(٥) سوريا قبل الفتح العربي أراد صاحب مقالات (سوريا والإسلام) أن يثبت أن التعصب لم يكن في سوريا قبل الفتح الإسلامي , فذكر أن تلك الشعوب العظيمة التي عاشت هناك منذ أول عهد التاريخ حتى انقراض الدولة الفينيقية كانت الحروب بينها وبين الفراعنة مستمرة، وكانت سجالاً , والغالبة تأخذ الجزية من المغلوبة، ولكن لم يكن ذلك لأجل الدين، بل لأجل السلطة والعظمة. ثم ذكر أن الإسرائيليين الذين هجموا على فلسطين هجوم العرب على سوريا (حاولوا) أن يلبسوا حروبهم صبغة دينية , لكن قبائل الكنعانيين والحيثيين والأموريين واليبوسيين وغيرها حاربهم دفاعًا عن الوطن، وعن الحرية والاستقلال. ثم ذكر أن (هذا التعصب والثوب الديني الذي (حاول) الإسرائيليون أن يلبسوه لحروبهم , وأن يضموا به جامعتهم وينهضوا مملكتهم) ما لبث أن تمزق بعد سليمان، ثم بلي. ما أعجب شأن هذا الكاتب، وما أشد تعصبه لما يعلم أو لما لا يعلم! كان بالأمس يمثل بديانة بوذه للدين الصحيح الذي لا حرب فيه، ويستدل على أنه شارع محق، ولا يذكر موسى ولا شريعته عند التمثيل للديانات الصحيحة، بل يعرض بأنها باطلة , وهو اليوم يفضل تلك القبائل الهمجية الوثنية التي كانت تقيم في سوريا قبل الفينقيين على شعب إسرائيل شعب الله كما يفضل عليهم فراعنة مصر وأهلها الوثنيين، ويفضل عليهم أيضًا تلك القبائل الوثنية التي كانت في بلاد فلسطين , وإن كان الله قد فضل شعب إسرائيل على هؤلاء أجمعين ونجاه من سلطة بعضهم , وجعل له السيادة على الآخرين. كل هذا يخالف دينه واعتقاده وهكذا يفعل الغلو في التعصب حتى يجني الغالي على ما يتعصب له! ! أي مزية لقبائل (نيفليم) و (أميم) و (رفايم) و (زوزيم) و (عناقيم) و (زمزوميم) تلك الحيوانات الوثنية على بني إسرائيل سلالة النبيين وحملة الكتاب والدين. إنه قد أثبت لليهود عين ما ينسبه إلى الإسلام، ولم يتلطف معهم إلا بكلمة (حاولوا) وهي لغو حيث وضعها فإن كان ينكر الديانة الموسوية لأجل الإنكار على الديانة المحمدية لشرهه وإسرافه في بعض هذه؛ أفلا يتذكر أنه يهدم بذلك الديانة المسيحية أيضًا؟ ؟ وإن كان لا يبالي بهدم الأديان السماوية بغضًا بالمسلمين فليجعل المفاضلة بين الديانة الوثنية وديانة التوحيد الإلهية. وإن كان يرى تحريم الحرب لأجل حرية الدين ونشره وهو ما لا يفعله الآن أحد إلا المسيحيون - وإن سبقهم به اليهود والمسلمون - هو الذي يفضل به دين دينًا فلا شك أن الوثنية أفضل من المسيحية وغيرها من الديانات السماوية فما باله يخص المسلمين بالذم والقدح؟ هذا الكاتب نصراني في الظاهر، ولكنه في الواقع إما وثني وإما معطل يحكم العقل فقط. فإن كان وثنيًّا؛ فلا كلام لنا معه إلا بعد المناظرة في أصل الوثنية , فإن أثبتها؛ فله الفلج فيما يتفرع عنها , وإلا فكلامه ساقط. وإن كان يحكم العقل فكيف ساغ له أن يعد الحرب السياسية لأجل (توسيع الحدود وبسط السلطة والعظمة) جائزة وخيرًا ونافعة , والحرب لأجل حرية الدين ونشر دعوة الحق التي يعتقد صاحبها أن فيها سعادة الدارين ممنوعة وشرًّا وضارة؟ وكيف ذكر بعبارة الرضى والاستحسان إغارة البابليين على الإسرائيليين، وسبيهم، وتخريب هيكلهم , وزحف الرومانيين إلى سوريا وإحراق الهيكل بعدما بني ثانية، وتدمير المدينة بفعل طيطس؟ أليس هذا اضطهادًا للدين لم يفعل مثله المسلمون؟ ثم ذكر أن الرومانيين قد قضوا على بقية تعصب اليهود في سوريا بما فعله طيطس الوثني الظالم , وأنه لم يظهر التعصب في سوريا بعد ذلك إلا بعد الفتح العربي، وطوى في هذه الدعوة تاريخ النصرانية، وما كان منها من التعصب الذي تقشعر منه الجلود، والذي جعل اليهود من أنصار المجوس على النصارى تشفيًا وانتقامًا، ثم انتصار المسلمين عليهم أيضًا ليستنشقوا في ظل هذا الدين نسيم الحرية الدينية الرطب اللطيف بعد النجاة من رمضاء التعصب النصراني وسمومه التي تلفح القلوب دون الجلود. وهذا الذي نومئ إليه مدون بالبسط في كتب أحرار الإفرنج المنصفين وغيرهم، الذين لهم الفضل على محبي الحقائق في كل زمان ومكان. قال الكاتب المؤرخ: إن التعصب الإسرائيلي زال من سوريا بعد تدمير طيطس مدينة أورشليم سنة ٧٠ بعد المسيح. ولكن التاريخ يقول بغير ما قال هذا المؤرخ، يقول التاريخ: إن اليهود قد حقدوا زمنًا وكتموا تعصبهم عجزًا، ثم دفعهم الحقد إلى ثورة عظيمة ادعى زعيمها بعزة قوشير أنه هو المسيح فاجتمع عليه اليهود , واشتعلت نار الحرب بينهم وبين الرومانيين على عهد الإمبراطور هارديان ثلاث سنين حتى قتل الزعيم. ويقال: إنه قتل في هذه الحرب من الإسرائيليين خمس مائة ألف ونيف، وأمر هارديان بمحو خرائب أورشليم، وطمس أطلالها ورسومها وأن تبنى هناك مدينة جديدة تسمى عاصمة إيليا، فكان ذلك في سنة ١٣٢ للمسيح، وأباح للمسيحيين الوثنيين الإقامة في هذه المدينة، وأخرج اليهود منها , ثم لم يبح لهم الرومان الدخول فيها إلا في القرن الرابع وإنما أذن لهم أن يدخلوها مرة واحدة في السنة زائرين من شاء منهم فكانوا يدخلونها باكين نادبين. وقد اضطهد النصارى هؤلاء اليهود في وطنهم أشد الاضطهاد ومنعوهم من كثير من بلادهم لا من مدينتهم المقدسة فقط. ولما زحف الفرس في عهد خسرو على سوريا وفلسطين كان اليهود أنصارًا لهم حتى إذا ما فتحوا أورشليم ذبحوا سكانها النصارى، واصطلموهم اصطلامًا ولما انتصر هرقل على الفرس وأجلاهم عن سوريا ومصر انتقم من اليهود شر انتقام، وعاملهم بقانون هارديان، ومنه أنه يجب أن يكونوا على بعد ثلاثة أميال من أورشليم على الأقل , وكان الإسلام قد ظهر والمسلمون قد زحفوا على سوريا وفلسطين.. إذن إن التعصب الديني بين اليهود والنصارى كان على أشده في سوريا عند ظهور الإسلام ولم يكن قد زال قبل النصرانية كما زعم الكاتب الذي جنى تعصبه على التاريخ والدين؛ لأجل تمكين العداوة في سوريا بين النصارى والمسلمين. ولولا أن اشترطنا الاختصار لأطلنا في بيان هذا التعصب بين اليهود والنصارى في سوريا وبيَّنا أن الإسلام أضعفه، بل أضعف التعصب المطلق، بل أماته حتى أحيته الحروب الصليبية التي أضرمها تعصب النصارى. * * * (٦) سوريا والفتح العربي يقول الكاتب: إن التعصب ظهر بعد فتح المسلمين أورشليم، وعقد المعاهدة بينهم وبين النصارى في البيت المقدس، وذكر نص المعاهدة نقلاً عن المؤرخ الإيطالي قيصر كنو وهي مزورة على نسق المعاهدات الأوربية مؤلفة من ١٥ مسألة (بند) ، ولا شك أن هذه المعاهدة مختلفة من الإيطالى أو غيره من غلاة التعصب، وكل من قرأها من العارفين باللغة العربية وأساليبها والعارفين بحال الناس في ذلك العصر يعرف أنها مكذوبة بالبداهة. وإننا نذكر نص المعاهدة التي أوردها إمام المؤرخين والمحدثين ابن جرير الطبري في تاريخه، ثم ما أورده هذا الكاتب المتعصب عن أساتذته متعصبي أوربا ليقارن صاحب جريدة المناظر الغراء وأمثاله من فضلاء النصارى المنصفين بين الروايتين، ويعلموا من أين جاءنا النزاع والخصام، أما نص ما في الطبري فهو: (عهد سيدنا عمر لأهل بيت المقدس) (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من حليهم ولا من شيء من أموالهم , ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن , وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان (كذا ولعله تحريف) فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية , ومن شاء سار مع الروم , ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبى سفيان. وكتب وحضر سنة ١٥. اهـ وفيه دليل على ما نقلناه من التاريخ من منعهم اليهود من سكنى بيت المقدس، وأما المعاهدة المكذوبة التي أوردها الكاتب المتعصب في جريدة المناظر فهي: ١- يسمح للمسيحيين الذين سلموا للمسلمين أن يبقوا في مدينتهم المقدسة , وأن يقيموا فروض ديانتهم وطقوسهم كما يشاءون , ولكن لا يسمح لهم أن ينشئوا معابد، ولا كنائس جديدة لا في المدينة، ولا في نواحيها. ٢- يجب على المسيحيين أن يتركوا أبواب كنائسهم مفتوحة أوان الصلاة واستعمال الطقوس، ويباح للمسلمين الدخول إليها عندئذ لمراقبة ما يصنعون خوفًا من أن يتآمروا سرًّا على المسلمين. ٣- يجب أن تكون أبواب المسيحيين مفتوحة لجميع ضيوف المسلمين. ٤- يجب على المسيحيين أن يقدموا للمسلمين الذين يأتون لزيارة المدينة المقدسة (أعني أورشليم) طعامًا ليوم واحد فقط بدون أن يأخذوا ثمنه , وإذا مرض أحد أولئك الضيوف التزموا بخدمته حتى يبرأ. ٥- لا يجوز للنصارى أن يمنعوا أولادهم من تعلم القرآن، ولا يجوز لهم أن ينهوهم عن اعتناق المذهب الإسلامي إذا أرادوا. ٦- يجب أن يعتبر المسيحيون المسلمين أسيادًا لهم، وأن يكون لهم فيه المقام الأول في كل شيء. ٧- لا يجوز للمسيحيين أن يلبسوا لباس الاسلام، ولا أن يتسموا بأسمائهم , ولا أن يتصفوا بصفاتهم، بل يجب أن يكونوا على خلاف منهم في كل شيء. ٨- يجب على المسيحيين إذا أرادوا أن يركبوا أن لا يركبوا خيلاً، ولا نوقًا، بل حميرًا وبغالاً، ولا يجوز لهم أن يقلوا سلاحًا، ولا أن يستعملوه في بيوتهم، وكذلك لا يجوز أن تكون منازلهم مزينة بمثل الزينة والتحف والأشياء التى يزين بها المسلمون منازلهم، حتى ولا براذع حميرهم يجوز أن تكون كبراذع حمير المسلمين. ٩- لا يجوز للمسيحيين أن يبيعوا خمرًا، ولا كحولاً ألبتة، ولا أشربة روحية ما إلا بإذن الخليفة أو ممثليه فقط، ولا يجوز لهم أن يتركوا خنازيرهم ومواشيهم تسرح في الأسواق. ١٠- يجب على المسيحيين أن يلبسوا ثياب الحداد دائمًا، وأن يشدوا وسطهم بسيور من جلد سواء كانوا في المدينة أم في الخارج. ١١- لا يجوز للمسيحيين أن يرفعوا صلبانًا فوق الكنائس، ولا أن يدقوا جرسًا، والأجراس والصلبان الموجودة حالاً متى وقعت لا يجوز أن يوضع غيرها في مكانها. ١٢- لا يجوز للمسيحيين أن يطلوا على المسلمين في معابدهم. ١٣- يجب أن يقدموا الجزية في أوانها، ولا يتأخروا عن جمع الضرائب التى يفرضها عليهم المسلمون. ١٤- يجب أن يحترموا الخلافة الاسلامية والمسلمين كسادة للبلاد وأصحابها، ولا يتآمروا عليهم ألبتة. ١٥- يلتزم الخليفة بتأمين النصارى الطائعين والخاضعين لجميع شروط ونصوص هذه المعاهدة. ومما ينتقد من هذه المعاهدة أن المسلمين لم يكونوا يقولون: (مدينتهم المقدسة) ولا كلمة (الطقوس) ولم يكونوا يرحلون لزيارة تلك البلدة، ولم يكن لهم لباس مخصوص، بل كانوا يلبسون ملابس الروم التى يغنمونها، ولم يكونوا يزينون بيوتهم، ولم يكن في زمانهم شيء يسمى (الكحول) ، ولا الأشربة الروحية، وإنما كانوا يسمون كل مسكر خمرًا إلا النبيذ، إذا صار يسكر. ويمتنع شرعًا أن يقيد بيع الخمر بإذن الخليفة، ولم يكن لهم معابد يمنعون المسلمين من الإشراف عليها، ولم يضربوا على أهل تلك البلدة ضرائب، ولم يكونوا يعبرون عن السلطة بالخلافة الإسلامية، ولا عن عمر بالخليفة، هذا ولم يكونوا يخافون من المؤامرة عليهم , فإنهم غلبوا القوم، وهم مستعدون للقتال، ومعهم الروم فكيف يخافونهم بعد ذلك , ولو خافوا أو احتاطوا لم يكن ذلك معيبًا ولا منتقدًا ولا باعثًا للتعصب، فإنه أمر طبيعي معهود من جميع الفاتحين , والسيادة بطبيعتها للفاتح فلا معنى لاشتراطها، ولم يكن من فائدتهم المنع من التشبه بهم، ورؤية عباداتهم، وتعلم كتابهم والتسمي بأسمائهم. فالظاهر أن المعاهدة وضعت في هذا العصر؛ لأن أسلوبها واصطلاحاتها كلها عصرية. فأين المنصفون يميزون بين تساهل المسلمين وتعصب غيرهم. إنهم ليختلفون على سلفنا حتى في هذا العصر عصر الحرية والعلم؛ ليعيبونا، وينفروا قومهم وسائر الناس منا فهل فعلنا نحن شيئًا من مثل هذا؟ ؟ أكتفي بهذه الإشارات في تفنيد مسائل هذه المعاهدة المختلقة، ولكني أقول: إنني لا أنكر أن منها ما له نظير في بعض كتب المسلمين، ولكن لا ثقة بروايته ومن المأثور في ذلك ما رواه البيهقي من طريق حزام بن معاوية قال: كتب إلينا عمر: (أدبوا الخيل، ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير) ، ولكن إسناده ضعيف، ولو صح لأمكن حمله على جماعة المسلمين على أن أقوال الصحابة ليست حجة في الدين عند جمهور علماء الأصول، إلا أن يجمعوا عليها، أو ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو يكون لها حكم المرفوع بأن يكون هناك دليل على أنها ليست من اجتهادهم بل سمعوها عن الشارع صلى الله عليه وسلم. ومنها ما رواه البيهقى عن ابن عباس: (كل مِصْرٍ مَصَّرَه المسلمون لا تبنى فيه بيعة ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير) ، وفي إسناده حنش، وهو ضعيف على أن المسلمين أحرار في مصْرٍ مَصَّروه لأنفسهم أن يمنعوا غيرهم من الإقامة معهم فيه مطلقًا أو بشروط، وكذلك أهل الذمة، إذا كانت لهم أرض وجعلوها بلدًا، ولم يقبلوا أن يبيعوا منها شيئًا لمسلم فإن الإسلام لا يكرههم على بيعها، ولو لأجل المسجد. ومفهوم كلام ابن عباس أنه لا يمتنع بناء الكنائس في غير المصر الذي مصره المسلمون كالأمصار القديمة , وما مصره غيرهم ولو بشركته معهم. ولو صحت هذه المعاهدة التي نقلها لما كانت أبعد مما يعامل به أهل أوربا المسلمين وغيرهم في مستعمراتهم لا سيما في أثناء الفتح إذ تكون السياسة عسكرية بل هي أخف منه. وقد أعجبني قول إلياس أفندي الحداد من وجهاء نصارى طرابلس الشام جوابًا عن قول آخر: إن بعض الأحكام التي عامل بها المسلمون أهل الذمة قاسية. قال إلياس أفندي: إن هذه سياسة عسكرية وهى ضرورية في أثناء الفتح لا بد منها لكل فاتح مهما كان عادلاً ومتساهلاً. وأقول: إنها مع كونها عسكرية كانت أعدل وأرحم سياسة - كما قال بعض فلاسفة أوربا - (راجع علوم العرب واكتشافاتهم في المجلد الخامس من المنار أو ص ١٠٥ من كتاب الإسلام والنصرانية) . ثم إننى لم أر في كتب الحديث والمغازي المأثورة شيئًا في معاملة أهل الذمة. قال راويه: إن الصحابة اتفقوا أو أجمعوا عليه رأيًا إلا ما رواه ابن عساكر عن الوليد عن عمر وغيره وهو: (إن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم على إقرار ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون منها خراجها إلى المسلمين , فمن أسلم منهم؛ رفع عن رأسه الخراج، وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين أصحابه من أهل قريته يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون له ماله ورقيقه وحيوانه، وفرضوا له في ديوان المسلمين، وصار من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، ولا يرون أنه - وإن أسلم - أولى بما كان في يده من أرضه من أصحاب من أهل بيته وقرابته، ولا يجعلونها صافية للمسلمين. وسموا من ثبت منهم على دينه وقريته ذمة للمسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأرضين كرهًا لما احتجوا به على المسلمين من إمساكهم كان عن قتالهم وتركهم مظاهرة عدوهم من الروم عليهم. فهاب لذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر قسمهم وأخذ ما في أيديهم من تلك الأرضين، وكره أيضًا المسلمون شراءها طوعًا؛ لما كان من ظهور المسلمين على البلاد وعلى من كان يقاتلهم عنها , ولتركهم كان البعثة إلى المسلمين وولاة الأمر في طلب الأمان قبل ظهورهم عليهم. قال: وكرهوا شراءها منهم طوعًا لما كان من إيقاف عمر وأصحاب الأرضين محبوسة على آخر الأمة من المسلمين المجاهدين لا تباع ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين , ولما ألزموه أنفسهم من إقامة الجهاد) اهـ بحروفها كما في (كنز العمال) . وأغرب ما في هذه الرواية أن يسلم الذمي فتنزع منه أرضه وتعطى لأصحابه الذميين من ذوي قرباه، ويفرض له بدل ذلك من بيت مال المسلمين. فليقارن المنصف بين هذا وبين انتزاع أعظم دول أوربا وطنية وحرية ومدنية أرض المسلمين من أيديهم حتى أوقافهم الدينية، وذلك بوسائل لا مروج لها إلا القوة القاهرة والبلاد التى يجري فيها ذلك قريبة منا، ويعرف ما فيها العارفون. (للرد بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))