لشيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام: تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه مقدمة لصاحب المنار شرع الله - تعالى - لعباده على ألسنة جميع رسله أن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه. ولكنهم كانوا يتفرقون في كل أمة، فيزول ما أريد بالدين من معنى الاجتماع والائتلاف، حتى إذا ما شرَّع الله لهم الدين العام الذي هو خاتمة الأديان، شدد فيه التنفير من التنازع والتفرق والاختلاف. وأكد الأمر بالاعتصام والاتحاد والائتلاف. وقال لخاتم النبيين {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) ، ومع ذلك لم تسلم هذه الأمة من اتباع سنن من قبلها، والاختلاف كما اختلفوا أو أشد. ولما وقع الخلاف وكثرت المذاهب، وصار لكل فريق أنصار يخالفون الآخرين، ويطعنون عليهم، امتاز أهل الحق المعتصمون بحبل الله بالدعوة إلى الاجتماع والألفة، والتباعد عن التنازع والفرقة، وجعلوا المرجع في ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ عملا بقوله -عز وجل- {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) فكتاب الله ثابت لا نزاع فيه، وسنة رسوله معلومة لا خلاف فيها، فما جرى عليه، وتبعه فيه أصحابه على طريقة واحدة بلا خلاف بينهم يمتنع فيه الخلاف من المؤمنين، وما اختلف فيه العمل، كان المؤمنون مخيرين فيه لا ينازع أحد منهم أخاه إن أخذ بغير ما أخذ هو به وكل جائز. وقد سُمِّيَ هؤلاء بأهل السنة والجماعة؛ لأنهم يحكمون السنة العملية المتبعة فيما هو حتم، وفيما هو مخير فيه، ويختارون الاجتماع والاتفاق على الخلاف والافتراق، ولذلك كان من مزاياهم التباعد عن تكفير أهل القبلة وتضليلهم؛ لأجل الخلاف، والعمدة عندهم في صحة الإيمان وولاء أخوة الإسلام هو الأخذ المجمع عليه في العصر الأول المعلوم من الدين بالضرورة، ويعذرون من أخطأ فيما عدا ذلك. ثم إن علماء أهل السنة، قد كانوا ينظرون في وجوه الترجيح بين ما اختلف فيه على أهل العصر الأول أو الرواية عنهم، فيأخذ كل واحد ما يراه أرجح، مع كونه يعذر من يأخذ بغير ما اختاره هو؛ لا سيما إذا كان رأيًا لا رواية، ثم حدث في الأمة التقليد، وصار كل فريق يتعصب لعالم من أئمة علماء الأمصار من بعدهم فعاد لذلك التفرق والاختلاف الممقوتان عند الله؛ إلى المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، ووجد بذلك أهل البدع ما وجدوا من المطاعن عليهم، وعلى مذهبهم، بل كان ذلك مما طعن به في أصل الدين. سبق لنا قول في هذا الخلاف ومضاره، ورأيٌ في تلافيه واتقاء أخطاره، أودعناها مقالات محاورات المصلح والمقلد، التي جمعت من المنار وطبعت في كتاب مستقل، وأيدناه بما كتبه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه القسطاس المستقيم من الدعوة إلى إزالة الخلاف؛ بالأخذ بالمجمع عليه، والتخير في المختلف فيه، وقليل من الناس من يترك كل ما أجمع على تحريمه، ويؤدي كل ما أجمع على وجوبه، ويفعل ما سهل عليه مما أجمع على ندبه واستحبابه. ولكن المرزوئين بالتعصب للمذاهب، يسهل عليهم قطع أخوة الإيمان؛ بسبب خلاف في رواية أو رأي مما لم يجمع عليه المسلمون، وهم مع ذلك يتركون بعض الفرائض، ويرتكبون بعض المحرمات، ويحسبون ذلك أهون من الخلاف في الدين. وقد قرأنا في هذه الأيام رسالة لشيخ الإسلام: أحمد بن تيمية في مسألة الخلاف في العبادات، وحقيقة السنة والجماعة، فآثرنا نشرها؛ رجاء أن ينفع الله بها المسلمين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: ٥٥) قال - رحمه الله تعالى وأثابه -: (قاعدة) في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي مثل: الأذان، والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف. ومثل: التمتع والإفراد والقران في الحج، ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة، والشعائر أوجب أنواعًا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون. (أحدها) جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله؛ والذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته؛ والذي أمرهم باتباعه. (الثاني) ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم تارةً بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم؛ لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يُقَدِّمُونَ في الموالاة، والمحبة، وإعطاء الأموال، والولايات، من يكون مؤخرًا عند الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدمًا عند الله ورسوله لذلك. (الثالث) اتباع الظن وما تهوى الأنفس، حتى يصير كثير منهم مدينًا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة؛ من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة كالخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: ٢٦) وقال في كتابه: {وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيل} (المائدة: ٧٧) (الرابع) التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير بعضهم يبغض بعضًا ويعاديه، ويحب بعضًا ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرَّمها الله ورسوله. والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} (آل عمران: ١٠٢-١٠٦) قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة؛ بخروجه عن السنة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة؛ التي أمر الله بها ورسوله وقال: إلى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) ، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: ٢١٣) ، وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: ٤-٥) ، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: ١٩) ، وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الجاثية: ١٧) ، وقال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (يونس: ٩٣) ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال:١) وقال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: ١٠) وقال: {إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: ١١٤) وهذا الأصل العظيم؛ وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله - تعالى - به في كتابه. ومما عظم ذَمُّهُ لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله: (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة) ، وقوله: (فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) ، وقوله: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه [١] فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) ، وقوله: ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (صلاحُ ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر. ولكن تحلق الدين) وقوله: (من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان) ، وقوله: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ، وقوله: (ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة: منها واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار، قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال: هي الجماعة، يَدُ اللهِ على الجماعة) ، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة؛ بل وفي غيرها هو التفرق والاختلاف؛ فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم، من ذلك ما الله به عليم، وإنْ كان بعض ذلك مغفورًا لصاحبه؛ لاجتهاده الذي يغفر فيه خطأه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك. لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام، ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة. ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره، وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة. (النوع الخامس) هو شك كثير من الناس، وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون؛ وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارةً، ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى، أما الأول فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله، وأمر أزواج نبيه بذكره، حيث يقول: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: ٣٤) حفظه، من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أنزل قبله، كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، فعصم حروف التنزيل أن يغير، وحفظ تأويله أن يضل فيه أهل الهدى المتمسكون بالسنة والجماعة، وحفظ أيضًا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ما ليس فيها من الكذب: عمدًا أو خطأً بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه الذين فحصوا عنها، وعن نقلتها ورواتها، وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم، حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعًا معصومًا من الخطأ؛ لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع، وعلموا هم خصوصًا وسائر علماء الأمة، بل وعامتها عمومًا ما صانوا به الدين عن أن يزاد فيه أو ينقص منه، مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس، وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي والثلاثي والرباعي، وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان، ومن الحج إلا حج البيت العتيق، ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة إلى نحو ذلك، وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على عليٍّ بالخلافة نصًّا قاطعًا جليًّا، وزعم آخرين أنه نص على العباس، وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة التي يأثرونها في مثل الغزوات التي يروونها عن علي، وليس لها حقيقة كما يرويها المكدون الطرقية مثل: أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر، والبطال، حيث علموا مجموع مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط، ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفًا، ومثل الفضائل المروية ليزيد بن معاوية ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من الكرامية في الإرجاء ونحوه. والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع، وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة والأحاديث التي يروونها في استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه، وتواجده وسقوط البردة عن ردائه، وتمزيقه الثوب، وأخذ جبريل لبعضه وصعوده به إلى السماء، وقتال أهل الصُّفة مع الكفار، واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء. والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة، وصبيحة مزدلفة. ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الأرض بعين رأسه. وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها، فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله - تعالى -؛ لأن الكذب يحدث شيئًا فشيئا، ليس بمنزلة الصدق الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يحدث بعده، وإنما يكون موجودًا في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول وورثة الأنبياء، وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه: (أحدها) أن ما توفرت همم الخلق، ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع في العادة كتمانه، فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم، كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة، وأخبر بحادثة كبيرة في الجامع، مثل: سقوط الخطيب، وقتله، وإمساك أقوام في المسجد، إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان، ويعلم كذب من أخبر أن في الطرقات بلادًا عظيمة، وأممًا كثيرين، ولم يخبر بذلك السيارة، وإنما انفرد به الواحد والاثنان، ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن أرادها، بمكان يعلمه الناس، ولم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان، وأمثال ذلك كثيرة فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال، يعلم كذب ما ينقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها وانتشارها، لو كانت موجودة، كما يعلم أيضًا صدق ما مضت سنة الله في عباده أنهم لا يتواطؤون فيه على الكذب من الأمور المتواترة والمنقولات المستفيضة، فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان في مثل هذه الأمور، دون الكذب والكتمان. كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس، فالنفس بطبعها تختار الصدق؛ إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح، وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها، والناس يستخبر بعضهم بعضًا، ويميلون إلى الاستخبار والاستفهام مما يقع، وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه، ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه، والكذب والكتمان يقع كثيرًا في بني آدم في قضايا كثيرة، لا تنضبط كما يقع منهم: الزنا، وقتل النفوس، والموت جوعًا، وعريًّا، ونحو ذلك. لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة. وعلى أنفسهم إلا البقاء. فالغرض هنا أن الأمور المتواترة، يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكذب والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكتمان. (الوجه الثاني) أن دين الأمة يوجب عليهم: تبليغ الدين وإظهاره وبيانه. ويحرم عليهم كتمانه، ويوجب عليهم الصدق، ويحرم عليهم الكذب، فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمورالتي تحرم في دين الأمة، وذلك باعث موجب الصدق والبيان. (الوجه الثالث) أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها، وعظيم رغبتها في تبليغ الدين، وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب أعظم العلوم الضرورية؛ بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه، ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه، وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم، غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر. (الرابع) أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموجبة عليهم التبليغ ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله ومن دين آحادهم مثل الخلفاء، ومثل ابن مسعود وأُبَي ومعاذ وأبي الدرداء إلى ابن عمر وابن عباس وابن عمرو وغيرهم، يعلمون علمًا يقينًا لا يتخالجه ريب، امتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة، كما يعلمون امتناعهم من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعلم أيضًا أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك، مثل الزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير ومثل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم، أمورًا يعلمون معها امتناعهم من الكذب، وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي تأبى أحوالهم كتمانها لو كانت موجودة، ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها، وليس الغرض هنا تقرير ذلك، وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء. قالوا: هذا الذي ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة، فإنه كان يفعل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كل يوم خمس مرات، ومع هذا فقد وقع الاختلاف في صفته. وكذلك الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر، وحجة الوداع من أعظم وقائعه، وقد وقع الاختلاف في نقلها، وذكروا نحو هذه الأمور التي وقعت فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس، وجعلوا هذا معارضًا لما تقدم؛ ليسوغوا أن يكون من أمور الدين ما لم ينقل، بل كتم لأهواء وأغراض. وأما جهة الرأي والتنازع فإن تنازع العلماء واختلافهم في صفات العبادات، بل وفي غير ذلك من أمور الدين، صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم. وقالوا: إن دين الله واحد، والحق لا يكون في جهتين {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) ، فهذا التفرق والاختلاف دليل على انتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، ويعبرون عنهم بعبارات: تارة يسمونهم الجمهور، وتارة يسمونهم الحشوية، وتارة يسمونهم العامة. ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعًا من كون الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان، فالرافضة تنتحل النقل عن أهل البيت لما لا وجود له، وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة مثل رئيسهم الأول عبد الله بن سبأ الذي ابتدع لهم الرفض، ووضع لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نصَّ على عليٍّ بالخلافة، وأنه ظُلم ومُنع حقه، وقال: إنه كان معصومًا، وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام، ولهذا كان الرفض باب الزندقة والإلحاد. فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم أو زاد عليهم، من القرامطة والنصيرية، والإسماعيلية، والحاكمية وغيرهم، إنما يدخلون إلى الزندقة والكفر بالكتاب، والرسول، وشرائع الإسلام، من باب التشيع والرفض. والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس العقل، وتطعن في كثير مما ينقله أهل السنة والجماعة، ويعللون ذلك بما ذكر من الاختلاف ونحوه، وربما جعل ذلك بعض أرباب الملة من أسباب الطعن فيها وفي أهلها، فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور؛ ساعيًا في هدم قواعد الإسلام الكبار. فصل إذا تبين بعض ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد، فنحن نذكر طريق زوال ذلك، ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات وذلك ببيان الأصلين اللذين هما: السنة والجماعة المدلول عليهما بكتاب الله، فإنه إذا اتبع كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله والاعتصام بحبله جميعا؛ حصل الهدى، وزال الضلال والشقاء. أما الأصل الأول وهو الجماعة وبدأنا به؛ لأنه أعرف عند عموم الخلق، ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة، فنقول: عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو مفردًا أو قارنًا، كان حجه مجزئًا عند عامة علماء المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك. ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة، ويحرم ما عداها ومن الناصبة من يحرم المتعة، ولا يبيحها بحال. وكذلك الأذان سواء رجع فيه أو لم يرجع، فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها؛ وسواء رَبَّعَ التكبير في أوله أو ثناه، وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة فأوجب له الحيعلة بحي على خير العمل، وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية؛ بأيها قام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام، إلا ما تنازع شذوذ الناس. وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة، وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما، أو يكره الآخر، أو يختار أن لا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء، فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما، هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فهذا في الجهر الطويل بالقدر الكثير، مثل: المخافتة بقرآن الفجر، والجهر بقراءة صلاة الظهر. فأما الجهر بالشيء اليسير أو المخافتة به، فما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك، وما أعلم أحدًا قال به، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في صلاة المخافتة يسمعهم الآية أحيانا. وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: (كنا نصلي وراء النبي صلي الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف، قال: (من المتكلم؟) قال: أنا. قال: (رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول) ، ومعلوم أنه لولا جهره بها لما سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الراوي. ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك. وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك. وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار، والسنة الراتبة فيه المخافتة. وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالاستعاذة، وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها السنة. ولهذا نظائر، وأيضًا فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك، وهذا مما لم أعلم فيه نزاعًا؛ وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى. وكذلك القنوت في الفجر، إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته، وسجود السهو لتركه أو فعله؛ وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة ترك القنوت، وأنه ليس بواجب، وكذلك من فعله؛ إذ هو تطويل يسير للاعتدال، ودعاء الله في هذا الموضع ولو فعل ذلك في غير الفجر، لم تبطل صلاته باتفاق العلماء فيما أعلم. وكذلك القنوت في الوتر، هل هو في جميع الحول أو النصف الآخر من رمضان؟ إنما هو في الاستحباب؛ إذ لا نزاع أنه لا يجب القنوت، ولا تبطل الصلاة به، كذلك كونه قبل الركوع أو بعده. وكذلك التسليمة الثانية، هل هي مشروعة في الصلاة الكاملة والناقصة، أو في الكاملة فقط، أم ليست مشروعة، هو نزاع في الاستحباب. لكن عن أحمد رواية: أن التسليمة الثانية واجبة في الصلاة الكاملة، أما وجوب الأركان، أو وجوب ما يسقط بالسهو على نزاع في ذلك. والرواية الأخرى الموافقة للجمهور: إنها مستحبة في الصلاة الكاملة. وكذلك تكبيرات العيد الزوائد، إنما النزاع في المستحب منها، وإلا فلا نزاع في أنه يجزئ ذلك كله، وكذلك أنواع التشهدات كلها جائز، ما أعلم في ذلك خلافًا لا خلافًا شاذًّا، وإنما النزاع في المستحب. وكذلك أنواع الاستفتاح في الصلاة وأصل الاستفتاح، إنما النزاع في استحبابه وفي أي الأنواع أفضل، والخلاف في وجوبه خلاف قليل، نذكر قولاً في مذهب الإمام أحمد. وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب، عُلِمَ الإجماع على جواز ذلك وإجزائه، ويكون ذلك بمنزلة القراءات في القرآن، فإن جميعها جائز، وإن كان من الناس من يختار بعض القراءات على بعض، وبهذا يزول الفساد المتقدم فإنه إذا علم أن ذلك جميعه جائز مجزئ في العبادة؛ لم يكن النزاع في الاختيار ضارًّا، بل قد يكون النوعان سواء، وإن رجح بعض الناس بعضها، ولو كان أحدهما أفضل لم يجز أن يظلم من يختار المفضول، ولا يذم ولا يعاب بإجماع المسلمين، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين، ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة، ولا أن يعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك المستحب من أمور أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير، ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة الواجبات، بحيث يمتنع الرجل من تركها، ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، بل الواجبات كذلك، ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو تركها المرء؛ لائتلاف القلوب كان ذلك حسنا وذلك أفضل. إذا كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، وقد أخرجا في الصحيحين عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه) ، وقد بين احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يترك بعض الأمور المختارة؛ لأجل تأليف القلوب ودفعًا لنفرتها، ولهذا نص الإمام أحمد: على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال: يجهر بها إذا كان بالمدينة، قال القاضي: لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون فيجهر بها؛ للتأليف، وليعلمهم أنه يقرأ بها وقال غيره: بل لأنهم كانوا لا يقرؤونها بحال فيجهر بها ليعلمهم أنه يقرأ بها، وأنَّ قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، وبهذا يزول الشك والطعن، فإن الاتفاق إذا حصل على جواز الجميع وإجزائه، علم أنه دخل في المشروع، فالتنازع في الرجحان لا يضر، كالتنازع في رجحان بعض القراءات، وبعض العبادات، وبعض العلماء، ونحو ذلك، بل قد أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - كلا من القراء أن يقرأ كما يعلم، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك، فمن خالف في ذلك كان ممن ذَمَّه الله ورسوله. فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك. وأما الأصل الثاني، فنقول: السنة المحفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- فيها من السعة والخير ما يزول به الحرج، وإنما وقعت الشبهة؛ لإشكال بعض ذلك على بعض الناس. أما الأذان فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سن في الإقامة الإيتار والشفع، ففي الصحيحين أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وفي صحيح مسلم أنه علم أبا محذورة الإقامة مثنى مثنى مثل الأذان، فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأحد النوعين، صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف، ولهشام بن حكيم بحرف آخر، وكلاهما قرآن أذن الله أن يقرأ به. وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة، وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن. وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها، صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة، وصحت المخافتة بها عن أكثرهم، وعن بعضهم الأمران جميعا. وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فالذي في الصحاح والسنن يقتضي أنه لم يكن يجهر بها، كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته، ففي الصحيح حديث أنس وعائشة وأبي هريرة يدل على ذلك دلالة بيِّنة لا شبهة فيها، وفي السنن أحاديث أخر مثل حديث ابن مقفل وغيره، وليس في الصحاح والسنن حديث فيه ذكر جهره بها، والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث؛ ولهذا لم يخرجوا في أمهات الدواوين منها شيئا. ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة، وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بها إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات، ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وهذا يناسب الواقع فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها. وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون بها. وكذلك أكثر البصريين وبعضهم كان يجهر بها؛ ولهذا سألوا أنسًا عن ذلك. ولعل النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بها بعض الأحيان، أو جهرًا خفيفًا إذا كان ذلك محفوظًا، وإذا كان في نفس كتب الحديث أنه فعل هذا مرةً وهذا مرةً زالت الشبهة. وأما القنوت فأمره بَيِّن لا شبهة فيه عند التأمل التام، فإنه قد ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت في الفجر مرة يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم تركه، ولم يكن تركه نسخًا له؛ لأنه ثبت عنه في الصحاح أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين، مثل الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على مضر، وثبت عنه أنه قنت أيضًا في المغرب والعشاء وسائر الصلوات قنوت استنصار، فهذا في الجملة منقول ثابت عنه. لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ، فاعتقد أن القنوت منسوخ، واعتقد بعضهم من المكيين أنه مازال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتى فارق الدنيا. والذي عليه أهل المعرفة بالحديث أنه قنت لسبب تركه لزوال السبب، فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب؛ لأنه ثبت أنه تركه لما زال العارض، ثم عاد إليه مرة أخرى، ثم تركه لما زال العارض. وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا، هكذا ثبت عن أنس وغيره، ولم ينقل أحد قط عنه، أنه قنت القنوت المتنازع فيه لا قبل الركوع ولا بعده، ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك، بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر وأبي مالك الأشجعي وغيرهما. ومن المعلوم قطعًا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو كان كل يوم يقنت قنوتًا يجهر به؛ لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة، فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض وقنوت الوتر، فالقنوت الراتب أولى أن ينقل دعاؤه فيه، فإذا كان الذي نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر، علم أنه ليس فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا مما يعلم باليقين القطعي، كما يعلم عدم النص على هذا وأمثاله فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك، فإنه مما يعلم بطلانه قطعًا وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما هو القنوت العارض قنوت النوازل، ودعاء عمر فيه وهو قوله: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب ... إلخ. يقتضي أنه دعا به عند قتله للنصارى. وكذلك دعاء علي عند قتاله لبعض أهل القِبْلَة. والحديث الذي فيه أنس أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا مع ضعف في إسناده وأنه ليس في السنن، إنما فيه القنوت قبل الركوع، وفي الصحاح عن أنس أنه قال: لم يقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع إلا شهرًا والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل، إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة، فتارة يكون في السجود، وتارةً يكون في القيام، كما قد بيناه في غير هذا الموضع. وأما حجة الوداع وإن اشتبهت على كثير من الناس، فإنما أتوا من جهة الألفاظ المشتركة؛ حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أيضًا يقولون: إنه أفرد الحج. ويقول بعضهم: إنه قرن العمرة إلى الحج ولا خلاف في ذلك فإنهم لم يختلفوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل من إحرامه، وأنه كان قد ساق الهدي ونحره يوم النحر، وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام لا هو ولا أحد من أصحابه إلا عائشة؛ أمر أخاها أن يعمرها من التنعيم أدنى الحل. وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها أنه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طوافه الأول، فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا؛ لأنه أفرد أعمال الحج لم يقرن بها عمل العمرة، كما يتوهم من يقول: إن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين. ولم يتمتع تمتعًا حل به من إحرامه، كما يفعله المتمتع الذي لم يسبق الهدي، بل قد أمر جميع أصحابه الذين يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم.