للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كيف دخلت
الدولة العثمانية في الحرب؟

لم تلبث الدولة بعد إضرام نار الحرب في أوربا أن أمرت بتعبئة جيشها تعبئةً
عامةً، وإن كانت قد (أعلنت الحياد) ثم بثت الألغام في زقاقي الدردنيل ,
والبسفور , ومنعت المرور منهما بعد أن آوت إلى الآستانة البارجتان الألمانيتان
اللتان كان يطاردهما الأسطولان الإنكليزي والفرنسي - وهما الدردنوط غوبن
والطراد برسلوا - وكانت دور الصناعة الإنكليزية قد صنعت للدولة بارجتين
من أحسن نوع الدردنوط وقرب موعد إرسالهما إلى الآستانة فلما أعلنت إنكلترا
الحرب على ألمانيا آذنت الدولة العثمانية بإلحاق المدرعتين بأسطولها، فساء ذلك
الدولة العثمانية، وطفقت جرائد الآستانة وغيرها من الجرائد العثمانية تطعن في
إنكلترة أشد الطعن، ثم شاع أن الدولة تعد جيشًا في سوريا للزحف على مصر ,
وإزالة سيطرة إنكلترة عنها، ثم أعلنت الدولة إلغاء الامتيازات الأجنبية فخيف أن
يكون ذلك سببًا للاعتداء على رعايا دول الاتفاق الثلاثي اللواتي أنكرن هذا الإلغاء،
وحفظن لأنفسهن الحق في العمل الذي يقتضيه ما يترتب على ذلك، وأن يكون ذلك
مقدمة الحرب وسببها، ولكن الدولة لم تسئ معاملة أحد من الأجانب بعد إلغاء
اميتازاتهم.
أما الجرائد في أوربة ومصر فكانت تصور لقرائها أن في الدولة حزبين:
أحدهما يميل إلى الحرب مع ألمانية، ورئيسه أنور باشا ناظر الحربية، وثانيهما
يميل إلى إنكلترة وفرنسة ويرى إجابة رغبتهما إلى المحافظة على الحياد التام، وأن
من أعضاء هذا الحزب الصدر الأعظم سعيد حليم باشا , وجمال باشا ناظر البحرية،
وجاويد بك ناظر المالية، بل قال بعضهم: إن من أعضائه طلعت بك ناظر
الداخلية أيضًا.
كانت إنكلترة أشد دول الأحلاف حرصًا على محافظة العثمانية على الحياد،
واتفقت معهن على أن يَضْمَنَّ لها استقلالها إذا هي حافظت على ذلك، ولكن الدولة
سئمت ذلك الاستقلال الصوري الذي لا يمنع دول الأجانب أن ينفذن فيها كل ما
يتفقن عليه وكثيرًا مما يختلفن فيه، وأن يجعلن بلادها مناطق نفوذ اقتصادي
وسياسي، وقد ضمنت لها ألمانية أيضًا الاستقلال، وأن تعاملها معاملة الأمثال، إذا
هي انضمت إليها في هذه الحرب، وتقدم إليها ما تحتاج إليه من المال والرجال
والذخيرة، فوثق رجال الاتحاد والترقي بذلك، وإن كان يرتاب فيه غيرهم من
العثمانيين.
وكانت ألمانية قبل هذه الحرب وبعد حرب البلقان أرسلت إلى الآستانة بعثةً
عسكريةً لإصلاح الجيش العثماني، فقامت لذلك دولة الروس وقعدت، وأرغت
وأزبدت، ثم إنها باعتها البارجتين غوين وبرسلو، وأرسلت إليها كثيرًا من ضباط
البحرية، ومهندسيها فحلوا محل البعثة الإنكليزية التي كانت الدولة استحضرتها
لإصلاح البحرية إثر مغادرتها الآستانة بعد الحرب، وبذلك اشتد الجفاء بين الدولة
وبين إنكلترة وأحلافها، ووقف أسطول إنكليزي فرنسي أمام زقاق الدردنيل مرابطًا
مراقبًا للبارجتين الألمانيتين اللتين لم تعتدَّ دول الأحلاف ببيعهما للعثمانية.
وبذلك قوي نفوذ الألمان في الجيش العثماني وفي البحرية، حتى قطع دول
الأحلاف الصلات السياسية معها (في ٣٠ أكتوبر سنة ١٩١٤) على إثر مصادقة
بين الأسطوليين العثماني والروسي بلغ الروس أحلافهم أن الأسطول العثماني في
البحر الأسود كان هو المعتدي فيها، وأنه ضرب بعض المواني الروسية أيضًا ,
وبلغ العثمانيون الدول أن الأسطول الروسي هو الذي بدأ بالعدوان، وأن الدولة
مستعدة لتلافي الحادثة بالطرق السياسية، وقد طلبت إنكلترة من سفيرها في الآستانة
أن يطالب الدولة العثمانية بالتنصل من تبعة العدوان على روسيا , وعزل البعثتين
الألمانيتين البرية والبحرية، وإخراج بحارة غوبن وبرسلو الألمانيتين منهما، وأن
يمهلها ١٢ ساعة فإن لم تفعل فليطلب جواز السفر وليغادر الآستانة، وكذلك فعل هو،
وسفيرا فرنسا وروسيا وعلى إثر ذلك أطلق الأسطولان الإنكليزي والفرنسي
قنابلهما على مدخل الدردنيل، وصارت الدولة حربًا لدول الأحلاف، ولا حول ولا
قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.