للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح مخلص رضا


السكة الحديدية في الحجاز [*]

تواترت الأخبار اليوم بمكة المكرمة أن حكومة الحجاز الآن مهتمة جدًّا بتسيير
السكة الحديدية بين المدينة ومكة وبين هذه وجدة , وهذه الأخبار طالما كانت
تتشوق قلوب المسلمين إلى وجودها خارجًا لكونها تتردد مرارًا من سنة إلى أخرى
حتى تسلسلت إلى ما لا نهاية لها لكنها ساذجة.
حقًّا أقول: إن الإنسان بواسطة هذه السكة صار يستغني في سفره عن عدة
أشهر ببعض أيام وعن عدة أيام بيوم أو بعض يوم فضلاً عما توفر له من ماله
الذي كان يصرفه في سفره , وما اكتسبه من الراحة عما كان يكابده من المشاق
والمصاعب والعوائق , فلا تروج صناعة ولا تتقدم تجارة ولا زراعة إلا بها؛ لأنها
هي تنقل المصنوعات الخطيرة والحقيرة من بلد إلى بلد ومن مملكة إلى أخرى
فيحسن حالها، وتنقل حاصلات الزراعة من الحبوب والثمار وغيرها فيزيد نفعها
وتزيد بزيادته رغبة الناس فيها واعتنائهم بها.
وقصارى القول: إن هذه السكة قد سهلت من السفر كل خطر شديد , وجعلت
البلد البعيد أقرب من حبل الوريد، وسهلت المواصلات، وقربت المسافات، فعمَّت
التجارة، وعظمت الإمارة، وتلألأ العمران في سائر البلدان، وتيسر للعلماء
وأصحاب الصنائع السفر إلى البلاد البعيدة، والاطلاع على أمور كثيرة، وبذلك
تتسع العلوم، وتكثر الفنون، وغير ذلك من منافعها التي لا تُحصى ولا تكاد
تُستقصى، لا سيما السكة الحجازية فإن فوائدها أكثر، ومنافعها أكبر.
وبيان ذلك أن طريق الحجيج إلى بيت الله الحرام والمدينة المنورة أيضًا كلها
مشقات وأخطار التي لم يوجد في بلد من البلاد الإسلامية مثلها؛ لأن نظام القافلة لا
ضمانة له أصلاً كما هو مشاهد بالعيان في طريق المدينة، ويكثر وقت تحميل القافلة
وتنزيلها وسيرها السارقون والمنتهبون والمختلسون، وربما هجم قُطَّاع الطريق على
الحجاج في هذه الطريق , وفي ٢٨ ذي القعدة سنة ١٣٢٦ كانت القافلة خرجت من
مكة المكرمة بقصد زيارة الروضة النبوية الطاهرة , وكان أكثر أفرادها من الحجاج
الجاويين المساكين , وبعد أن بلغت محطة (بئر درويش) التي تبعد عن المدينة
المنورة بيوم واحد , أشيع بينها بواسطة الجمالة عن توقع اعتداء العربان عليها ,
وتسبب عن هذه الأرجوفة عودة القافلة من حيث أتت.
لذلك كان الحجاج إذا قصدوا إلى أداء هذه الفريضة أو إلى زيارة الروضة
النبوية كانوا أول ما يستعدون على سلاحهم , وإذا ساروا فقلوبهم تستغيث إلى الله
عز وجل أن يردهم سالمين غانمين , وأن لا يصادفهم أثناء السير أدنى ضرر
وخلاف , حتى كأنهم سائرون إلى موقف القتال , وهذا كما لا يخفى على عاقل
ينافي دعاء نبي الله إبراهيم المذكور في كتاب الله العزيز:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} (البقرة: ١٢٦) الآية.
ومع هذا فجل ما سمعنا من سوادهم الأعظم قولهم: إن تسيير السكة الحديدية
في هذه الأقطار ذريعة لدخول المشركين إليها , فلم يرغبوه خوفًا لذلك.
ثم الحقيقة أن هذه المقالة إنما هي بسبب الغفلة والذهول عن الاحتمالات
العقلية الصحيحة , وسبب الذهول هوالنظر إلى البلاد الإسلامية التي تحت ولاية
دول أوروبة؛ لكثرة الإفرنج فيها , وإلا فيحتمل أن يتزيا الإفرنجي بزي المسلمين
ويتكلم باللغة العربية الفصيحة , ويدعي دين الإسلام ويدخل إلى هذه البلاد لتحقيق
ما قصده من الاطلاع إلى شئون الاجتماع والعمران فمن الذي يعلم هذا؟ ؟ ؟
ومما يؤيد هذا الاحتمال ما كتبه الأديب النجيب محمد بك لبيب في الرحلة
الحجازية ما نصه:
أما أفراد الفرنجة الذين قصدوا مكة أو المدينة في أزمنة مختلفة , وكتبوا
عنهما ما كتبوا على حسب نزعاتهم سياسية أو دينية أو عمرانية أو جغرافية إنما
كانوا يتزيون بزي المسلمين بعد أن يعرفوا اللغة العربية , ويدَّعون أنهم على الدين
الإسلامي , نخص بالذكر من هؤلاء: بور كادت السويسري وبورتون الإنكليزي ,
وهود جرونج الهولاندي [١] وكورتلمون الفرنساوي اهـ.
وبناء على ما تقدم لم يبق شك أن تسيير السكة الحديدية ليس سببًا لذلك كما قد
يُتوهم وإلاَّ فدخول هؤلاء إلى هذه البلاد بماذا؟ فليأتونا دليلاً عليه فهل بواسطة
الطيارات والمناطيد الهوائية (Ballon) لا! لا! فإن الحجاج لا يدخلون إليها ولا
يخرجون منها إلا في ركب القافلة التي لا أمانة لها أصلاً , وعلى كل فنحن نتأكد
من اهتمام دولتنا العلية لذلك , وجعلنا عمومًا بلا استثناء نثني على همم معالي الدولة
العثمانية بكل جوارحنا باتخاذ الوسائل؛ لحفظ شئون وراحة حجاج بيت الله الحرام
مما يدلنا على ما لدولته من خلوص الاعتقاد والشفقة والحرص التام على رعاية
الحجاج والالتفات طبق نوايا الخليفة الأعظم - أيده الله - والسلام.
... ... ... ... ... ... يوم الأحد ٢٩ جماد الآخر ١٣٣٠
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو ذاكر الأيداني

يقول صالح رضا: لا شك بأن وجود السكك الحديدية التي تقرب الأبعاد لمن
أهم وسائل العمران , وقد ظهر للحجازيين فائدة وصول السكة الحديدية إلى المدينة
المنورة , والسكة الحجازية هي أهم سكك حديد الدولة؛ للأسباب التي ذكرها الكاتب
ولأنها هي السكة الملية الوحيدة في بلاد الدولة العثمانية.
وإن لارتقاء البلاد أسبابًا أخرى أهمها نشر العلم الحقيقي الذي أصبح أداة كل
رقي وملاك كل عمل نافع , وإذا تحضرت البلاد بغير أهلها فإن ذلك هو الخراب
الحقيقي لها؛ لأن الوافد - أجنبيًّا كان أو وطنيًّا - إنما هو مستعمر مستثمر؛ لذلك
كان من الواجب لمساعدة الحجاز وأهله نشر العلوم والمعارف في أقطاره , وإلا
كان وجود السكة لفائدة غيرهم أولاً , ثم لهم ثانيًا إن كانوا يعلمون.