للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من جاوه
(س١٥ - ١٧) من سمبس بالإمضاء المبهم في ذيله
تتعلق بالربا في القراطيس المالية والفلوس النحاسية وصندوق التوفير
حضرة مولاي الأستاذ العلامة المِفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الأغر - زاده الله فضلاً وكرمًا - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد كلفني
عدد من العقلاء أن أرفع إلى حضرتكم أسئلة آتية أرجو من فضلكم الجواب
عنها وهي:
١- أعطى رجل رجلاً آخر دينًا قدره عشر روبيات هولاندية من فضة وشرط
عليه أن يدفع له خمس عشرة روبية من القراطيس المالية الهولاندية، قال عالم من
العلماء الجاويين (الملاويين) المدرسين في مكة المكرمة: هذا جائز، فإن بيع
القراطيس المالية بالروبيات الفضية مع زيادة أحدهما على الآخر جائز، وليس في
ذلك ربًا، بخلاف ما إذا بيع قرطاس من هذه القراطيس بجنسه مع زيادة، فإنه لا
يجوز كبيع الدرهم بالدرهمين، فهل هذا القول صحيح أم لا؟
٢- عندنا فلوس نحاسية هولاندية تساوي مائة سنت، منها روبية واحدة
هولاندية، فهل يجوز لنا أن نبيع روبية من هذه الروبيات بمائة وعشرين من هذه
الفلوس أم لا؟ قال العالم الجاوي: إنه يجوز، وعليه يقاس بيع القراطيس المالية
بالروبيات مع زيادة أحدهما على الآخر وهل هذا القول صحيح أم لا؟
٣- يوجد عندنا ما يسمى فوستر بنك parbank Posts وضعته الحكومة
الهولاندية لإيداع كل أحد من الناس يريد توفير ماله، والفوستر بنك لا يقبل أكثر
من ألفين وخمسين روبية يودع فيه، وكل من أودع ماله فيه نحو سنة زاده عليه
زيادة وله أن يسترد منه ما شاء ومتى شاء، فهل يجوز لنا أن نودع مالنا فيه ونأخذ
الزيادة؟ أم يجوز لنا إيداع مالنا فيه فقط ويحرم علينا أخذ الزيادة؟ وهذه الزيادة
ليست بكثيرة وإنما هي نحو اثنتين أو ثلاث بالمائة.
هذه هي الأسئلة المرجوة من علومكم الجواب عنها جوابًا شافيًا، ولكم منا
الشكر والثناء الجميل، ومن الله الأجر الجزيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (سائلون)
... ... ... ... ... سمبس تحريرًا ٧ ذي القعدة سنة ١٣٣٩
(جواب المنار)
قد سبق لنا فتاوى في هذه المسائل وأمثالها، منها فتوى في الأوراق المالية
المسماة بالأنواط أو (بنك نوت) وبحث الزكاة والربا فيها (ص ٥١ م٥) وفتوى
في بيع الدَّين بالنقد والأوراق المالية وهل هي نقود أم لا (٥٣٨ م٩) وفتوى في
صندوق التوفير (ص٧١٧ م٦ و٢٨ م٧) وغير ذلك. ومذهب المنار في أمثال
هذه المسائل المدنية أن يراعى فيها نص الشارع وحكمة التشريع والقواعد العامة،
ولا سيما القطعي منها كاليسر ودفع الحرج والعنت ونفي الضرر والضرار وجلب
المصالح ودفع المفاسد، فبمجموع هذه الدلائل نفتي في الوقائع المستحدثة التي لم
تكن في العصر الأول، ونكتفي في الجواب الإجمالي هنا الإحالة على ما تقدم.
حكم الأنواط في البيع والدين
المسألة الأولى: استدانة عشر روبيات هولندية من الفضة بخمس عشرة
روبية من القراطيس المالية الهولندية، هذه القراطيس سندات أو حوالات من
الحكومة الهولندية بدين عليها لحاملها من الروبيات الفضية، فهي ليست عروض
تجارة لها قيمة ذاتية، ولكن لها حكم النقد الربوي وإن لم تكن فضية؛ لأن حاملها
يأخذ بها ما رُقم فيها من نقد الفضة فكأن الدائن في الواقعة المسئول عنها قال للمدين:
خذ هؤلاء العشر روبيات بشرط أن تعطيني بها حوالة على فلان الغني الملي
الوفي بخمس عشرة، فهل يصح أن يقال في مثل هذه الصورة: إن الدائن اشترى
من المدين ورقة بعشر روبيات من الفضة نسيئة وأن الورق غير ربوي فلا يشترط
أن يباع مثلاً بمثل ولا يدًا بيد لاختلاف الجنس؟ ما أظن أن ذلك المدرس الجاوي
يقول بجواز هذا، فإذا صدق ظني فبماذا يفرق بين الصورتين؟
قد يقاول هذه القراطيس المالية الدولية، قد تنقص قيمتها بالنقد الفضي والذهبي
عما التزم بها من روبيات أو قروش أو جنيهات فتباع بما دونه كما هو واقع اليوم
في القراطيس (الأنواط) النمساوية والألمانية والفرنسية وغيرها، فمنها ما يباع
بنصف القيمة وما يباع بخمسها أو سُبعها أو أدنى من ذلك أو أكثر، فبهذا صارت من
قبيل عروض التجارة، ونقول إن هذا النقص في قيمة الأنواط لا يكون من الحكومة
التي أصدرتها في بلادها وإنما يعرض في التعامل بين الأجانب وسببه أن الثقة المالية
بالدول تقوى وتضعف أحيانًا كالثقة بالأفراد بما يعرض لها من العجز عن دفع كل ما
عليها من الدين فحينئذ يرضى من بيده سند أو حوالة على مثل هذه الدولة أن يبيعه بما
دون القيمة المرقومة في السند أو الحوالة إذا لم يكن يستطيع معاملة هذه الدولة بها أو
انتظار عودة الثقة المالية التي تمكنها من الوفاء بما التزمته من دفع هذه القيمة وتحمل
الناس على تداول قراطيسها (أنواطها) بقيمتها الكاملة، ومثل هذه الحالة لا تصدق
على مثل الحكومة الهولاندية في بلادها ومستعمراتها، فإن قراطيسها المالية لا تنقص
عن القيمة المرقومة فيها من الروبيات الفضية، فإذا أخذ الدائن من المدين في النازلة
المسئول عنها قرطاسًا بخمس عشرة روبية، فإنه يمكنه أن يأخذ من الحكومة هذا
المبلغ من الفضة أو يدفعه لأي مصلحة من مصالحها بهذه القيمة، فإذا كان عليه دين
للحكومة قبلته منه خزينتها، وإذا دفعه لمصلحة البريد أو مصلحة الجمارك أو صندوق
التوفير فإنها لا تفرق بينه وبين الفضة ألبتة، وإنما قد يفرق بينهما في البلاد الأجنبية
التي لا تتعامل بقراطيس هذه الدولة ولا فضتها بحسب الأحوال التي أشرنا إليها آنفًا.
وإذا سلم أن هذه القراطيس من قبيل عروض التجارة امتنع فيها الربا في
جميع مذاهب الفقهاء؛ لأنها ليست من النقد ولا من أصول الأقوات التي ورد بها
النص ولا مما ألحق بها قياسًا فتعد ربوية عند أهل الحديث وفقهائه ولا من المكيلات
ولا من الموزونات فتعد ربوية عند أهل الرأي، فكيف منع زيادة أحد العوضين فيها
فجعلها كبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة أو البر بالبر.
فظهر بهذا أن رأي ذلك المدرس على كونه غير مطابق للواقع يؤدي إلى
إباحة الربا الذي لا شك فيه حتى في دار الإسلام بين أهله ويذهب بحكمة الشرع في
تحريمه وهو تعاطف الناس وتراحمهم وتعاونهم في أوقات العسرة كما أنه يُتوسل به
إلى منع الزكاة أيضًا.
بيع الفلوس النحاسية بالفضة
وأما المسألة الثانية وهي مسألة الفلوس النحاسية، فقول العالم الجاوي فيها هو
عين مذهب الشافعية الذي يتقلده مسلمو جاوه، فهو مصيب فيه ولكنه مخطئ في قياس
القراطيس المالية عليه لأنها سندات أو حوالات بنقد ربوي، ولو كانت هذه الفلوس
عمدة في النقد لجُعل لها حكم الذهب والفضة بالقياس الجلي أو فحوى النص، وليست
كذلك، بل جعلت لأجل ضبط كسورهما والتعامل بها قليل ومحصور ما تضربه كل
دولة منها في بلادها، فلو نقل إلى بلاد أخرى لا يتعامل به ولا يباع بقيمة النقد ولا
بقيمة معدنه لو كان آنية بخلاف نقود الفضة فإنها تباع في كل قطر لا يتعامل أهله
بها بقيمة معدنه، وما نقلناه في هذه الفلوس هو المتعين في القوت الغالب إذا لم يكن
من الأقوات التي ورد بها النص.
صناديق التوفير
والفرق بين دار الإسلام وغيرها
وأما المسألة الثالثة وهي مسألة صندوق التوفير فهي عامة في جميع الممالك
الأوربية وما على نسقها من البلاد كمصر، وقد أجازه جماعة من علماء المذاهب
الأزهريين وأفتى به مفتي الديار المصرية بعد تطبيق استغلال مصلحة البريد
المصرية للأموال المتوفرة فيه على بعض أحكام الشركات الشرعية كما بيّناه في
المنار، فراجعوا ذلك في المجلدين السادس والسابع.
ونزيدكم على ذلك أن علماء الأزهر نظروا في ذلك وأقروا ما أقروه فيه بطلب
أمير البلاد بناء على اعتبارهم أنها بحسب حالها الشرعية دار إسلام، وكان ذلك
قبل الحرب الأخيرة ووضع مصر تحت الحماية الأجنبية التي لا يعترفون بها
ببضعة عشر عامًا، وبلاد جاوه ليست دار إسلام ولا تجري فيها المعاملات المالية
على الشريعة الإسلامية، فلا يجب على المسلم فيها أن يلتزم في هذه المعاملات مع
الحكومة الهولندية أو الشركات الهولندية أو الأفراد أحكام شريعته في الربا وعقود
البيع والإجارة والقروض وغيرها، بل يحل له أن يأخذ من أموالهم ما تبيحه له
شرائعهم وقوانينهم وما كان بتراضٍ منه ومنهم دون ما كان بخيانة.
ثم إن الربا إنما يتحقق في عرف الفقهاء بالعقد الذي يشترط فيه من يعطي
المال أن يأخذ عليه ربحًا معينًا، فمن أقرض رجلاً مالاً بغير عقد ولا شرط فرده
إليه وزاده من غير اشتراط زيادة كان ذلك حلالاً، وقد ثبت في الحديث الصحيح
استحباب ذلك كما بيّن في محله من صحيح البخاري وغيره، وحديث: (كل
قرض جر منفعة فهو ربا) غير صحيح كما بيّنا ذلك من قبل.
فعلم بهذا أن للجاويين وأمثالهم عدة وجوه لوضع شيء من أموالهم في صندوق
التوفير الذي وضعته حكومتهم وأخذ الربح منها، ومثله وضع المال في مصارفهم
المالية وأخذ الربح منها كما يفعل مسلمو الصين، ومما يبعث العجب من حال كثير
من المسلمين أنهم قد اختاروا لأنفسهم بلبسهم الدين مقلوبًا كالفرو أن يقترضوا المال
من الأوربيين بالربا ولا يقرضوهم، ويودعوا أموالهم في مصارفهم (البنوك)
ليستغلوها ولا يستبيحون لأنفسهم أن يشاركوهم في شيء من ربحها، ومعنى هذا
أنهم يفهمون من دينهم أنه أباح لهم أن يتلفوا ثروتهم ويعطوها للأجانب حتى
الفاتحين منهم لبلادهم باسم الفتح أو الاستعمار أو باسم آخر وحرم عليهم أن ينتفعوا
بشيء منهم ولو كان برضاهم، وبعض ثمرة ما أعطوهم من المال، وأعجب من
هذا أن منهم من يشكو من شرع دينه ويزعم أنه لا ينطبق على مصلحة الأمة في
هذا العصر وأن تركه إلى شرائع تلك الأمم أنفع لهم وإنما الأمر بضد ذلك، فقاعدة
الشرع الإسلامي أنه لا حرام إلا ما كان ضارًّا ومنه إضاعة المال، ولو عرف
المسلمون حقيقة شرعهم والتزموا أحكامه لكانوا أغنى الأمم وأعزها ولما أضاعوا
مُلكهم ومِلكهم، وإنما أضاعوهما بجهله وترك العمل به، والذنب الأكبر في هذا
على علمائهم الجامدين، وحكامهم الجاهلين أو المارقين.
هذا وإن على المسلمين أن يراعوا في غير دار الإسلام أحكام دينهم وحكمه
فيما بينهم حتى في المعاملات، فلا يباح للموسر منهم أن يقسو على المحتاج إذا
اقترض منه فيستغل ضرورته أو حاجته بما تبيح له قوانين البلاد من الربا.
والفرق بين هذا وبين ربح صندوق التوفير والمصارف المالية عظيم جدًّا،
فإن الربا إنما حرم في دار الإسلام لضرره كما علَّله تعالى بقوله: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: ٢٧٩) وليس في أخذ الربح من
صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام،
وقد فصَّلنا القولَ في الربا هذا في تفسير آية آل عمران فيه، فليراجع.