(تتمة ما سبق) وأما القول بأن العمات والخالات النَّسَبية لولد المرضعة هن العمات والخالات الرضاعية له بعينها - فباطل؛ إذ مع أنه يشبه هذا هذيانات المجانين، نفرض أن ولد المرضعة لم يرتضع من أمه، فحينئذ لا يتحقق له الرضاع رأسًا، لا بالمعنى اللغوي ولا بالمعنى الشرعي، وليس هذا مجرد فرض بل هو متحقق في نفس الأمر، ألم تعلم أنه كم من ولد لا يرتضع من أمه ولا من ثدي آدمية، بل ينشر لحمه وعظمه من حليب بقرة، وأيضًا الشق الأول من الترديد الثاني يهدم بنيانه كما لا يخفى فحصحص لك أن دخوله تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: ٢٣) مستحيل، أي: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال، وإلا لزم المحال وكل ما هو مستلزم للمحال محال، ويتألف منه قياس اقتراني منتج للمطلوب هكذا: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة يستلزم المحال، وكل ما يستلزم المحال محال، فحرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال. ولك أن تؤلف قياسًا استثنائيًّا منتجًا للمطلوب أيضًا هكذا: لو حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة لدخل تحت خطاب قوله تعالى: (وبنات الأخ) لكن دخوله تحت خطاب قوله تعالى: (وبنات الأخ) محال، فحرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال. وأيضًا تقرر الدليل بوجه حسن جامع مختصر هو أن حرمة المحرمات من الرضاع ثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فالمحكوم عليه بحرمة هذه المحرمات إما أن يكون ممن صدر منه فعل الرضاع أولاً، والثاني: صريح الاستحالة من وجوه. أما أولاً: فلأن قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يحكم بأعلى صوت أن الحرمة الرضاعية متحققة من الرضاع ألبتة، فلزوم الحرمة من دونه مخالف لحكم الحديث. وأما ثانيًا: فلأن الرضاع هو علة تامة لحرمة المحرمات من الرضاع كما ينص به الحديث، فعدم العلة التامة ووجود المعلول محال قطعًا. وأما ثالثًا: فلأنه يلزم منه أن يثبت لكل فرد من أفراد أمة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك المحرمات من الرضاع من دون صدور فعل الرضاع منه، وهو كما ترى. وعلى الأول: إن حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة فإما أن يكون هو كالرضيع ممن يصدر منه فعل الرضاع أو لا يكون، فعلى الشق الأول يلزم أن تحرم من الرضاعة مجموع العمات والخالات والأخوات وغيرهن من الرضاع كما تحرم مجموع تلك المحرمات في النسب من نسبه وإلا بطل مقتضى الحديث وهو محال. وعلى الثاني: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة صريح البطلان والوجه ما تقدم. (فإن قلت) : إن ولد المرضعة وإن لم يكن ممن يصدر منه فعل الرضاع لكن له علاقة رضاعية لارتضاع الرضيع من أمه فتحرم بنت الرضيع عليه من رضاع الرضيع. (قلت) : ليت شعري ما شجعه على هذا القول؟ إذ هو باطل من وجوه: أما أولاً: فلأن علة الحرمة لكل واحدة من بنات الأخ والعمات والخالات وغيرهن سواء كن من النسب أو الرضاع واحدة، فلو حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة بناء على أنها بنت الأخ له من الرضاع من رضاع الرضيع للزم أن تحرم عليه العمات والخالات من الرضاع أيضًا. أما ثانيًا: فلأن ثبوت الحرمة من رضاع الرضيع بعلاقة رضاعية بما رويناه من الحديث غير مسلَّم، ومن ادعى فعليه البيان من الحديث والقرآن. أما ثالثاً: فلأن ولد المرضعة وإن كانت له علاقة رضاعية لكنه ليس ممن يصدر منه فعل الرضاع، وثبوت الحرمة لمن لا يصدر منه فعل الرضاع باطل من الوجوه التي تقدم ذكرها. أما رابعًا: فلأنه ههنا شخصان: أحدهما هو الذي صدر منه فعل الرضاع وهو الرضيع، فقد حرمت من رضاعه الأمهات وبنات الأخ والعمات والخالات وغيرهن من الرضاع بمقتضى الحديث، وثانيهما: هو الذي لم يصدر منه الرضاع لكن له علاقة رضاعية، وهو ولد المرضعة، فحينئذ إن حرمت عليه بنت الرضيع من رضاعه فإما تثبت الحرمة بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) أو لا، والثاني: صريح الاستحالة إذ الحرمة الرضاعية ثابتة بهذا الحديث، فهل يجترئ أحد على القول بالحرمة بدونه. وعلى الأول: لو سلم ثبوتها منه للزم أن تحرم من هذا الرضاع مجموع الأمهات والعمات والخالات وغيرهن من الرضاع بمقتضى الحديث، وإلا بطل مقتضاه، وهو صريح الاستحالة، وأما ثبوت حرمة بنت الرضيع فقط على ولد المرضعة فمحال قطعًا. واعلم أن حكم الرضاع والجزئية واحد، إذ على القول بعلِّية الجزئية وتسليمها لا بد أن يعبر عن الرضاع والنسب في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) بالجزئية النسبية، إبقاءً للحديث الذي هو المستدل به عند الكل، فهما سيان في الحكم، وهذا هو المحقق لدى المحققين الكاملين، وإن كان القوم عنه غافلين. (وأيضًا) تقرر دليلاً آخر أحسن، وهو يقتضي تمهيد مقدمات: الأولى: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة) يحكم بأن الولادة هي علة تامة لحرمة المحرمات السبع من النسب، وينص بأن وزان الرضاع وزان النسب بعينه. والثانية: أن الظاهر من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} (النساء: ٢٣) أن المخاطبين بقوله تعالى: (حرمت عليكم) الآية: كل فرد من أفراد أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في المقدمة الأولى أن الولادة هي علة الحرمة في المحرمات السبع، فوجب أن تكون علة الحرمة، وهي الولادة كما يفصح من الأحاديث أن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة، فلو لم توجد العلة لم يوجد السبب، وانعدام السبب يستلزم انعدام المسبب، فالحرمة كما ترى، على أن وجود الحرمة بلا قيام علة الحرمة بالمخاطب باطل من وجوه: أما أولاً: فإن الخطاب بأنه حرمت عليكم أيها المخاطبون عماتكم من الولادة، والولادة قائمة بغيرهم مستحيل؛ إذ هو ينبئ عن السفاهة والجهالة، والله تعالى عنهما علوًّا كبيرًا. وأما ثانيًا: فلأن حرمة العمات لزيد عليه لما كانت مُعلَّة بالولادة لزم قيام العلة به، فلو لم تكن العلة قائمة به لزم وجود المعلول بلا وجود العلة، وهو مُحَال، على أن حرمة المحرمات السبع إذا كانت معللة بالولادة فمن قامت به الولادة حرمت عليه لا على غيره، كما لا يخفى. وأما ثالثًا: فلأنه يلزم منه أن تحرم أخت عمرو على زيد مثلاً من العلة المُحرِّمة القائمة بعمرو، ومآله أن يرتفع حينئذ عقد النكاح الذي هو متحقق من الله ورسوله عن سطح الأرض إذ يلزم منه أن تحرم بنت كل واحد وأخته مثلاً على الآخر بالعلة القائمة به وهو كما ترى. وأما رابعًا: فلأن المخاطبين بهذا الخطاب كل واحد واحد على حياله، وكل واحد من العباد سواء عند الله في الحق، فثبوت الحرمة من العلة القائمة بالغير تخصيص بلا مخصص، وهو محال، والتخصيص من الله أيضًا باطل إذ نسبته إلى جميع الممكنات واحدة كما لا يخفى. وأما خامسًا: فلأنه لما كان كل واحد مخاطبًا ومحرمًا عليه بعلة الولادة، وجب قيام الولادة بكل واحد حتمًا، وإلا استحال وجود المخاطب والمحرم عليه فضلاً عن ثبوت المحرمات له، وكذا الحكم في الرضاع بعينه بحكم المقدمة الأولى. والثالثة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يحكم بأن حرمة المحرمات الرضاعية ثابتة من الرضاع كما أن حرمة المحرمات النسبية ثابتة من النسب، وإن الرضاع علة تامة للمحرمات من الرضاع كما أن النسب علة للمحرمات من النسب. والرابعة: أن الحرمة الرضاعية مستحيلة بدون الرضاع بحكم المقدمة الثالثة. والخامسة: أن الضرورة شاهدة بأنه لا بد من قيام علة الحرمة بالمحرم عليه أو المحرم بالذات، وإلا حكم بحرمة المباحات بأسرها كما لا يخفى. فإذا تمهدت هذه المقدمات فنقول: إنه لو فرضنا أن زيدًا مثلاً ارتضع من طلحة لحرمت رضاعة المحرمات السبع من الرضاع بحكم المقدمة الثالثة. وأما ولد المرضعة فلا يخلو إما أن يكون حصُل له الرضاع أم لا، فعلى الأول لزم أن تحرم من رضاعه أيضًا المحرمات السبع من الرضاع بلا فرق بحكم المقدمة الثالثة، وعلى الثاني ثبوت الحرمة له مستحيل جدًّا بحكم المقدمة الرابعة، وأيضًا القول بأن بنت الرضيع محرمة على ولد المرضعة من رضاع الرضيع محال قطعًا بحكم المقدمة الثانية وأيضًا من الخامسة، فقد استبان لك أن بنت الرضيع غير محرمة على ولد المرضعة ألبتة، هذا حكم حديث الرسول الكريم، والحق عند الرحمن الرحيم. (المنار) أثبتنا هذه الرسالة بحروفها، ونرغب إلى أفاضل علماء الأزهر الشريف انتقادها، إجابة لطلب مؤلفها وبيانًا للحق ونحن ننشر ما يكتبون لنا في ذلك، ونرجو منهم مراعاة الاختصار.