(س ١٢ - ١٦) من الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس. سيدي الفاضل أعرض على حضرتكم ما يأتي بيانه لمحض الاستفسار والاستنباء، وإن كان في صورة الانتقاد وهو: أني قرأت في الجزء الثالث من المجلد العاشر من مجلة المنار الغراء في قسم التفسير عند قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} (الإِنسان: ٨) الآية حديثًا طويلاً مرويًّا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد رأيت في (نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول) للحكيم أبي عبد الله محمد بن علي الترمذي رحمه الله أنه عدّ هذا الحديث من المنكرات حيث قال في الأصل الرابع والأربعين فيما يعدونه صدق الحديث بعد ما ساق الحديث إلى آخره: هذا حديث مزوق قد تطرف فيه صاحبه حتى يشبَّه على المستمعين، والجاهل يعض على شفتيه تلهفًا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يدري أن صاحب هذا الفعل مذموم، قال الله عز وجل في تنزيله الكريم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ} (البقرة: ٢١٩) وهو الذي يفضل عن نفسك وعيالك، قال صلى الله عليه وسلم: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) وافترض الله على الأزواج النفقة لأهاليهم وأولادهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع بما يقوت) أفيحسب عاقل أن عليًّا رضي الله عنه جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانًا صغارًا من أبناء خمس أو ستّ على جوع ثلاثة أيام ولياليها حتى تضوروا من الجوع , وغارت العيون بِخلاء أجوافهم حتى أبكى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما به من الجهد؟ هب أنه أثر في نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل على أطفاله جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟ هذا ما ذكره الحكيم الترمذي في وجه التنكير، إلا أن المتدبر لو تدبر في أحوال هؤلاء الكرام لا يستبعد وقوع هذا الحال منهم؛ ولذا لم يتبين لي وجهه والمأمول من الأستاذ إيضاح ذلك حتى ترتفع الشبهة. (الفونغراف) وقد رأيت أيضًا في هذا الجزء في قسم الفتاوى سؤالاً يتعلق بالفونوغراف، فخطرت لي عند ذلك مسائل أخرى تتعلق به، وهي هل يجب السجدة على من سمع آية السجدة منه؟ وإن شخصًا لو شهد بواسطة الفونغراف أو أودع الوصية فيه , هل تقبل شهادته وتنفذ وصيته أم لا؟ وإني أظن أن السجدة تجب على السامع إذ هو كالاستماع عن إنسان، وإنما الفونغراف آلة للاستماع فقط، وكذا الشهادة والوصية ينبغي أن تكون صحيحة نافذة مهما ميز صوتها، فإن الأصوات متمايزة في التليفون والفونغراف حتى إننا لو سمعنا صوتًا معروفًا لنا مِن قبلُ، نقول: إنه صوت فلان ولا نشتبه فيه فيكون ذلك في حكم الاستماع عن نفس القائل، والله أعلم. (التجارة بالجلود) إن إخواننا المسلمين في سبريا الروسية غالبهم يتجرون بالجلود، وفيها جلود ميتة غير مدبوغة، وجلود غير مذكاة، وإنهم يسألون عنها ويستفتون ما حكمها الشرعي؟ وربما تكون المعاملة بين المسلمين بالطائفة القرغزية، فما حكم ذلك شرعًا؟ هل تكون فيها توسعة إن قلنا: إن دارنا دار حرب , ومذهبنا يوسع فيها في عدة مسائل كمسألة الربا مثلاً؟ هذه المعاملة مما تعم به البلوى في تلك الأقطار، والمرجو من الأستاذ حلّ هذه المسألة، بحيث يخرجها عن الشبهة ولا يوقع حرجًا إن شاء الله تعالى. (الإمامة) إن رجلاً قطعت إحدى رجليه من فوق الكعب، وله قدم صناعية، وكان إمامًا في بلدة منذ سنين، والآن وقع خلاف بين علمائنا في صحة إمامته، فمن قائل: إنها لا تجوز، والأكثر على الجواز، ونحن لم نر في الكتب التي بأيدينا أن صحة القدم من شرط الإمامة، ولذا لا أرى بأسًا في إمامته متى وجد سائر الشروط المهمة، وأرجو من الأستاذ بيان ذلك أيضًا حتى يندفع الاختلاف بيننا. (النسخ) هل هو من أصول الدين، بحيث لا يجوز الخلاف فيه أم هو مسألة خلافية بين المسلمين، كما ذكره الفاضل محمد توفيق في مقالة الناسخ والمنسوخ، وهو يقول: إن أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه قال بعدمه، أي بعدم نسخ القرآن بالقرآن، واستشهدوا عليه بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما معزوًّا إلى البخاري إلا أننا لم نَرَ نقلاً آخر سوى ما ذكره عن أُبَيّ ما يؤيد هذا القول , وليس في هذا القول أيضًا تصريح بعدم النسخ، وإنما يحتمله كما يحتمل غيره , ولا يقطع بالاحتمال مراد القائل , ولم يُذْكَر خلافٌ بين الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة، ثم إن أبا مسلم رحمه الله الذي نسب صاحب المقالة هذا القول إليه هل يعتبر قوله بحيث نعُدّه خلافًا في المذهب، فبعضنا يقول: إن النسخ لا خِلافَ فيه بين أهل السنة، وإنما هو خلاف نشأ مِن الاعتزال، ولكن لم يظهر لي وجه هذا القول أيضًا، فإن النسخ ليس من موادّ الخلاف بين السُّنِّيِّ والمعتزلِيّ فيما أعلم، والله أعلم. وذكر ابن أمير الحاج في شرح التحرير خلافًا في نسبة هذا القول إلى أبي مسلم حيثُ قال: حكى الرازي والآمدي وابن الحاجب إنكاره وقوع النسخ مطلقًا , وقيل: لم ينكر وقوعه، وإنما سمّاه تخصيصًا فعلى هذا يصير النزاع لفظيًّا، والله أعلم. والمأمول من الأستاذ تفصيل هذه المسألة وتحقيقها كما وعد في ذيل تلك المقالة، وكما تفضل بالأجوبة الشافية في المسائل السابقة. ... ... ... ... ... ... ... العبد المستفيد من علمكم الوافي ... ... ... ... ... ... ... محمد نجيب ... ... ... ابن الأستاذ شمس الدين محمد الحاج المرصع التونتاري الجواب عن أثر علي وآله عليهم السلام: إننا قد ذكرنا ذلك الأثر في الإيثار لأجل العِبْرَة به، وقد أشرنا إلى ضعف الرواية بقولنا (ويروى) ولم نثبته في تفسير الآية , بل وعدنا بذكره في تفسير سورة الإنسان إن أنسأ الله لنا في العمر، وعند ذلك نذكر مكان الرواية والمسألة، وما قاله الحكيم الترمذي بعضه وجيه مقبول، وبعضه منتقد مردود، والإيثار مرتبة وراء مرتبة تقديم الإنسان نفسه على من تجب نفقتهم عليه من أهل وولد، وتقديم هؤلاء على غيرهم، وقد ورد في الصحاح أن كبار الصحابة آثروا على أنفسهم وأولادهم مع الفقر وشدة الحاجة، فكان ذلك سبب ثناء الله عليهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩) وقد حررنا هذا المبحث في المجلد الثاني من المنار (راجع ص ١١ و١٧ منه) , ولا يبعد أن يقصد علي وفاطمة تربية ولدهما على الإيثار إنْ صحّ الأثر من طريق الرواية بنصها أو مبالغة فيها ولا حاجةَ إلى التطويل في ذلك فالخطب فيه سهل. الجواب عن مسائل الفونغراف: إنما شرع السجود عند تلاوة أو سماع الآيات المخصوصة الآمرة بالسجود , أو المرغبة فيه لإظهار الخضوع والامتثال، ومن سَمِع القرآن من الفونغراف صدق عليه أنه سَمِع القرآن، فالظاهر أنه يشرع له السجود عند سماع آية السجدة منه، وإنما عبرنا بـ (يشرع) دون (يجب) لأننا نرى أن السجود مُسْتَحَبٌّ لا واجب كما تدلّ على ذلك الأحاديث الصحيحة، وعليه الشافعية. وأما الشهادة والإقرار والوصية وسائر المعاملات الدنيوية، فالعِبْرَة في ثبوتها أن تكون بحيث يوثَق بصدورها ممن صدرت عنه، ويؤمن من التزوير فيها؛ لأنها ليست من المسائل التعبديّة التي يوقف فيها عند نصّ الكتاب , وما مضت به السنة بلا زيادة ولا نقصان، فإذا وثق القاضي بشهادة الفونغراف مثلاً كانت بينة شرعية صحيحة؛ لأن البينة كل ما تبين به الحق كما حققه ابن القيم وذكرناه في المنار مِن قبلُ. الجواب عن مسألة جلود الميتة: روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشاة الميتة: (هلا انتفعتم بجلدها) , وهذا اللفظ للبخاري، وفي رواية أخرى له (هلاّ استمتعتم بإهابها) والإهاب (ككتاب) الجلد , أو ما لم يُدْبَغْ منه كما في القاموس. ولفظ أحمد ومسلم وغيرهما: (هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به) , فقالوا: إنها ميتة، فقال: (إنما حرم أكلها) , وذكر الدباغ بيان لطريق الانتفاع وليس فيه حصر، وفي لفظ لأحمد: إن داجنا لميمونة ماتت , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا انتفعتم بإهابها، ألا دبغتموه، فإنه ذكاته) أي: إن الدباغ مطهر كالذكاة. ولا ينافي هذا جواز الانتفاع بالإهاب غير المدبوغ كما تدل عليه الرواية المطلقة. وروى مالك وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديث ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ به رجال يجزون شاة لهم مثل الحمار، فقال: (لو أخذتم إهابها) فقالوا: إنها ميتة , فقال (يطهرها الماء والقرظ) ، صحَّحَه ابن السكن والحافظ. ولعَلّ هؤلاء لو اكتفوا بأمره إياهم بأخذ إهاب الميتة والانتفاع به لَكَفَاهم , ولم يذكر لهم غيره وحَسْبُك بعبارة الحصر في قوله: (إنما حرم أكلها) أي: لا الانتفاع بها، وحديث: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) ؛ قد أعلّ بالاضطراب والإرسال؛ فلا يعارض هذه الأحاديث الصحيحة , ولا ينسخها. ولا يعارضها ما ورد في النهي عن شحوم الميتة، فإنها مما يؤكل فسُدَّتْ الذريعة إليه. وأمثل ما قيل في النهي عن استعمال جلود السباع أنها مدعاة القسوة والكبر. هذا وإن المراد بالتنزّه عن النجاسة هو أن يكون المؤمن طاهرًا نظيفًا بعيدًا عن الأقذار , وما فيها من المهانة والمضارّ، ولذلك كان الدباغ مطهرًا؛ لأنه يزيل العفونة والرطوبة التي ينتن بها الجلد، فكل ما يزيل ذلك فهو دباغ مطهر، والذين يشترون جلود الميتة لا يتركونها بغير دباغ ولا معالجة حتى تفسد عليهم بل يعالجونها حتى ينتفعوا بها، فالذي أراه وأعتقده أن التجارة بهذه الجلود جائزٌ شرعًا, لا إثْمَ فيه ولا حرج. وإذا باعها المسلم من غير المسلمين كان لجواز البيع وجه آخر عند الذين يقولون: إن المخالفين لا يكلفون العمل بفروع الشريعة، وعليه الحنفية، ووراء هذا كله ما أشار إليه السائل مِن أن التزام العقود الصحيحة في المعاملات إنما يجب في دار الإسلام إلا أن يقال: إن في النهي عن بيع النجس معنى غير كونه عقدًا فاسدًا، والعُمْدَة في المسألة ما ذكرناه أولاً، والله أعلم بالصواب. الجواب عن مسألة الإمامة الظاهر من السؤال أن الإمام المسئول عن إمامته يأتي بأعمال الصلاة كلها تامّة , وحينئذ يكون موضعُ الوقفة في صِحّة إمامته كونَ إحدى رجليه من الخشب، وهذا لا يصلح مانعًا من صحة الإمامة، وقد ثبت في صحاح الأخبار والآثار اقتداء الناس بالإمام يصلي جالسًا للمرض، واختلف العلماء فيمن يقتدون به، فقال بعضهم يصلّون قاعدين مثله، وادّعى ابن حزم إجماع الصحابة والتابعين على هذا، وقال بعضهم يصلون قائمين وفصّل بعضهم في ذلك. والأصل أن كل من صحّت صلاته صحّتْ إمامته. ومن استثنى من هذه القاعدة بعض من تصح صلاته للضرورة ولا تصح إمامته، كالذي لا يحسن الفاتحة لم يَسْتَثْنِ مَنْ ذهب أحد أعضائه فاتخذ له بدلاً من معدن أو خشب؛ لهذا لا أرى وجهًا للخلاف في صحة إمامة الإمام المسئول عنه. الجواب عن مسألة النسخ بالإجمال: لا أتذكر أنني رأيت في الحديث ذكر النسخ، والأصل عندهم في هذه المسألة قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: ١٠٦) , والآية في اللغة: العلامة والعبرة. وقالوا: قد سميت الطائفة المخصوصة من القرآن آية؛ لأنها علامة يفضي منها إلى غيرها: أو لأنها علامة دالّة على الحق، والنسخ في أصل اللغة: نقل كتاب عن كتاب , وجعل الزمخشري في الأساس قولهم: نسخت الشمس الظل، من المجاز، والمعنى في كل منهما التحويل إلا أن الأول تحويل لمثل الشيء، والثاني تحويل لعينه. وورد اللفظ بمعنى الإزالة والتغيير كقولهم نسخ الشيب الشباب، ونسخت الريح آثار الديار. وقد ورد ذكر النسخ في كلام السَّلَف وأئمة الفقه , واصطلح علماء الأصول على تعريفه المشهور , وهذا في كلام السلف أعمّ من ذلك، فالنسخ في الجملة متفق عليه، ولكن وقع الخلاف في تفسيره وفي جزئياته، والآية ليست نصًّا في قول أحد من المختلفين ولا حديث يحتج به في تفسيرها ولا في نسخ شيء من القرآن، وإنما مدار البحث والاجتهاد فيها على تعارض النصوص , والمروي من الآثار وفيه جرت المناظرة بين الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي والشيخ صالح اليافعي، فعندما تنتهي المناظرة يكون لنا كلمة أخيرة في المسألة، وقد كنا بدأنا بكتابة مفصلة , ثم جاءنا الرد الآتي من الدكتور صدقي , فأمسكنا عن إتمام ما شرعنا فيه.