للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تحريم المسلمات على غير المسلمين [*]

النص الأصولي القطعي والنص اللغوي - الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا
على أمة أو أهل ملة , والوصف الذي يطلق بمعنى قيام الحدث بالموصوف ,
والفعل المسند إلى القوم أو الأمة - إنكاح المشركين المؤمنات محرم بالنص القطعي
وإنكاح غيرهم من الكفار محرم بنصوص لغوية لا أصولية قطعية , وبإجماع
المذاهب والقياس.
قد عرض في أثناء إصدارنا لأجزاء المجلد الرابع والعشرين أحداث سياسية
واجتماعية إسلامية شغلتنا عن إتمام عدة أبواب من أبواب المباحث , التي كنا دخلنا
فيها كالرحلتين السورية والأوربية , ومنها ما كتب إلينا من الانتقاد على المنار،
وأهمه ما كتبه إلينا الشيخ محمد عبد الظاهر من خواص إخواننا في الدين , وأولادنا
في العلم انتقادًا على قولنا في مقالة (مدنية القوانين) التي نشرت في ج٦م ٢٣ من
أن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ,
وَبِحِلِّ نكاح المحصنات من أهل الكتاب ولم يصرح بتحريم إنكاحهم - وأن
التحقيق أن المشركين والمشركات في آية البقرة خاص بالعرب منهم - أعني قوله
تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: ٢٢١) الآية - فهو يرى
أن عنوان (المشركين) فيها وفي غيرها يعم جميع أهل الملل غير المسلمين , ومن
الدلائل على هذا عنده إسناد القرآن الشرك إلى أهل الكتاب في قوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣١) كما نزه
نفسه عن شرك مشركي العرب بمثل هذه الجملة في سورة المائدة - وأن الوعيد على
الشرك المطلق يشملهم - وأن كونهم صنفًا مستقلاًّ لا ينافي دخولهم في الجنس العام،
وأن ابن جرير ذكر وروى عن قتادة أن لفظ المشركين في آية: {وَلاَ تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ} (البقرة: ٢٢١) يشمل أهل الكتاب ولم يذكر مخالفًا (فعدم ذكره
مخالفًا دال على الإجماع) ! !
كان أخونا المذكور كتب إلينا انتقاده هذا مختصرًا , فكتبنا إليه كتابة تبعثه
على المراجعة والبحث في بعض المسائل كمعنى النص الأصولي القطعي المراد،
والفرق بين عنوان المشركين، وإسناد فعل الشرك إلى أهل الكتاب وغير ذلك؛ لأنه
يعنى بعلم الأثر دون علم الأصول وغيره من كتب المعقول - وهذا دأبنا مع إخواننا -
فبحث كثيرًا ثم كتب إلينا مقالاً طويلاً يبلغ ٨ صفحات مزج فيه المسائل، وخلط
الدلائل، وشنع على علماء الأصول، وجعل التحاكم إليهم تحاكمًا إلى أهل
الطاغوت، وإبطالاً لكلام الله عز وجل، برأهم الله تعالى من ذلك، ومن جهل شيئًا
عاداه، وكنا نريد أن ننشره , ونتكلم على مسائله وأدلته وما فيها، وإن كان أكثره لا
يفيد جمهور القراء، بل يكرهه أكثرهم؛ لأنه مناقشات لفظية واصطلاحية في شأن
فهم باحث أخطأ في فهمه واستدلاله - ولذلك طال الزمان ولم نجد الفرصة،
وخشينا أن يطول الزمان على ذلك في المستقبل أيضًا، فرجحنا أن نكتب ما
نرى فيه الفائدة العامة في المسألة وهو:
(١) أن النص الأصولي الذي نعنيه هو عند أهله ما يحتمل معنًى واحدًا لا
يحتمل غيره حقيقة ولا مجازًا ولا كناية، وهو إنما يشترط في أصول الدين التي
يطلب فيها القطع , ويعد جاحدها خارجًا من الملة فلا يقبل له عذر بالتأويل، وأما
الأحكام العملية فيكتفى فيها بالنصوص اللغوية من منطوق ظاهر ومفهوم موافق،
وفي المفهوم المخالف الخلاف المشهور في الأصول , وهو أن أبا حنيفة ينفيه،
والجمهور يثبتون ماعدا مفهوم اللقب منه، فاستعظام صاحبنا لنفي نص أصولي
قطعي في حكم شرعي عملي من الأمور الشخصية - استعظام لما ليس بعظيم في
نفسه، فإن أهل السنة يذكرون في العقائد السمعية مسائل ليس فيها نص قطعي بل
يثبتونها بظواهر النصوص اللغوية كميزان الأعمال يوم القيامة , ولا يعدون من
يتأولها خارجًا عن الملة، فالأحكام العملية أولى بذلك؛ إذ لم يشترط القطع العقلي في
إثباتها أحد من المسلمين - فإضاعة الوقت وكثرة الجدال في محاولة إثبات هذه
المسألة بنص قطعي أصولي لا يحتمل التأويل، لا حاجة إليهما. فحسبنا الظواهر
واتفاق المذاهب الإسلامية على هذا الحكم، إلا إذا كان المنتقد يرى أن للمسلمين
مصلحة راجحة في تكفير من يتأول شيئًا من أمثال هذه الظواهر، أو ينكر دلالة مثل
هذا الإجماع متأولاً لا مكابرًا ولا معاندًا. ونحن نحرص على اتقاء الجزم بإخراج
أحد المسلمين من ملة الإسلام ما استطعنا.
(٢) الفرق بين الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا على طائفة أو شخص
وبين الوصف أو المصدر أو الفعل الذي يراد به قيام المعنى بالموصوف - ظاهر،
ولكل منهما موقع في الكلام. مثال ذلك: أن الكفر والشرك والفسق والظلم وما
اشتق منها قد أطلقت في الكتاب والسنة بحسب معانيها اللغوية على الكفار إطلاق
المترادفات، وقوبلت بالإيمان والإسلام مقابلة المتضادات، وإطلاقًا يشمل بعض
منافقي المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم , وبعض من صح إيمانهم , ولكن
بمعنى قول العلماء: (كفر دون كفر، وشرك دون شرك) ؛ أي: لا بالمعنى
المقابل للإسلام والإيمان، وقد بين ذلك المفسرون وشراح الصحيحين وغيرهما من
كتب السنة , وسبق لنا الإلمام به مرارًا. آخرها البحث المستفيض الذي نقلناه عن
كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم (ص٦٧٣ج ٩م٢٤) واصطلح علماء الشرع
على تخصيص لفظي الكفر والشرك بما يقابل الإسلام , ولفظي الفسق والظلم بما
يقابل الصلاح والعدل.
والملل المخالفة للإسلام كثيرة ومن المخالفين له من ليس لهم ملة ينتمون إليها
كمنكري الألوهية , فإذا صح أن يسمى كل من ليس بمسلم كافرًا اصطلاحًا , كان
لهذه التسمية وجه في اللغة - وإن كان الاصطلاح الغالب عند أهل هذا العصر أن
لفظ الكافر لا يطلق إلا على المعطل الجاحد لكل الأديان - ولا مشاحة في الاصطلاح -
ولكن لا وجه في اللغة لتسمية كل من ليس بمسلم مشركًا، فإن من غير المسلمين
المعطل الجاحد، ومنهم الموحد الذي توحيده أرسخ وأصح من توحيد الكثير من
طائفة المسلمين الجاهلين بحقائق الإسلام، وما أكثرهم في هذا الزمان.
إن الفلاسفة الإلهيين ومن يعرفون من أهل أوروبة بالعقليين وجملة اليهود
والآريوسيين من النصارى المتقدمين , وأكثر نصارى هذا العصر الذين تعلموا
تعليمًا راقيًا , ولم يمرقوا من الدين - كل هؤلاء وطوائف غيرهم من العلماء
المستقلين في العلم والدين موحدون , ليس في عقولهم شيء من الشرك بالله بالمعنى
المعروف في القرآن. سألت عجوزًا إفرنسية كانت جارة لنا: ما لي أراك لا تذهبين
إلى الكنيسة يوم الأحد؟ ألست متدينة؟ قالت: بلى وإنني أصلي لله في بيتي وما
الكنيسة ورجالها إلا جماعة احتيال على المال والجاه، والله يعلم بصلاتي حيث كنت.
قلت: وما تقولين في السيد المسيح عليه السلام؟ أهو إله أم لا؟ قالت: الإله
واحد والمسيح مثل نبي؛ أي: هو نبي، أو من قبيل الأنبياء. وقالت: إن أكثر
المتدينين المتعلمين عندهم يعتقدون اعتقادها، ومنه أن لا أحد من الأنبياء ولا
القديسين يقدر على نفع أو ضر أو أي عمل مخالف لسنن الكون.
والتوحيد هو أصل دين جميع الرسل عليهم السلام , وما طرأ على أهل
الكتاب من الشرك هو عين الذي طرأ على كثير من المسلمين , الذين لم يتلقوا
التوحيد الخالص تلقيًا صحيحًا عن أهل العلم والبصيرة في الدين، وهو لم يكن
مستغرقًا لجميع أفرادهم , حتى ما أسنده الله تعالى إليهم في القرآن فهو كإسناده إلى
اليهود قتل الأنبياء عليهم السلام بغير حق , وهو إنما وقع من بعضهم. ووجهه في
اللغة معروف مبين في التفسير وقد قال الله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: ١٥٩) وقال: {مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ
الفَاسِقُونَ} (آل عمران: ١١٠) ثم قال بعد ذكر كفرهم وقتلهم الأنبياء: {لَيْسُوا
سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (آل عمران: ١١٣-١١٤) الآيات - قال ابن عباس -
رضي الله عنه - في تفسير أمة قائمة: على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه
الآخرون وضيعوه. اهـ. ولم يقل مثل هذا في المشركين.
لأجل هذا جعل الله تعالى لفظ المشركين لقبًا أو علمًا لمن كان الشرك قاعدة
دينهم والوصف العام لجماعتهم , وجعل العلم لليهود والنصارى (أهل الكتاب) وما
أسنده إليهم أو وصفهم به من الشرك , فلما كان عرضًا طارئًا لم يجعله علمًا ولا لقبًا
ولا وصفًا عامًّا , يطلق عليهم في كل حال أو يميزهم عن غيرهم من أهل الملل ,
بل هو من قبيل ما بيناه في أول هذه المسألة , ومن إطلاق ما صدر من البعض
على الكل كقتل الأنبياء وأكل السحت.
مثال ذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣١) فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرك بقوله: (أما إنهم لم
يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه , وإذا حرموا عليهم شيئًا
حرموه) . رواه مخرجو التفسير المأثور والترمذي والطبراني وأبو الشيخ والبيهقي
في سننه من حديث عدي بن حاتم. ورواه أكثرهم عن حذيفة أيضًا. وهذا النوع من
الشرك طرأ على المسلمين أيضًا فكثير منهم - إن لم نقل: أكثر المتأخرين منهم.
يستحلون ما أحل لهم رؤساؤهم الدينيون، ومنهم شيوخ الطريق الجاهلون -
ويحرمون ما حرموه عليهم , ولكنه من الشرك الذي لا يعده الفقهاء خروجًا من الملة إلا
إذا كان في أمر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة. وهذه الآية أقوى ما استدل به
المنتقد على كون أهل الكتاب من المشركين - وقد وردت بعد قوله تعالى: {وَقَالَتِ
اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: ٣٠) ومن
المعلوم أن هذا القول قد يطلق عندهم إطلاقًا مجازيًّا لا يعد من الشرك في شيء كقوله
تعالى حكاية عنهم: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة:
١٨) وقد ورد في التفسير المأثور وغيره: أن من قال من اليهود: عزير ابن الله -
بعضهم. وروي أنه واحد منهم اسمه فنحاص. فهو من باب إسناد ما كان من البعض
إلى الجنس أو القوم وهو كثير كما تقدم آنفًا.
وجملة القول أن أهل الكتاب قد فشا فيهم الشرك وهو ليس من أصل دينهم
ولا عامًّا فيهم , بل جميع أهل الملل القديمة كالمجوس والبوذية كانوا أهل كتاب
وأتباع رسل , ثم طرأ عليهم الشرك والوثنية بالتأويل، ولم يعد يعرف لكتبهم أصل
لطول العهد، وأما اليهود والنصارى فقد دل القرآن على أن كتبهم لم تذهب كلها، بل
أوتوا نصيبًا منها ونسوا آخر- وما بقي لهم طرأ عليه التحريف , فلذلك ميزهم عن
سائر أهل الملل بتسميتهم (أهل الكتاب) . وهو يعطيهم هذا اللقب في مقابلة
المشركين تمييزًا لهم، كما ميزهم بأحكام خاصة من دون مشركي العرب وغيرهم -
والمنتقد يعترف بهذا للآيات الصريحة فيه , ولكنه يجعله كاللغو الذي لا يترتب عليه
حكم ولا يراد به بيان حقيقة , ولا يصح أن يستدل به على أنهم لا يعدون من جنس
المشركين عند إطلاق كلمة المشركين على الجنس المعين من أهل الملل - وهو
مخطئ في هذا.
فعلى هذه التفرقة بين الأمرين نقول في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: ٢٢١) الآية -: إما أن يراد بالمشركين
والمشركات فيه معنى اسم الفاعل , وهو من اتصف بالشرك بالفعل وإما أن يراد
أهل الملة الذين أطلق عليهم في كتاب الله لقب المشركين - فإن أريد به الأول فهو
لا يشمل إلا من كان مشركًا بالفعل، ويخرج من مفهومه من لم يكن كذلك من بقايا
الحنفاء الموحدين , الذين كانوا يهزؤون بالأصنام وعبدتها من جاهلية العرب ,
والموحدون من سائر الأمم - وهو ظاهر البطلان ولم يقل به أحد - فتعين أن يراد
به لفظ المشركين علمًا لهم ولقبًا يميزون به من غيرهم , ولذلك جعل غاية النهي
دخولهم في أهل الإيمان المراد بهم المسلمون - والظاهر بناءً على ما تقدم أن
المشركين بهذا المعنى هم أهل الأوثان الذين لا يعرف لدينهم أصلٌ من كتاب منزل
كاليهود والنصارى , ولا شبهة كتاب بحيث يكون لدينهم لقب خاص كالمجوس
على قول الجمهور. (وقال بعضهم: إنهم كانوا أهل كتاب) ؛ ولذلك خصوا
بلقب مميز في مقابلة المشركين وغيرهم بقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: ١٧) وإنما ذكر المشركون
في هذه الآية دون آية البقرة التي ذكر فيها بقية الأصناف؛ لأن سياق آية الحج لبيان
الحساب والجزاء المطلق، وهو عام، وسياق آية البقرة؛ لبيان أجر من أقام أصول
دينه الصحيحة , وانتفاء الخوف والحزن عنهم يوم القيامة؛ إذ كانت كلها
أصولاً صحيحة , والمشركون لا يشاركون هذه الأصناف فيها، وهي قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢) .
وإذا أمكن المراء في أن يكون هذا هو الظاهر المتبادر من لقب المشركين
والمشركات , فلا يمكن المراء في أنه ليس نصًّا أصوليًّا قطعيًّا فيما عدا المسلمين
من أهل الكتاب وغيرهم، والقول باتحاد الحكم وتحريم إنكاح أهل الكتاب لا
يقتضي ذلك؛ لجواز أن يكون قد ثبت بدليل آخر - فهذا الوصف ليس نصًّا لغويًّا
ولا شرعيًّا في ذلك، بدليل ما بيناه من معناه اللغوي ومن استعماله في الكتاب
العزيز، ومثله في كتب السنة كثير، ومنه بعض ما نقله المنتقد من صحيح
البخاري كقوله: (باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية) إلخ فالعطف يقتضي
المغايرة - وهذا هو اصطلاح الشرع في اللقب، وجعله عنوانًا على أهل الملة -
فكيف يقال: إنه نص أصولي قطعي في كل كافر لا يحتمل غير ذلك لغة ولا عرفًا ,
ولو بطريق التجوز وغيره من طرق التأويل؟ هذا لا يمكن أن يقوله أحد يفهم معنى
النص القطعي , ولا يحتاج إليه من ذهب إلى عموم الحكم في آية البقرة , فقد يكون
كلامهم من باب التفسير بالمراد. وما نقل عن ابن عمر من تأوله الآية وتحريمه
للكتابيات لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فهو شاذ , وله نظائر - رضي الله عنهم -
وما هم بمعصومين، وإنما الحجة إجماعهم على أمر ديني، ويقرب منه ما ثبت عن
جمهورهم، ولا عبرة بشذوذ الأفراد كقول ابن مسعود رضي الله عنه: إن المعوذتين
ليستا من القرآن مثلاً.
نعم إننا نعترف بأننا أخطأنا فيما عزوناه إلى قتادة من القول بأنه خص
المشركين والمشركات في آية البقرة بوثيني العرب , فإن الذي روي عنه أنه قال في
المشركات: (يعني: مشركات العرب اللائي ليس لهن كتاب يقرأنه) ولم يقل مثله
في المشركين - ولكن التفرقة بين مدلول (المشركات) ومدلول المشركين في آية
واحدة تحكم. وعدم نقله عنه لا يدل على أنه يقول بالتفرقة - ومسألة الحكم ليست
موضوعنا هنا بل لا خلاف فيها بيننا وبين المنتقد.
ولم يكن قتادة هو الذي قال هذا وحده، ففي الدر المنثور عن سعيد بن جبير في
تفسير: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة: ٢٢١) الآية - قال: يعني أهل
الأوثان. وعن مجاهد: نساء أهل مكة من المشركين. وعن حماد قال: سألت
إبراهيم (يعني: النخعي) عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس. قلت:
أليس الله يقول: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: ٢٢١) ؟ قال:
إنما ذاك المجوسيات وأهل الأوثان.
وقال أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع في كتابه أحكام
القرآن ما نصه: وقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة:
٢٢١) غير موجب لتحريم الكتابيات من وجهين: أحدهما: أن ظاهر لفظ
المشركات يتناول عبدة الأوثان منهم عند الاطلاق , ولا يدخل فيه أهل الكتاب إلا
بدلالة، ألا ترى إلى قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن
يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: ١٠٥) ، وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} (البينة: ١) ففرق بينهم في اللفظ وظاهره
يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه، إلا أن تقوم الدلالة على شمول الاسم
للجميع. اهـ.
وقد قالوا مثل هذا في عهود المشركين , والأمر بعموم قتالهم في أول سورة
براءة , وأنه نزل في مشركي العرب ولا يشمل أهل الكتاب.
وجملة القول أن (لقب المشركين) لا يصح إطلاقه على جميع الكفار لغة
ولا شرعًا , وأن الفرق بين المشركين وأهل الكتاب عظيم جدًّا. أصول الدين
الإلهي الإجمالية ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر , والعمل الصالح على
الوجه المشروع؛ ابتغاء مرضاة الله وثوابه، كما في آية البقرة , ويدخل في
التفصيل الإيمان بالملائكة والكتب الإلهية والرسل (عليهم السلام) ودار الثواب
ودار العقاب.
وأهل الكتاب يؤمنون بهذه الأصول كلها بالإجمال، وأما المشركون فلا يؤمنون
بشيء من تلك الأصول , ومن آمن منهم بالله أشرك معه غيره من خلقه، فجعل له
أندادًا يزعمون أن من تقرب إليهم يشفعون له عنده , فيقضي لهم حاجتهم لأجلهم ,
وأما ما دخل على كثير من أهل الكتاب من مثل هذا الشرك وغيره مما ينافي هداية
الرسل، فقد دخل على المسلمين مثله , وصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع , حتى لو سلكوا في جحر ضب
لسلكتموه , قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه
الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري وغيره بألفاظ متفقة في المعنى وهذا لفظ
البخاري عنه.
وإنما نفضلهم بأن كتابنا قد حفظ بلفظه ونقل باللسان والكتابة تواترًا , وبأن سنة
نبينا صلى الله عليه وسلم ضبطت ونقلت بالأسانيد المتصلة، فالرجوع إلى أصل
الدين ممكن في كل وقت , والإسلام حجة عليهم فمن كفر به بعد بلوغ الدعوة
بشرطها لا يعتد بإيمانه بغيره، كما إننا نكفر من جحد نبوة موسى وعيسى عليهما
السلام ولا نعتد بإسلامه.
لهذا الفرق العظيم بين أهل الكتاب والمشركين خص الله تعالى على أهل
الكتاب ببعض الأحكام؛ كأكل طعامهم، وصحة ذبائحهم , والتزوج منهم. وفي هذا
وذاك من أسباب المودة معهم ما هو معروف بالبداهة وبالتجربة، وبما بينه الله
تعالى من سنته في الزواج بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) وقال في بعض
العاملين بدينهم منهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا
وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: ٨٢) وأقرهم على دينهم حتى إن بعض الصحابة
كانوا قبل الإسلام أعطوا أطفالهم ليهود بني النضير؛ ليربوهم لهم , فلما كتب الله
عليهم الجلاء أرادوا أن يستردوا أولئك الأولاد، وكانوا قد كبروا وتهودوا , فأنزل الله
تعالى في ذلك الوقت {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة:
٢٥٦) فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيروهم، فمن اختار اليهودية جلا مع
اليهود، ومن اختار الإسلام بقي مع المسلمين. ولم يعامل المشركين بشيء من
هذا، بل قال صلى الله عليه وسلم في بيان العداوة بينهم وبين المسلمين , والبعد
الشاسع الذي لا تستقيم معه معاشرة: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر
المشركين. قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما) رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجه من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه ورجال إسناده
ثقات , ولكنهم صححوا إرساله، ورواه الطبراني موصولاً. وفي معناه أحاديث
أخرى.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))