للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية

كثر حديث الناس في الحكومة العثمانية الجديدة، وما يُنتظر منها من
الإصلاح بعد أن قضى أحرار الأمة وجيشها على الحكم الشخصي الاستبدادي،
وأدالوا منه حكم الشورى الدستوري، وكثرت أقوال الجرائد في ذلك، ولكننا نرى
أكثر الحديث في الأمور الكمالية التي لا يكون إصلاحها إلا في السنين الطوال:
كالمالية والمعارف والحربية والبحرية والعدلية (الحقانية) والزراعة، وقلما نرى
أحدًا يذكر أهم المهمات الذي يجب تقديمه على كل شيء بلا استثناء، ألا وهو
تنظيم الشرطة (الضابطة والبوليس) لأجل حفظ الأمن العام، وتنفيذ الشرع
والقوانين بالعدل والمساواة.
أعلن الدستور وأعيد القانون الأساسي، فصاح الصائحون بالناس في كل بلد
أنِ احتفِلوا به، فاحتفَلوا، وقيل لهم: اخطبوا واهتفوا، فخطبوا وهتفوا،وقام الأحرار والمستعدون للحرية في وجوه أعوان الاستبداد والعبودية فأنزلوا أناسًا عن مراتبهم
وعزلوا أفرادًا من مناصبهم وأنذروا آخرين بلاء يحل بهم وبشروا العامة بالخير القريب
والعز العتيد، والنعيم المقيم، فذهبت النفوس في فهم ذلك مذاهب، ووردت منه
مشارب، حتى فسَّره بعضهم بإباحة الحقوق وإلغاء الإتاوات والضرائب، وقد انقسم
الناس في فهم الدستور إلى أقسام ليس من غرضنا بيانها في هذه المقالة، وإنما
نقول: إنه يوجد في البلاد العثمانية كثير من المستخدمين في الحكومة، والذين
عزلوا بعد الدستور أو استقالوا، ومن أصحاب النفوذ والجاه يمقتون الحكومة
الحاضرة، ويحنون إلى الاستبداد السابق؛ لاعتقادهم أنه ينمي مالهم ويوسع دائرة
جاههم؛ لأنهم يتبعون هوى رؤسائه مهما كان فيه من خراب ذمتهم ودينهم،
وخراب بيوت معظم الأمة، والقضاء العاجل على الدولة. فهؤلاء يوسوسون للعامة
ماذا استفدنا من الدستور والحرية؟ كان يستبد بنا في البلد رجل واحد فصار يستبد
بنا جميع الأشقياء. ومثل هذا الكلام يروج عند العامة التي تنتظر الراحة والسعادة
من الحكومة الجديدة، إذا لم تكذبه هذه الحكومة بالعمل في أقرب وقت.
ماذا يجب على الحكومة قبل كل شيء؟ الجواب عن هذا السؤال بديهي، وهو
أن الواجب قبل كل شيء، حفظ الأمن العام والحرية الشخصية، ولا يتم هذا على
وجهه إلا بتنظيم الشرطة (الضابطة) ولذلك نرى الولاة والمتصرفين يتململون
من كثرة الاعتداء بالضرب والقتل، فإذا طولبوا بتربية المجرمين يقولون: إننا
ننتظر التعليمات الجديدة في إصلاح الشرطة من الآستانة في أول السنة المالية
القادمة.
هكذا قالوا لنا عندما تكلمنا معهم، ورأيناهم يعلمون كما نعلم أن من في البلاد
من الشحنة والشرطة، قد أفسد أكثرَهم حكمُ الاستبداد الماضي فصاروا أعوانًا
للأشقياء والمجرمين، وقد اقترحنا عليهم أن يستبدلوا شرطة لواء بشرطة لواء آخر
فاعتذروا عن ذلك بقلة الرواتب، وقالوا: إن من ينقل من بلد إلى بلد يحتاج إلى
نفقات جديدة لا يفي بها راتبه، وستزاد الرواتب في أول العام القابل، فيتيسر نقل
هؤلاء إلى بلاد لا صلة لهم بأشقيائهم، ويكونون تحت مراقبة شديدة.
هذا ما ينتظره والي الشام وجميع ولاة المملكة؛ لأجل حفظ الأمن وحماية
الحرية الشخصية. ويحسبهم الجمهور غير مبالين بما يقع حينًا بعد آخر من
الجنايات والمظاهرات التي تنبئ باحتقار العامة للحكومة.
لولا أن الأجل المضروب للبدء بالإصلاح المطلوب قريب، لخشينا أن
يفضي إهمال الحكومة للعامة إلى الفوضى، وإن كان أكثر أهالي بلادنا لا يزالون
على حظ عظيم من حب السلامة وحسن الأخلاق، على ما أفسد الاستبداد من
أخلاقهم، فقد رأينا مثال ذلك في مصر، فإن الجنايات وإهلاك الحرث والنسل في
القطر المصري أشد وأكثر مما هو في القطر السوري على كون الحكومة المصرية
أرقى من الحكومة العثمانية. والسبب في ذلك ما أعطته الحرية للعامة من احتقار
الحكومة والأمن من سطوتها، إلا أن تثبت تهمة على متهم في المحاكم مع جهل
أكثر الأهالي وإفساد الاستبداد السابق لأخلاقهم، ولا تزال الحكومة المصرية في
حيرة من أمر الأمن العام على كثرة بحثها وبحث أصحاب الجرائد وغيرهم من
الكتاب وأهل الاختبار، في وسائل ذلك منذ سنين.
لو أخذ ولاتنا بالحزم في أوائل العهد بإعلان الدستور، وساعدتهم جمعية
الاتحاد والترقي التي أخذت بيدها صولجان السلطة عدة أشهر لدى حكومة الآستانة
بأمرها، فقبضوا على كل من يرتكب جناية وعجلوا بمجازاته حتى بالقتل، إن قتل
لأراحوا أنفسهم وأراحوا الأمة في الحال مما تشكو منه، والحكومة في المستقبل مما
سوف تشكو منه، إذا كانت تريد أن تبقي على سياسة الرقة واللطف (النزاكة)
التي اتبعتها منذ أعلن الدستور إلى اليوم، وتقيد الحكام بظواهر القوانين.
رأى زعماء سياسة الرقة واللطف أننا قد أخذنا الدستور نظيفًا غير ملوث بالدم
فيجب أن نتقي سفك الدم في دور الانقلاب، ونداري المفسدين والمجرمين إلى أن
يستقر الدستور في نصابه وهو على نظافته؛ ولكن هذا الرأي إنما يصح في بلاد
خشي فيها من الفتن والثورات الداخلية، إذا فوجئ أهلها بما يكرهون كبلاد الحجاز
لا في بر الشام الذي ليس فيه استعداد للثورة، ولا خطر في بال أحد من أشقيائه؛
أنه يمكنه أن يقف في وجه الحكومة بنفسه أو بعصبته، إذا هي حاولت أن تسلط
العدل على الأخذ بناصيته! !
ألا إن أكثر زعماء سياستنا ليجهلون حال الأمة في جميع الولايات، ويولون
عليها من الولاة والمتصرفين من لا وقوف لهم على حقيقة حالها، حتى إنني أحسب
أن ناظم باشا لا يزال غير محيط علمًا بحال ولايتي بيروت وسورية على ذكائه
واختباره لهما في سني الاستبداد وشهور الدستور، فما ظن القارئ بأدهم بك والي
بيروت الجديد الذي كان عائشًا في أوروبا فانتقل منها بعد الدستور إلى الآستانة
فبيروت! ثم بمثل متصرف طرابلس جاويد بك؟ ولقد يعز على هذا المتصرف
وذاك الوالي أن يعرفا حال البلاد وأهلها في زمن قريب لعلتين فيهما: عدم التكلم
بالعربية والعزلة. فإنهما يكادان لا يكلمان أحدًا في غير أمور الحكومة الرسمية
في دار الحكومة، ومن كان هذا شأنه فكيف يقف على حقيقة حال البلاد، ومن لا
يقف على حقيقة حالها، كيف يسوسها على وجه الحكمة والسداد؟ ! .
يظن أمثال هؤلاء أنه لا يطلب من الوالي أو المتصرف الدستوري إلا أن
يكون عفيفًا مستقيمًا مراعيًا في سيرته للقوانين، وفاتهما أن معرفة حال الناس الذين
وضع القانون لأجل إصلاح شأنهم مقدمة على معرفة القانون، والحرص على تنفيذه؛
لأن العدل في التنفيذ لا يكون إلا بتطبيق المواد على الوقائع، وهذا التطبيق
يتوقف على معرفة حال المتلبسين بالوقائع التي تطبق عليها تلك المواد وإن وراء
ذلك من الاجتهاد في حسن الإدارة، ما لا تغني عنه القوانين وإن نفذت بالعدل.
يتوهم بعض الولاة والمتصرفين أن للأشقياء الذين اشتدت جرأتهم في عهد
الدستورعصائب تشد أزرهم، وأن الحكومة لا تقدر على تربيتهم إلا بعد تنظيم
الشرطة، وأنها إذا حاولت الآن أن تقبض على المشهورين منهم، أو تلزم الشرازم
الذين يفتاتون عليها حدهم، وتحفظ هيبتها في نفوسهم - يثورون عليها ويقاومونها
بقوة السلاح! وأن تركهم على ما هم عليه هو الواجب الآن؛ عملاً بقاعدة ارتكاب
أخف الضررين، وهذا وهْم باطل بالنسبة إلى ولايتي بيروت وسورية، فإن هذه
البلاد وإن ساءت حالها وكثر اختلالها في أواخر عهد الاستبداد، فهي لم تصل في
الشر والهمجية إلى هذا الحد الذي قد يتوهمه بعض حكامها.
هذا التوهم هو الذي كف أيدي الحكومة الجديدة عن تربية المجرمين، فامتدت
أيديهم إلى ما لم تكن تمتد إليه في عهد الاستبداد، حتى صار العقلاء يخشون أن
يفضي احتقار الأشقياء للحكومة إلى الفوضى، وهم لا يعذرون الولاة على إهمالهم،
ولا يعرفون سبب هذا الإهمال؛ إذ لو عرفوه لاجتهدوا في إقناعهم بأن البلاد ليس
فيها عصائب ذات قوة ولا جمعيات سرية، وأن الوالي إذا شاء أن يقبض على
مجرم وينفذ القانون على أي معتدٍ، فعل، إلا أن يفر الشقي الذي تأمر الحكومة
بالقبض عليه قبل أن تصل يدها إليه، وأنه لا يوجد في مدن سورية كلها شقي
تحدثه نفسه بأن يعصي على الحكومة جهرًا، أو يغري الأهالي بعصيانها سرًّا،
على أن إفهام هذا لوالي بيروت؛ لأجل حمله على القيام بعمل لحفظ الأمن، قد يعد
من العبث؛ فإنه لا يتوجه إلى عمل ما في ذلك إلا بعد ورود ما ينتظر من تنظيم
الشرطة والشحنة في أول السنة المالية القادمة وما هي ببعيد.
يجب أن يعد الولاة ومن دونهم من رجال الإدارة لهذا الإصلاح عدته، فإنه
هو الإصلاح الذي يتوقف عليه كل إصلاح، يجب أن يستخرجوا من المحاكم أسماء
المحكوم عليهم بالإعدام وما دونه من العقوبات، وينفذوا ذلك كله بمنتهى الجد
والحزم، ثم يمنعوا الافتئات على الحكومة بالمظاهرات التي لا يبيحها القانون أو
يطلب بها، ما لا يبيحه القانون، ومن أصر على غيِّه يؤخذ منة باليمين.
ويجب على الآستانة أن لا تقيد الولاة بقيود كثيرة، وأن لا تجعلهم عيالاً على
نظارة الداخلية في كل شيء، ولا في أكثر الأشياء، بل فيما لا بد منه، ولا غنى
عنه من الأمور الإجمالية , فيجب أن يباح لرؤساء الحكام من الولاة، وغيرهم
الاجتهاد في فهم القوانين، وتنفيذها بالمشاورة، كل فيما يختص به مع تشديد التبعة
(المسئولية) عليهم، وجعلهم تحت مراقبة المجالس العمومية التي يجب توسيع
اختصاصها، وكذا اختصاص مجالس الإدارة. وإذا أعيد التفتيش على الولايات،
يكون للأمة أربعة أنواع من الضمان الذي يحول دون استبداد الولاة ومَن دونهم مِن
رؤساء الإدارة: مجالس الإدارة في كل لواء ومركز وناحية، والمجلس العمومي في
الولاية والتفتيش، وشدة التبعة يضاف إليها من قبل الأمة نفسها انتقاد الجرائد، وما
وراءه من إثارة سخط الرأي العام.
وكذا يقال في المحاكم مع ما يجب من استقلال القضاء، وجعل المحاكم
الشرعية المؤلفة من عدة أعضاء، يحكم فيها بالاتفاق أو أكثر الآراء، وإيجاد
محاكم استئنافية شرعية في كل ولاية.
هذا ما عنَّ لنا أن نكتبه الآن، ويغلب على ظننا أن حكومتنا تحتاج في تنظيم
الشرطة والشحنة إلى الاستعانة بالأجانب، كما تحتاج إلى ذلك في كثير من الأعمال
فإن الرجال القادرين على الإصلاح عندنا قليلون كما سيظهر بالعمل، وندعو الله أن
يوفق مجلس الأمة إلى خير الإصلاح المنتظر.