ولنعد إلى ما كنا بصدده فنقول: قد بينا في رسالتنا السابقة بعض حجج ما ذهبنا إليه، وسنزيد ذلك إيضاحًا، فنقول: إن الكلام إذا سيق، فإنما يساق بمناسبة المتأخر لما تقدمه وابتني عليه، ودونك ما قبل هذه الآية؛ لتعرف دلالة السياق، وأن الكلام مسوق في أي شيء؛ أهو في ذكر المعجزات، كما قال الدكتور الفاضل أم في ذكر الدين وشرائعه وأحكامه، ومن هنا تعرف أن ما ذكرناه عن السلف في تفسير هذه الآية هو المناسب لسياقها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: ١٠٤-١٠٥) ففي أول هذه الآية حذر المؤمنين من موافقة الكافرين في إطلاق الألفاظ الموهمة؛ كقولهم راعنا، ثم أخبرهم في آخرها بشدة عداوة الكفار لهم، وأنهم يكرهون نزول الخير إليهم، وذلك الخير الذي تفضل الله به على عباده المؤمنين: هو الشرع التام الكامل [*] الذي شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واختصه وأمته به، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: ١٠٥) - وعلى مناسبة ذلك قال: {مَا نَنْسَخْ} (البقرة: ١٠٦) من هذا الخير: وهو الشرع المحمدي {مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) فليس من باب تفويت أو إحرامكم بعض هذا الخير الذي تفضلنا به عليكم، بل نفعل ذلك؛ لنأتيكم بخير منه إذا نسخناه، أو بمثله إذا قصرتم في حفظه ونسيتموه. أما قوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٦) إلى آخره، فإنما ذكره في عقب هذه الآية؛ كالدليل بالشيء على نظيره، وذلك مثل استدلاله جل شأنه على البعث وإمكانه بالخلق الأول، وبإحيائه الأرض بعد موتها، وقد ذكرنا في رسالتنا السابقة مناسبات أخرى فارجع إليها، وليتأمل الفاضل في هذا المقام، وليعطه حقه من النظر. ونقول أيضًا: نحن قد قدمنا وقلنا غير مرة: إنه قد علم من ديننا بالضرورة أن القول بالرأي في الدين؛ وبالأخص تفسير القرآن، لا يجوز مطلقًا، فما بالك برأي مخالف لما قاله السلف ولما نقلوه [١] . ثم نقول لحضرة الدكتور الفاضل: هب أن السلف لم يتكلموا، ولم ينقل عنهم في تفسير هذه الآية شيء، أفليس الواجب أن نرد كل لفظ إلى أصله، ونحمله على معناه الحقيقي؟ ولا نقدم على القول بالمجاز ولا نعدل إليه؛ إلا إذا تعين بقرينة، فإذا عرفت ذلك، نقول: قال في القاموس نسخه: كمنعه أزاله وغيَّره وأبطله، وأقام شيئًا مقامه، والشيء مسخه، والكتاب كتبه عن معارضة؛ كانتسخه واستنسخه، المنقول منه نسخة بالضم وما في الخلية حوله إلى غيرها , انتهى. والمعنيان الأخيران لا يصح حمل الآية المتنازع في تفسيرها عليهما اتفاقًا، فلا يبقى إلا الإزالة والتغيير والإبطال، فإذا كان المراد بالآية في قوله تعالى: ما ننسخ من آية المعجزة، كما يقول حضرة الفاضل، فما معنى إزالتها أو إزالة مثلها فإنه لا يزال ولا ينقل إلا ما كان ثابتًا في الخارج , وأما ما يعدم ويفوت بفوات وانقضاء زمنه، فلا يقال: أزاله ولا يزيله، نعم.. يقال في مجاز اللغة: أزلت حجته بمعنى بينت كذبها وعدم صحتها، فإذا أريد بالآية المعجزة، فلا يجوز حملها على معنى الإزالة حقيقة ولا مجازًا، بقي التغيير والإبطال، والقول فيهما كالقول في الإزالة، وهل يصح أن يقال: إن الله غيَّر وأبطل معجزات الأنبياء السابقين، فإذا فسد التفسير بحمل الآية على المعجزة، تعين حملها على آيات الإحكام ونحوها من آيات القرآن؛ لصحة قولنا حكم كذا، وأقمت مقامه حكمًا آخر، أو أزلت الكلمة وأقمت مقامها كلمة أخرى، فما ذكرناه في تفسير الآية هو الحقيقة التي لا يصلح إرادة غيرها، بذلك قال السلف كما عرفت ذلك عنهم فيما سلف، ولو جوزنا العدول عن الحقيقة إلى المجاز بلا قرينة، ولا مرجح للعدول، وسلمنا ما قال: بأن النسخ قد يكون بمعنى الترك، فكذلك لا يصح إرادة ما قاله الفاضل، ولا يجوز أيضًا؛ لأن ترك الشيء لا يكون إلا إذا أمكن فعل ذلك الشيء نفسه، والمعجزة الفعلية التي وقعت وانقضى زمنها: كانقلاب عصا موسى عليه السلام حية مثلاً، لا يمكن أن تعاد نفسها لا سيما مع عدم وجود العصا، فإن قيل: المراد مثلها، قلنا: وهذا مجاز بتوسط تأويل، ولو سلمناه أيضًا فإنه لا يصح حمل الآية عليه؛ لأنه لا يصح؛ إلا بعد أن يثبت أن الله قدر وكتب في الكتاب الذي كتبه لكل مدة مضروبة بأن سيؤيد محمدًا صلى الله عليه وسلم بمثل تلك المعجزات الماضية مماثلة من كل الوجوه، فإذ قدر أنه عدل عن ذلك إلى ما يماثلها من بعض الوجوه، جاز أن يقال: ترك هذا المثل لهذا المثل، ولا يخفى أن الهجوم على ذلك بلا توقيف جراءة واستبداد على الله. فإن قيل: لا نقول إنه ترك ما كتب، وقدر أنه يؤيد به محمدًا صلى الله عليه وسلم كما ذكرتم، قلنا: إن تنظير الدكتور للنسخ في هذه الآية بقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) صريح فيما ذكرنا فساده. ونقول أيضًا: إن ما هو نحو المعجزات من الأفعال التي مضت وانقضت هي الآن معدومة، فإن قيل: المراد مثالها الموجود في بعض الأذهان، فيجوز تركه، قلنا ذلك ممنوع؛ لأن الموجود في الأذهان المذكورة، إنما هو التصديق بتلك المعجزات ونسخه إنما يكون بنقضه وتكذيبه وهو محال أيضًا ما في أذهانهم، لو أوجده الله في الخارج؛ فهو لا يكون إلا نفس المعجزات الماضية التي قد عدمت، والأفعال التي قد وقعت لا يمكن أن تعاد نفسها، وما كان كذلك فلا يقال: إنه تركه، وعليه فالنسخ بمعنى الترك، لا يمكن أن يفرض إلا فيما يماثل من بعض الوجوه ما حفظه بعض الناس من معجزات الأنبياء، وحينئذ لا يكون المنسوخ في الآية ما قد وجد، ولا مثاله الموجود في أذهانهم، بل هو ما يماثل مثاله من بعض الوجوه، وهذا إنما هو معدوم؛ لأنه غير موجود في الأعيان ولا في الأذهان، ومعلوم أن الله لم يرد أنه نسخ أو ترك المعدوم المطلق، أو أنه أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بخير منه أو مثله؛ لأن الخيرية والمثلية لا يوصف بها المعدوم، فظهر بذلك أن المعنى الذي حمل الآية عليه حضرة الفاضل لا يصح إلا فرضه في المعدوم المطلق وسياق الكلام ومعناه يأبى ذلك، وإلا للزم وصح أن يقال: إن كل ما أوجده الله فهو بدل ومثل ومسبب عن ترك معدوم مطلق، لم يقدر في كتاب، وهذا لم يقله أحد. هذا بعض ما نقوله في المنسوخ الذي ذكره الله في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) وقد عرفت أنه لا يصح أن يفرض شيئًا مما قدمنا بيانه. أما معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم: فلا شك أنها قد وفت وقامت بتأييد رسالته صلى الله عليه وسلم، كما قد وفت معجزات الأنبياء السابقين بتأييد رسالاتهم وزيادة. لكن إطلاق أن هذا ناسخ لهذا لا يصح في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) وقوله (فكل آية من آيات الأنبياء السابقين إلى قوله: قد أتى الله بمثلها في الإقناع والهداية أو بخير منها، قلت: نعم.. والأمر كذلك إلا أنا قد قدمنا فساد فرض المنسوخ بمعنى المعجزة، وعليه فما أتى الله ومنَّ به على نبينا من المعجزات، فليس بدلاً عن معجزات الأنبياء السابقين؛ على معنى أن تكون ناسخة لتلك، ولو كان كل معجزة لنبي متأخر ناسخة لمعجزات من تقدمه، لكانت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لمعجزات عيسى عليه الصلاة والسلام، ومعجزات عيسى عليه السلام ناسخة لمعجزات من تقدمه، وهلم جرًّا , وعليه فما أتى به محمد من المعجزات؛ لا تكون بدلاً لكل معجزات الأنبياء السابقين وإلا للزم نسخ المنسوخ حين هو منسوخ [٢] . ونقول أيضًا: يلزم الفاضل المذكور في الأدلة المتعددة المختلفة الحقائق على صحة المدلولات المتماثلات، والمدلول الواحد تصحيح إطلاق أن كل واحد منها ناسخ للآخر، فليتأمل الناظر وليحكم بما شاء بشرط الإنصاف. أما قول الفاضل الممدوح: وإذا كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات، فهل أتى تعالى بدل الآيات المنسوخة بآيات خير منها؟ إن كان ذلك صحيحًا، فكيف نسخ كثيرًا من أحكام القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ وأقول: قد عرفت أنه لا يمكن حمل ذلك على غير آيات الأحكام، ونقول: نعم.. إنه قد عوضنا بدل كل آية نسخها ورفعها بما هو مثلها وأفضل منها، وذلك موجود في هذا القرآن الذي بين أيدينا. أما قوله: فكيف نسخ كثيرًا من القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ فجوابه أنه لم يفضل أحد أحكام القرآن على أحكام السنة؛ لأن الكل من الله، والحكم الناسخ سواء كان في القرآن أو في السنة، هو أكثر خيرًا من المنسوخ، ولا تفاوت في نفس الحكم إلا أن هذا يكون أصح من هذا، كما سيأتي بيانه. نعم ألفاظ القرآن هي أفضل من ألفاظ الأحاديث، ولم يقل أحد أن لفظ الحديث ناسخ للفظ القرآن، فما أراد إيراده غير وارد، فتأمل. ونحن قدمنا الكلام في اختلاف العلماء في النسخ فارجع إليه، فمن يجوز نسخ القرآن بالسنة، بعضهم يقول: إن ذلك جائز لكنه لم يقع، وأما من يقول منهم بوقوعه فلهم أن يفرقوا بين نسخ الآية ونسخ حكمها؛ بأن يقولوا: إنه من المعلوم بالضرورة أن الدين كله سواء كان قرآنًا أو وحيًا غير قرآن - وهو السنة - إنما عرفناه بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عرفنا صدقه وصحة نبوته ورسالته، فلا يجوز لنا أن نقبل بعض ما جاء به، ونترك البعض الآخر؛ إذ لو فعلنا ذلك لكنا مكذبين له صلى الله عليه وسلم في ذلك البعض، وذلك كفر في دين الله، وبه كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: ٨٥) بناء عليه يجوز أن يكون بعض أحكام السنة خيرًا من الحكم المنسوخ الذي كان في القرآن، وإذا كان المراد بالخيرية أن يأتي بخير منها أي ببدل ذي مصلحة راجحة، فلا قباحة في أن يقوم الحديث النبوي بدلاً عن لفظ آية وحكمها معًا. أما الوصية للوالدين والأقربين الوارثين فالجمهور يقولون: إن الناسخ لها إنما هي آية المواريث، والسنة مبينة وشارحة لذلك الناسخ. هذا بعض أجوبتهم، وهو مانع ودافع لكل إيراد، قلت الإيراد الصحيح في الآية: إنما يتوجه على مذهب حضرة الدكتور الفاضل؛ لأنه إذا منع النسخ في القرآن مطلقًا به أو بالسنة، لزمه أن الواجب للوالدين الوصية، والنصيب الذي فرضه الله لكل واحد منهما في آية المواريث، وحينئذ يعترض عليه، ويقال: إنه إما أن يكون ما فرضه لها وافيًا بحقها، أو ليس بواف بحقهما وعلى كل تقدير. إما أن يلزم النقص أو الظلم [**] لا يقال: إن الوصية إنما ندب إليها ولم يوجبها؛ لأنا نقول: إن الاعتراض وارد على الاستحباب أيضًا، على أن في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: ١٨٠) في أول الآية وقوله: {حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: ١٨٠) في آخرها دلالة ظاهرة لا يعتريها شك، ونص في الوجوب فالاعتراضات الواردة الصحيحة إنما ترد على مذهب الفاضل الدكتور. قال الفاضل: وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمها معًا؛ كقوله عشر رضعات معلومات يحرمن الذي نسخ على زعمهم بقوله: خمس رضعات معلومات ثم نسخ لفظ هذا الأخير، ولم يأت بدله؟ قلت: والجواب من وجوه، وهو يختلف باختلاف مشارب الناس في هذا الموضع. (الأول) من لم يشترط التواتر في نقل القرآن، وهؤلاء يقولون: إن آية (؟) الخمس الرضعات المعلومات هي آية (؟) من القرآن الكريم، وهي محفوظة بهذه الرواية ونحوها، ولها عندهم حكم القرآن المتلو، ومن يقول بذلك فلا يرد عليه اعتراض حضرة الدكتور الفاضل ههنا من أصله، فإن كان يرد عليهم اعتراضات أخرى، فإنهم قد أجابوا عنها. (الثاني) قول من يقول: إن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وناسخه لا يكون إلا قرآنًا أو سنة كذلك. (الثالث) إنا نختار أن نقول: لا شك أن العشر الرضعات قد ثبت أنهن كن فيما نزل من القرآن الكريم، وثبت إنهن نسخن، ونقل المنسوخ لا يشترط فيه التواتر؛ لأن اشتراط التواتر في القرآن إنما التزمه من التزمه؛ لأن من خالف الإجماع يكون شاذًّا مخالفًا لما نقله جميع الصحابة، من حصرهم القرآن المحكم في هذا المصحف الموجود بين أيدينا، وإذا صرح وقيد الناقل أن ذلك قد نسخ لفظه أو وحكمه فلا شك أن ذلك يخرجه عن الشذوذ، فلا يكون مخالفًا للمتفق عليه من القرآن لجواز أن يكون الصحابة رضي الله عنهم تركوا نقله؛ لكونه منسوخًا لفظًا. بقي البحث في الناسخ؛ وهو الخمس المعلومات، ثم هذه الخمس المعلومات، هل هن قرآن محكم باقٍ لفظه وحكمه، أم ليس هن بقرآن؟ وقد قدمنا قول من لم يشترط التواتر، وبعض من يشترط التواتر يقبل الحكم ولا يقبل القرآنية، فمن يقول: إن القرآنية المنقولة بنقل الواحد ونحوه إذا خالفت المصحف كانت شاذة، فمخالفة الجمهور أسقطت القرآنية؛ لاحتمال أن يكون الراوي الواحد ونحوه نقل ما كان منسوخًا لفظه، ولم يعلم بنسخ لفظه أو أنه ظن أن ذلك قرآن. أما الحكم المتضمنة له تلك الرواية فهو غير معارض بنقل الجمهور للقرآن، وباب الحكم غير باب اللفظ والقرآنية، فمن هنا قالوا بقبول الحكم ورد القرآنية فتفكر. وآية عدد الرضعات المرفوعة المنسوخة؛ هي ليست في الحقيقة مما يصح أن يورد عليها ما أورده، الفاضل يعرف ذلك بجمع أطراف الرواية، ودونك ذلك روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن) ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، رواه مسلم وأبو داود والنسائي وفي لفظ قالت: وهي تذكر الذي يحرم من الرضاعة: نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل أيضًا خمس معلومات، رواه مسلم. وفي لفظ قالت: نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمرعلى ذلك، رواه الترمذي وفي لفظ كان فيما أنزل الله -عز وجل - من القرآن ثم سقط، لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات، رواه ابن ماجه , والناظر يرى أن الصديقة (رضي الله عنها) لم تذكر لا الناسخ ولا المنسوخ بلفظه ولا سياقه، ولم تبين محله، نعم.. روايتها ظاهرة في أن عدد الرضعات كان قرآنًا في الجملة، وبعضها ظاهرة في أن العشر نسخن بالخمس، ورواية الترمذي هي صحيحة؛ ولا تتبين دلالتها على أن الخمس التي هي بدل عن العشر أنها كانت قرآنًا، ولا تدل على أن النسخ وقع بالخمس أيضًا، وبناء على ما تقدم فقولها - رضي الله عنها -: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن أي: إن بعض من لم يبلغه النسخ كان يقرأ ذلك؛ وهو مع شذوذه عما نقل الجمهور لم يثبت قراءته في المصحف، ولعله رجع عن ذلك، ثم يحتمل كلامها أن من بقي يقرأ كان يقرأ العشر والخمس معًا، أو أنه كان يقرأ الخمس فقط؛ ظانًّا أن ذلك لم ينسخ، وهذا الاحتمال الأخير بعيد. فهذه احتمالات , وأما حديث ابن ماجه عنها؛ فظاهر أن العشر أو الخمس إنما هو آية واحدة، ودلت هذه الرواية على أن الكل رفع وبناء على ذلك إن من لازم نسخ العشر، أن تنسخ الخمس معها وترفع برفعها لكونها جزءًا من آية، ولأن الخمس إنما هن معطوفات على العامل في العشر فهي منسوخة بالتبع؛ لعدم جواز بقاء لفظها بعد نسخ أول الآية، وإلا لبقيت غير معلومة المعنى، ومثل ذلك لا يجوز بقاؤه أو وجوده في القرآن، فاندفع ما أورده الدكتور الفاضل؛ فقوله في حديث مسلم رحمه الله ثم نسخن بخمس معلومات أي: بقاء حكم جزء الآية المرفوع لفظه بالتبع، وهي الخمس المعلومات ناسخ للعشر المقصود رفعها، ونسخ حكمها بالأصالة والذات وبقي بعض من لم يبلغه رفعها ونسخها يقرأها هكذا: لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات. قلت: وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: ٢٣) يصح أن نقول: إنه بدل عن هذا المرفوع، ورواية أم المؤمنين رضي الله عنها قد أثبتت أن حكم العدد محكم، فتحريم الأمهات المرضعات في هذه الآية وارد في رضاعة معلومة؛ وهي الخمس الرضعات. وعائشة رضي الله عنها يتعين أن تكون سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: إن هذا كله منسوخ حكمه ولفظه، وناسخ ذلك الإطلاق في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: ٢٣) فما وصل الجوف هو الرضاع المحرم، ومنهم من قال: إن الله أطلق تحريم المرضعة، والمرجع في ذلك إلى السنة، وقد ورد أن المصة والمصتين، والرضعة والرضعتين، والإملاجة والإملاجتين لا تحرم. وحديث عائشة - رضي الله عنها - فيه إناطة التحريم بخمس معلومات، فوجب المرجع إليه فيما نعتقد، وقدمنا توجيهه، بذلك اندفع اعتراض الدكتور الفاضل أيضًا، وثبت أن الناسخ لذلك هو القرآن مفسرًا المراد منه بالسنة أو بما له حكم السنة، وظهر بما قدمناه أيضًا النكتة في نسخ لفظ الخمس، والله أعلم. وأما آية الرجم فقد قدمنا الجواب عن رفع لفظها وحكمته فلا نعيده. وإذ قد فرغنا عن جواب كل إيرادات الفاضل في مسألة النسخ، فلنشرع في الجواب عما أورده من الشبهات على وجوب العمل بأحاديث الآحاد الصحاح فنقول. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))