبتهم، يجتهدون في تبرئة أنفسهم، فإما أن يقولوا عن أعمالهم: إنها كانت قانونية، لاجئين إلى تلك القوانين التي شهدوا بجَوْرِها، وإما أن يؤولوا أعمالهم بتأويلات تخفف جنايتهم في نظر المعاقبين، والناس عامة لا يرون في ذلك بأسًا، فيجوزونها قائلين إن هذه سياسة وخدعة و (الحرب خدعة) فلا بأس أن يحافظ الإنسان على نفسه، ويدفع عنها شر الأعداء بكل ما أمكن. ولكن صاحب الخطاب سلك مسلكًا آخر، فصرَّح في خطابه بأنه ليس من الحق والصدق أن ينكر الإنسان أمرًا صحيحًا وحقيقة ظاهرة، فإن الحكومة كانت o أخذت عليه أنه ينفر الناس عنها ويقول في خطبه: إنها ظالمة جائرة، ويحرِّضهم على مقاومتها ومحاربتها، فلم ينكر شيئًا من هذا، بل اعترف به جميعًا بكل جرأة وصراحة، بل قال أكثر مما نسب إليه. (٢) قال في خطابه: إن النزاع قد قام بين الحق والباطل، وإن الباطل سيفعل ما كان يفعله أمس بالحق وأصحابه، فيجب على أولئك الذين رفعوا أصواتهم في حماية الحق مع علمهم بقوة الباطل وشدة شكيمته أن يتحملوا بدون أدنى وجل ولا اضطراب تلك النتائج التي لا مناص منها في هذه السبيل، وإن كانوا يشكون ويتململون فليس لهم أن يدخلوا في هذه المعمعة الخطرة. (٣) قد صرح أمام القضاة بكل ما كان يصرح به أمام الأمة بدون أدنى خشية ولا وهن، في ساعة كانت حياته بيدهم وكل كلمة من أفواههم كانت كافية للقضاء عليه، غير أنه لصلابته في إيمانه ورسوخه في التوكل على الله وحده، لم يبال بهذا الخطر العظيم المحدق به، بل احتقره وآثر الحق على نفسه وحياته! (٤) إن العبرة الكبيرة التي أُوجِّه نظر المطالعين إليها هي أن الأمة والجماعة تتأثر من الأسوة العملية أكثر من الخطب والمواعظ، فإنها عندما ترى أمام أعينها الأمثلة الصادقة للشجاعة والحرية والاستقامة وعدم الخوف، يتجدد فيها هذا الروح، فعلى زعماء الأمم وأبطالها أن يقدموا أمثلة لإيثارهم وثباتهم كهذا المثل وإلا فلا طائل تحت بلاغة الخطابة وإعادة الدعاوى والألفاظ. *** إلى إخواننا في الشام والعراق ومصر وسائر البلاد الإسلامية إخواني: إن هذه نبذة يسيرة من تلك المساعي التي تبذلها الهند لصون الخلافة الإسلامية واستقلال بلادكم الإسلامية والعربية، على معارضة الموانع الآتية: (١) إن الهند تبعد عن هاتيكم البلاد بعدًا شاسعًا وتحول بينهما البحار الزاخرات. (٢) إن أهل الهند لا يضرهم احتلال هاتيكم البلدان واستعمارها ضررًا ماديًّا، ولا ينفعهم استقلالها نفعًا شخصيًّا، بل إن مصالحهم المحلية ومقاصدهم الوطنية تقتضي الإعراض عن غيرهم، والسعي لاستقلالهم أنفسهم. (٣) إنهم فوق هذا يئنون تحت نير الاستعباد، ويقاسون الشدائد بيد الاستبداد، وإن الدولة التي تملكهم نفس تلك الدولة التي حاربت بلادكم وتريد الاستيلاء عليها، فسعيهم ضدها محفوف بالأخطار، ومجلبة للأهوال. بيد أنهم لمجرد واجبهم الإنساني والشرقي - وأكبر منهما واجب الأخوة الإسلامية وحماية المظلوم - لم يستطيعوا القرار في راحتهم وبيوتهم، بل اضطروا إلى منازلة أقوى دول الأرض لأجلكم ولحرية بلادكم! أفليس في هذا عبرة وموعظة لكم، أهل البلاد الإسلامية والعربية؟ البلاد التي: (١) حريتها واستقلالها وحياتها وشرفها القومي والوطني في معرض الهلاك. (٢) لم تكن مستعبدة لأوربا، بل كانت لها حكومة إسلامية شرقية، ومهما تكن سيئاتها كثيرة، فهي على كل حال كانت حكومة قومية وإسلامية، وظلمها وغدرها وميلها كان أحسن وأولى من عبودية الأجانب. (٣) هي نفسها كانت في الحرب فريقًا محاربًا، وكان الشرع والعقل يوجبا عليها أن تغض النظر عن مصائبها الداخلية وتحارب العدو الخارجي وتدفع شره، ولكنها ماذا فعلت؟ إن التاريخ سيقص قصتها بكل خجل وحياء!! فإنها لم تكتف بالقعود عن أداء فرضها الديني والوطني والإنساني، بل واسوأتاه! كثير من أبنائها انضموا إلى العدو، فساعدوه علي مطامعه وكانوا سببًا لانكسار آخر الدول الإسلامية وانقراضها، حتى إن رجلاً قرشيًّا هاشميًّا قاد جيوش الحلفاء إلى (بيت المقدس) فنزعه من إخوان دينه وسلمه إلى أعدائه! لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في قلب إسلام وإيمان! أفلم يأت إلى الآن وقت قمع المطامع الشخصية والأهواء الباطلة؟ أفليس هذا أوان الرجوع إلى الله، ورتق ما فتق، وسد ثُلْمَة الإسلام، واتحاد الكلمة، والذود عن البلاد الإسلامية والعربية؟ أفلم يأن للمسلمين أن يعودوا إلى رشدهم، ويصلحوا ما أفسدته أيديهم؟ {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: ١٢٦) إن مسلمي الهند ليسوا بمجانين حتى يرغبوا في أن يكون أهل بلاد العرب والشام عبيدًا للأتراك، ولكن ليس معنى التحرير من ربقة الترك، العبودية لبريطانية وفرنسة باسم الوِصَاية أو الحماية، فيجب على إخواننا أن يغنموا هذه الحقيقة. إنه لا يمكن لأمة أن تصون حريتها ما لم تكن وراءها قوة عسكرية، والأتراك مهما تكن سيئاتهم وذنوبهم، فالحقيقة التاريخية أن قوتهم العسكرية هي التي حافظت إلى الآن على الأجزاء الباقية من البلاد الإسلامية وردت عنها كيد الأعداء، وإن العراق والشام إن نالتا اليوم الحرية التامة، لا تستطيعان المحافظة عليها لفقدان قوة عسكرية منظمة منهما، فإذًا لا مناص لهما ولغيرهما من البلدان الإسلامية من أن تتحد وتتفق وترتبط بقوة مركزية، مع حفظ حريتها المحلية واستقلالها الداخلي، وإلا فلا نجاة لها من الحلفاء. إن الحرية الوطنية إنما تصونها وتضمنها القوة، لا الوعود والعهود والمعاهدات والمؤتمرات، فإن الغرب لا يبالي بشيء منها بل إنما يهاب القوة، والقوة وحدها تجعله يحترمها - فعلى أهل البلاد الإسلامية أن يتحدوا ويتعاونوا ويتناصروا ويرتبطوا بالقوة المركزية الإسلامية، ثم ليعملوا لطرد الأعداء من أوطانهم - إن أحبوا - بلائحة (اللاتعاون السلمي) الهندية بعد أن يجعلوها ملائمة لحالتهم الاجتماعية والسياسية [١] . *** مجلة المنار الغراء خصصتُ مجلة (المنار) الغراء بنشر هذا الخطاب؛ لأنها الخليقة بمثله لأياديها البيضاء في الإصلاح الديني وقَدَحِها المُعَلَّى في النهضة الإسلامية الحديثة، فإنها لا تزال تجاهد جهادًا عظيمًا منذ ربع قرن لإحياء المسلمين، وتقاوم الاستبداد والقهر والجمود والتقليد من زمن بعيد، بل إنها أول صوت ارتفع على بعد أجيال كثيرة لإعلاء كلمة الحق، وأعظم منار رفع للهداية إلى الصراط السوي، فإنها هي التي قد مزقت ظلمات التقليد التي كانت محيطة بالمسلمين، وبصرتهم سبيل الإسلام ودين الحق التي كانت عميت عليهم، ولم يكن هديها محصورًا في البلاد العربية، بل شمل العالم الإسلامي كله، فإنه كثيرًا ما استفاد منها وتنور بأفكارها، وإن صاحب هذا الخطاب - الذي وضعنا له هذه المقدمة - لا يزال يعترف لها ويعدها أصح دعوة إصلاحية ظهرت بين المسلمين في القرون الأخيرة. اهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد الرزاق)