للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الحرب البلقانية والمسألة الشرقية)
قد عرف القراء رأينا في المسألة الشرقية من المقالات العشر التي نشرت في
منار السنة الماضية عند إغارة إيطالية على طرابلس الغرب , ثم جاءت حرب
البلقان مؤيدة لرأينا في تلك المقالات وداحضة لآارء قصار النظر الذين لا يرون إلا
ما كان بين أيديهم، غير بعيد عن مواقع أبصارهم , وقد بينا في غير تلك المقالات
أن الدولة لا تقدر أن تحفظ جميع بلادها بقوتها العسكرية المنظمة، بل الوسيلة
لحفظها هي إيجاد قوة دفاعية أهلية في كل قطر وكل ولاية، وهو ما يعبر عنه
إخواننا الترك بالدفاع المِلّي , وهذا رأي لنا قديم طالما جهرنا به وعرضناه على
بعض رجال الدولة، وذاكرنا فيه بعض من عرفنا من الضباط أركان الحرب
وغيرهم في الآستانة , ونرى الحوادث تؤيده آنًا بعد آنٍ بالوقائع المشاهدة، ومع هذا
نرى أكثر الناس غافلين عنها.
بدأت الحرب البلقانية والدولة غير مستعدة لها خلافًا لما كان يعتقده العالم كله
من عثمانيين وأوربيين، لأن الجميع يعلمون أن هذه الدولة دولة حرب فقط،
ويظنون أنها مهملة لكل شيء أو مقصرة فيه إلا الاستعداد الحربي، وأن هذا
الاستعداد لا يوجد تامًّا إلا في العاصمة وحَرَم العاصمة وجوارها، ولكن البلغاريين
وحدهم هم الذين كانوا أعلم من العثمانيين ومن الأوربيين بكُنه هذا الاستعداد،
وجميع ما هنالك من نقص وضعف وخلل؛ لأن جواسيسهم كانوا متغلغلين في كل
مكان، ويوجد في رجالنا من الخونة من يبيعهم كل ما يبذلون فيه المال، فانتهزوا
فرصة هذا الخلل والتقصير، وسائر ما أحدثته جمعية الاتحاد والترقي من الفساد في
الجيش والعناصر، وألفت الوحدة البلقانية بمساعدة روسية، في أوائل العام الماضي
على عهد الوزارة السعيدية الاتحادية، التي كانت بركان الشقاء والشقاق في البلاد
العثمانية.
اشتعلت نار الحرب فكان الرجحان فيها للبلقانيين فما زال البلغاريون منهم
يطاردون العثمانيين حتى خط الدفاع الأخير أمام الآستانة في المكان الذي يسمى
(شتالجة) حيث تصل أصوات المدافع إلى العاصمة، وهذا خط ضيق ينتهي من أحد
جانبيه ببحر مرمرة ومن الجانب الآخر بالبحر الأسود، فكان الأسطول العثماني
يحمي جناحي جيشنا من الجانبين فتتوفر القوة البرية في القلب، ومعظم الجيش في
هذا الخط جديد لم يُكسر فوقه، ولم تُفسِد بأسه الهزيمة، ولا أنهكه الجوع والتعب،
وهو يجد كل ما يحتاج إليه من المؤنة والذخائر حاضرًا لقربه من العاصمة , وأما
جيش العدو فقد كان منهوك القوى، وبعُد عن بلاده فصار نقل المؤنة والذخيرة إليه
عسرًا - لهذا كله، ولما هو معروف عن العثمانيين من قوة الدفاع والثبات والصبر
فيه قد ارتد جيش العدو عن هذا الخط خاسئًا خاسرًا ولم ينل منه نيلاً، بل نال شرًّا
وويلاً.
ما ظهر رجحان البلقانيين على العثمانيين، إلا وأظهرت دول الاتفاق الثلاثي
المصيبة للغالبين، تبعًا لصديقتهم الروسية موقظة هذه الفتنة، وصاروا يتحدثون
بقسمة الولايات المقدونية بين الغالبين وإخراج الترك من أوربة، ومنها امتداد
حدود الصرب إلى السواحل الألبانية من بحر الأدرياتيك، وهذا مما يضر
دولة النمسة وينافي مصلحتها، وينافي أيضًا مصلحة إيطالية على ما في المصلحتين
من التعارض، حينئذ كشرت النمسة عن أنيابها، وأمرت بحشد جيوشها،
وصرحت بأنها لا تأذن للبلقانيين بإعطاء الصرب ما يطلبون من ساحل البحر، ولا
بالاعتداء على بلاد الألبانيين بل يجب أن تكون هذه البلاد مستقلة , وأظهرت ألمانية
وإيطالية تأييدهما لحليفتهما، فاستحوذ الذعر والقلق على الروسية وصديقتيها -
إنكلترة وفرنسة - وخفن أن يؤدي الخلاف إلى حرب أوربية لا تُبقي ولا تذر ,
فطفقت روسية تنصح للصرب بأن لا تصر على ما تطلب وتجعله ضربة لازب ,
وألانت إنكلترة القول في مسألة خلاف الدول , والحق أن كل دولة من الدول الكبرى
تبذل كل ما في وسعها من وسائل الاستعداد الخفية للحرب، وتجتهد مع ذلك
اتقاء أسبابها , ولم يظهر بعض الاستعداد لها إلا النمسة.
كانت الدولة العثمانية بعد انهزام جيشها في معركة (قرق كليسا) ومعركة
(لولي برغاس) العظيمتين طلبت من الدول الكبرى التوسط في الصلح فأحجمن
وجمجمن، فعرضت على البلغار عقد هُدنة، لأجل المذاكرة في أمر الصلح فسُرَّت
هذه بهذا الاقتراح؛ لأنها كانت تفضل أن لا يتوسط الدول في ذلك , ولكنها عرضت
شروطًا شديدة ردتها الحكومة العثمانية وتلا ذلك رجحان جيشنا في دفاع شتالجه
وتكشير النمسة في وجوه البلقانيين والخوف من ميلها وميل حليفتيها معها إلى
العثمانية، فتساهلت البلغار والصرب في شروط الهدنة وأسرعتا بإمضائها، وأبت
اليونان ذلك لتبقى حرة في حركاتها البحرية، ولكنها صرحت بأنها تدخل مع
حليفتيها في مذكرات الصلح , وستكون المذاكرة في مسألة الصلح في لندرة كما
روت لنا البرقيات الأخيرة.
ثم إن الدول الكبرى يقترحن عقد مؤتمر للنظر في مسألة الدولة بعد الصلح
والحكم بينها وبين دول البلقان فيما يختلفن فيه، فيكون كمؤتمر برلين الذي عقد عقب
الصلح بينها وبين روسية بعد حربهما الأخيرة. والغرض من المؤتمر أن لا يكون
تعارُض المصالح والمنافع سببًا للتنازع والحرب بين الدول الكبرى , وهذا هو الذي
يخشى شره، فإن الدولة ليس عندها قوة بحرية ولا برية لحماية بلادها من إغارة
الدول عليها أو بث نفوذهم فهيا على الوجه الذي يسمونه الفتح السلمي , وإنما
عمدتها في السلامة من شرّ الدول تنازعهن واختلافهن، والاختلاف الضار لا يستمر
بين العقلاء فمن الخطأ العظيم والخطر الكبير أن يعتمد عليه.
نعم، إذا نجونا هذه المرة أيضًا من وضع أوربة جميع ولاياتنا الآسيوية
تحت سيطرتها عملاً بقاعدة الفتح السلمي فإنما ننجو بتعارض الدول وتنازعها على
ما بقي لنا، لا بقوة ذاتية فينا، ولا بقاء لمن لا حياة له في نفسه، ولا استمساك له
بذاته، إذ لا يدوم له ما يدعمه من ورائه، لمنفعة عارضة لواضع الدعامة له،
فيجب إذًا أن نعمل لنحيا حياة سياسية ذاتية، ونكون قادرين على نفع من ينفعنا
وضر من يضرنا، ليكون النفع بالمبادلة فينمو بنمائها، ويكون دفع الضرر
والعدوان بالقوة فيدوم بدوامها، وقد كان مصابنا في هذه المرة من قبل الاتفاق
الثلاثي وقد أخطأنا؛ إذ أسأنا الظن بدولة النمسة عند اقتراح وزيرها المشهور، ثم
ظهر لنا أن روسية هي التي أثارت الفتنة، وظاهرتها فرنسة وإنكلترة، والآن ترى
ألمانية والنمسة يظهران لنا المودة، فإذا تم ذلك فعلاً، وثبت في المؤتمر الدولي
ثبوتًا قطعيًّا، فالواجب على حمية العثمانيين وجميع المسلمين أن يكافئوا من يساعدنا
بكل ما يستطيعون، وأهمه ترويج التجارة، وما لنا لا نعول على ألمانية في كل ما
نحتاج إليه من علوم أوربة وفنونها وصناعتها، ولكن مع الجد في تكوين أنفسنا،
واتقاء جميع العواثير التي عثرنا قبل فيها.
فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا

يجب على رجال الدولة وعلى كل عاقل من العثمانيين أن يبذلوا كل ما في
وسعهم وطاقتهم لاتخاذ وسائل الدفاع الوطني أو المِلّي - كما يقولون- وأن يجعل
لهذا الدفاع نظام يجري عليه، فإن هذا هو كل ما يمكن الآن لاتقاء بسط الإفرنج
سلطانهم على بلاد الدولة كلها , فإن القوم طلاب كسب، فإذا علموا أن محاولة
استيلائهم على البلاد، ولو بالفتح السلمي يقاوم بكل ما في البلاد من قوة، ولو أدى
إلى خرابها فإنهم لا يقدمون على ذلك، وإن كانوا يعرفون من أنفسهم القدرة ويثقون
بالنصر.
ولا يمكن وضع هذا الدفاع على أساس متين ثابت إلا بمبادرة الدولة إلى تغيير
شكل إدارتها وجعلها من النوع الذي يسمونه اللامركزية وهو الذي اقترحه صُباح
الدين أفندي ابن أخت السلطان عقب الانقلاب فعاداه الاتحاديون لأجله واضطروه
إلى مغادرة الآستانة فغادرها وطفق يدعو إلى ذلك في أوربة , فشهدت له يومئذ بما
لا أزال أشهد به من أنه هو الزعيم السياسي العثماني الذي لم نرَ بعد الانقلاب مثله
في صحة رأيه وإخلاصه، كما أننا لم نر مثل صادق بك في أعماله وإخلاصه،
فهما مفخر إخواننا الترك في هذا العصر، وسنعود إلى هذه المسألة بعد.
ألا فليعلم كل مسلم أن البلاد الباقية في يد هذه الدولة ليست ميراث الترك
وحدهم، ولا العثمانيين منهم ومن غيرهم، وإنما هي ميراث الإسلام نفسه، فإن
روح هذه البلاد جزيرة العرب مهد الإسلام الأول، وحرمه المقدس، حيث نزل
الوحي بالقرآن، وحيث الكعبة المشرفة أول بيت لله وضع للناس، وحيث قبر خاتم
النبيين عليه الصلاة والسلام. وما كان المسلمون راضين بجعل هذه الدولة هي
الحامية لهذه الجزيرة من أعداء الإسلام، إلا لاعتقادهم قدرتها على ذلك , لا لأن لها
حقًّا عليها بالفتح والاستعمار، أو بإيجاد شيء فيها من العلوم والعمران ,
فإنه ليس لها شيء من ذلك فيها.
أما وقد ظهر لهم كلهم، ما كان خفيًّا لا يدركه إلا أفراد منهم، فالواجب عليهم
كلهم حيثما كانوا، وأينما وجدوا، أن يفكروا في وسيلة حفظ هذه الجزيرة من
استيلاء الأجانب عليها، أو إيصال نفوذهم إليها، أو جعل حياتها في أيديهم
بالاستيلاء على سواحلها.
يجب على جميع المسلمين في جميع بقاع الأرض أن يعقدوا اللجان
والجمعيات ويتشاوروا في أمر حفظ مهد دينهم، وحرم قبلتهم، وأن يقترحوا على
أولي الأمر القيام بما يظهر لهم أنه الصواب , ولا يتركوا الأمر لمن يغلب نفوذه في
مركز السلطنة العثمانية أيًّا كان، فقد رأوا أنه قد غلبها على أمرها في السنين
الأخيرة أغيلمة من الملاحدة والفساق، أنزلوها في أربع سنين من مستوى الدول
الكبار، وجعلوها بحيث تسمع في عاصمتها مدافع البلغار، وهم الذين كانوا تحت
سيادتها قبل هذه الحرب بأربع سنين، وكانت بلادهم من أملاكها إلى عهد ليس
ببعيد , فهل يجوز لمسلم أن يرضى بعد ذلك باستبداد أمثال هؤلاء بمهد الإسلام،
وهل نأمن عليه أن يقع في قبضة الأجانب بعد أعوام، إذا نجت الدولة من شر
المؤتمر الذي يعقد في هذه الأيام.
أيها المسلمون إن الأمر جِدّ، والخَطب إدّ، والخطر قريب، والجرائد
الأوربية تصرح بوجوب الحل الأخير للمسالة الشرقية، والاستيلاء على جميع ما
بقي من البلاد الإسلامية، وجعل الخليفة في قصره، كالعصفور في قفصه، لا قوة
ولا عمل له، وقد بينا لكم في العام الماضي أن مسألة طرابلس الغرب كانت فتحًا
لباب هذه المسألة، وبينا لكم ما على جزيرة العرب من الخطر، والطريقة المثلى
لإنقاذها منه , فصرفكم الغرور بمقاومة عرب طرابلس وبرقة لإيطالية، عن
الخطر الأكبر على الدولة والإسلام، فلم تمر السنة حتى سمعتم الصيحة الثانية، من
الصيحات الثلاث لهذه القارعة، ولم يبق إلا صيحة واحدة، تقوم بها قيامتكم، فإن
لم تسمعوها في هذه الأيام، فستسمعونها بعد أعوام، فهل يظل لسان حالكم، ينشد
مثل الغنم الراعية الذي ضربناه لكم:
نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتعى
إذا أحس نبأة ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
إنني أخشى أن تسمع دول الاتفاق الثلاثي نداء جرائدها، وتقنع دول الاتحاد
الثلاثي باقتسام سائر بلادنا , فإن لم تقدر على ذلك في هذا المؤتمر فلا يغرنكم ذلك
فتكونوا كالغنم التي تجفل وترتاع عند الصيحة، وتعود إلى الرعي عند سكوت
الصائح، بل يجب أن تتفق كلمتكم على صيانة حرمكم وقبلتكم، وصيانة القوة التي
تحفظ هذه الجزيرة لكم، وأن تشرعوا حالاً بجمع المال وادخاره إلى وقت العمل
لذلك.
أما أخوكم هذا فقد بين لكم رأيه في حفظ الجزيرة المقدسة غير مرة، كان
يقول ذلك ويكتبه بأساليب التعريض والتلويح، ثم ضاق الوقت عن ذلك فاضطر
إلى التصريح، وقد رأيت جميع من أعرف من أهل الرأي يوافقونني عليه، فإن
كان لكم رأي آخر فبينوه، فإن رأيناه أصلح رجعنا إليه، هذا ما عندي أفيض على
قلم الإخلاص من سُويداء الفؤاد، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: ٤٤) .
* * *
(المسألة السورية)
قلقت أفكار السوريين وسائر العثمانيين لما ورد في الجرائد الفرنسية الرئيسية
وفي مقدمتها (الطان) من التعريض الدالّ على الطمع في استيلاء فرنسة على
سورية، بعد أن ظهر رجحان الكفة البلقانية على العثمانية في الحرب الحاضرة ,
وكنا قبل ذلك قد سمعنا عن بعض الأوربيين هنا أن إنكلترة وفرنسة قد اتفقتا على
اقتسام سورية بأن يكون القسم الجنوبي المجاور لمصر للأولى، والشمالي ومنه
لبنان للثانية، وسمعنا قبل الحرب أيضاً أن فرنسة أوعزت إلى الفرنسيين المقيمين
في بيروت بشراء ما يمكن شراؤه من سهام الشركات غير الفرنسية كشركة الماء،
وبأنها عينت لناديهم مساهمة قدرها مئة ألف فرنك للاستعانة بها على الحركات
السياسية، وبأنها أمرت معتمدها السياسي هناك أن يكاتب وزارة الخارجية في
شئون البلاد مباشرة , ثم روي لنا عن بعض الجرائد الألمانية معارضة للجرائد
الفرنسية فيما كتبته في هذه المسألة، ومنها عدم التسليم لفرنسة فيما تزعمه من حق
حماية المسيحيين، وأن هذا شيء كان ثم نُسخ أو خصص بما نالته ألمانية من
الحقوق الجديدة في الشرق الأدنى وخاصة في سورية وفلسطين.
ثم بلغنا أن بعض نصارى سورية يظهرون الميل إلى فرنسة في هذه الأيام،
وأكثرهم من فرقة الموارنة , وأن بعض المسلمين قابلوهم على هذا بإظهار الميل
إلى إنكلترة، بل بلغنا ما هو شر من ذلك، وهو أن إنكلترة أرسلت مندوباً أو
مندوبين إلى سورية يجوسون خلال الديار لاستمالة الناس إلى طلب حماية إنكلترة
لسورية أو احتلالها إياها، أو ضمها إلى مصر , ومخادعتهم بأنه لا نجاة لهم من
سلطة فرنسة إلا بذلك.
يا للداهية ويا للرزية! أيليق بسورية، وهي في مقدمة البلاد العثمانية
حضارة وأوسع البلاد العربية علماً واختباراً أن تكون محتقرة إلى هذا الحد فتُحسب
كالحمارة العرجاء التي لا صاحب لها , كل حظها من الحياة تفضيل راكب على
راكب، أو حمار على حمار يستولي عليها! ! ما هذه المهانة وما هذا الصَّغار.
ألا فليعلم إخواننا السوريون أن من يقاوم ذل السلطة الأجنبية جهد طاقته ثم
يغلب على أمره يكون معذوراً، ومن ينزل به هذا البلاء على غِرة منه تحول دون
المقاومة يكون مقهوراً، وأما من يسعى إليه أو يستجيب دعوة أهله فإنه هو الذي
يكون مذءومًا مدحورًا، وملعونًا مثبورًا , فياللعار، والذل والصغار، ويا للعيب
والشنار أن يحتقرنا الأجانب كل هذا الاحتقار، وإنما العار الأشد، وذل الأبد،
والصغار الذي لا ينتهي إلى أمد، والعيب الذي ليس له حد، هو أن نحتقر نحن
أنفسنا إلى هذا الحد.
ألا فليعلم إخواننا السوريون أن كلاًَّ من فرنسة وإنكلترة شرًّا عليهم من الأخرى
وأنه يجب أن يسعوا إلى الحياة لا إلى الموت , إذا كانت إنكلترة ألين في
مستعمراتها ملمسًا وأقرب إلى الحرية , فرب أفعى ليِّن مَسّها، قاتل سمها، وأن هذه
الدولة طامعة في جميع البلاد العربية، وأما فرنسة فربما كان طمعها محصوراً في
سورية، ولا يغرنهم ما يرونه من ترقي مصر المالي، فإنهم يعرفون ظاهره ولا
يعرفون باطنه، وأن إنكلترة قد احتلت مصر بصفة خاصة لأسباب عارضة،
وللدول العظمى كلها فيها مصالح وأموال وامتيازات كثيرة، وكن كلهن كارهات
للاحتلال، فلا تقاس عليها بلاد يراد الاستيلاء عليها بإسقاط الدولة العثمانية،
واقتسام الدول لسائر بلادها، وإذا وقع ذلك -والعياذ بالله تعالى- فلماذا ترحمكم
إنكلترة أو تعطف عليكم، وما ثَمَّ دولة إسلامية ترى من مصلحتها مداراتها، ولا
دول أجنبية تحاسبها على أعمالها؟ وأما الإنسانية فقد عرفتم مبلغها عند من شد أزْر
البلقانيين، على علمها بفظائعهم في المسلمين.
ألا وليعلم إخواننا السوريون أن إنكلترة لا ترضى أن يكون للعرب دولة
مستقلة عزيزة ولو تحت حمايتها، ولا أن تكون سورية تابعة لمصر، ولو بقيت
مصر على حالتها (أي خاضعة للاحتلال الإنكليزي الذي لا يسمح أن تكون فيها
قوة عسكرية أهلية إلا بقدر ما تحتاج إليه الدولة المحتلة لحفظ الأمن، وإخضاع كل
ما هو داخل في منطقة نفوذها من السودان) فلا يخدعنهم أحد بهذه الأوهام، ولا
تغرنهم وعود السياسة الكاذبة فما هي إلا أضغاث أحلام.
ألا وليعلموا أن حياتهم إن كان فيهم استعداد للحياة إنما تسهل مع دولتهم على
ما فيها من الخلل، ولا تسهل مع أحد من تلك الدول، وسنبين هذا في بعض
الأجزاء الآتية إن شاء الله تعالى، فليعضوا على دولتهم بالنواجذ، ولا يكونن عوناً
لأعدائها عليها، وليكن همهم محصوراً في إصلاح أنفسهم وإصلاحها.