(الوجه السابع والسبعون) أن تقول لطائفة المقلدين: هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبًا لكم تفتون وتقضون بها , وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر , فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذا وتقلدوا أقوال هذا , وكلاهما عالم يسوغ اتباعه فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده؟ وهذا لا جواب لكم عنه. يوضحه. (الوجه الثامن والسبعون) أن من قلدتموه إذا روي عنه قولان وروايتان سوغتم العمل بهما وقلتم: مجتهد له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا , وكان القولان جميعًا مذهبًا لكم فهلا جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعًا مذهبًا لكم؟ وربما كان قول نظيره ومن هو أعلم منه أرجح من قوله الآخر وأقرب إلى الكتاب والسنة. يوضحه.
(الوجه التاسع والسبعون) أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولاً خلاف قول المتبوع أو خرجه على قول جعلتموه وجهًا وقضيتم وأفتيتم به , وألزمتم بمقتضاه , فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولاً يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدوه شيئًا. ومعلوم أن واحدًا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أَجلّ من جميع أصحابه من أولهم إلى آخرهم فَقَدِّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم , فيالله العجب! صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشايخ المذهب أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وهذا من بركة التقليد عليكم. وتمام ذلك: (الوجه الثمانون) أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخلطة وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض , وقال كل فرقة منكم: يسوغ أو يجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه؛ كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض , ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى فبأي كتاب أو بأية سنة , وهل تقطعت الأمة أمرها بينها زبرًا وصار {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥٣) إلا بهذا السبب. فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنأى عن غيره وتنهى عنه , وذلك مفضٍ إلى التفريق بين الأمة وجعل دين الله تابعًا للتشهي والإعراض، وعرضة للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله للاختلاف الكثير الذي فيه , ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض , ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم لكفى. (الوجه الحادي والثمانون) أن المقلدين حكموا على الله قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه , وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة. فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبى حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي , وهذا قول كثير من الحنفية , وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح وعبد الله بن المبارك. وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي. واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به ممن ليس كذلك وجعلوهم ثلاث مراتب: (ا) طائفة أصحاب وجوه كابن شريح والقفال وأبي حامد. و (٢) طائفة أصحاب احتمالات لا أصحاب وجوه كأبي المعالي. و (٣) طائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد [*] وغيره. واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان , وعند هؤلاء أن الارض قد خلت من قائم لله بحججه , ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم , ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما ولا يقضي ويفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه , فإن وافقه حكم به وأفتى به وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم وإبطال حججه , والزهد في كتابه وسنة رسوله , وتلقي الأحكام منهما مبلغها , ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته , ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به , وأنه لا يزال يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها , ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم , وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب الله وسنة رسوله , وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه وأوجبتم على الأمة تقليده , وحرمتم تقليد من سواه , ورجحتموه على تقليد من سواه. فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب , وحرمتم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة. ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك فمن أين يساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين , أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده. وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأسبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين , فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين , وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقًا لهم من الاختيار , ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم , ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل. ومن قال منهم بالقياس فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص مع شدة ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم. فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح في تقدم زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا لغيره؛ أمكن الفريق الآخر أن يُبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه , وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعًا: نفوذ قولكم هذا - إن لم يأنفوا من التناقض- يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر أتباعًا وأجل. فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة , وهذا أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع. وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب عبد الله بن عباس. وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدين والشعبي ومسروق وعلقمة والأسود وشريح؟ وأين في أتباعهم مثل نافع وسالم والقاسم وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم , فعظمهم وجلالتهم وكبرهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم , وقالوا بلسان قالهم وحالهم: هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم. كما صرحوا وشهدوا على أنفسهم فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة وقالوا: لسنا أهلاً لذلك لا لقصور الكتاب والسنة , ولكن لعجزنا نحن وقصورنا فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا!! فيقال لهم: فلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما وحكمهما وتحاكم إليهما وعرض أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبله، وما خالفهما رده. فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود؛ فلِمَ تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟ وكيف تحجرتم الواسع من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا اقتراحاتهم , وهم وإن كانوا في عصركم , ونشؤوا معكم , وبينكم وبينهم نسب قريب فالله يمن على من يشاء من عباده. وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة بأن الله صرفها عن عظماء القرى ومن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: ٣٢) وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره) وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: ١٣-١٤) وأخبر سبحانه أنه {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجمعة: ٣) ثم أخبر أن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: ٤) . وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد , وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها , ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا وذلك بحول الله وقوته ومعونته وفتحه فله الحمد والمنة وما كان فيه من صواب فمن الله هو المانُّ به , وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه، وبالله التوفيق. (تمت المناظرة)