المقالة الرابعة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل
(النوع السادس: كلام الجمادات والحيوانات) قال السبكي: ولا شك فيه وفي كثرته ومنه ما حكي أن إبراهيم بن أدهم جلس في طريق المقدس تحت شجرة رمان فقالت له: (يا أبا إسحاق أكرمني بأن تأكل مني شيئًا) قالت ذلك ثلاثًا وكانت شجرة قصيرة ورمانها حامضًا فأكل منها رمانة فطالت وحلا رمانها وحملت في العام مرتين وسميت رمانة العابدين! ! ! وقال الشبلي: عقدت أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين فمددت يدي لآكل منها فنادتني الشجرة: (احفظ عليك عقدك ولا تأكل مني فإنني ليهودي) فكففت يدي. هذه حكايات السبكي التي بنى عليها نفي الشك في هذا النوع وإن لم تتفق مع أصله وشروطه ولم تروَ بطرق صحيحة وأسانيد معروفة. وإذا صح أن ابن أدهم والشبلي قد قالا ما نقل عنهم في ذلك، فالأقرب أنهما كانا يعنيان القول بلسان الحال، فحمله بعض الناقلين على لسان المقال حبًّا في الإغراب أو غلوًّا في تعظيم الصالحين، على أن من الصوفية من يقول بأن صفة الحياة سارية في جميع المخلوقات حتى الأحجار والمعادن ويمرون قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: ٤٤) ، على ظاهره فيقولون: إنه تسبيح حقيقي قولي، لا لسان حال ودلالة على أثر مؤثر، والقضية ممكنة في ذاتها ولا يبعد أن يكون لكل صنف من المخلوقات حياة تليق به بل هذا هو اللائق بالإبداع الإلهي والنظام العام. ولكن البعيد أن يكون الجماد والنبات عالمين بسائر الشؤون وناطقين بجميع اللغات فيكلمان هذا بلسانه ويفصحان لذاك عن بعض شأنه، وأبعد من هذا البعيد أن لا يكون ذلك الكلام المزعوم سنة عامة بأن يكون خروجًا عن السنن الإلهية لتحقق لابن أدهم شهوته وللشبلي عزيمته، ومثل هذه الخارقة مما نقل عن عُباد النصارى (كاسبيريدون العجائبي) وحكاياتهم فيها شبيهة بحكاياتنا، وكل حزب بما لديهم فرحون! * * * (النوع السابع: إبراء العلل) أشار السبكي في الكلام على هذا النوع إلى حكاية الرجل الذي لقيه السرِي السَّقَطي ببعض الجبال يبرئ الزمنى والعميان والمرضى. وإلى ما روي عن الشيخ عبد القادر الجيلي من أنه قال لصبي مقعد مفلوج أعمى مجذوم: قم بإذن الله، فقام معافى لا عاهة به. أقول وقد ذكر الشيخ علي القاري هذه الحكاية مفصلة في كتابه (نزهة الخاطر الفاتر في مناقب السيد عبد القادر) وأوردتها في كتاب (الحكمة الشرعية) وقفّيت من بعدها بحكاية أخرى لصاحب هذا الكتاب. وأمثال هذه الحكايات كثير عن الصالحين جدًّا، ولا شك عندي في أن الكثير منها صحيح لا شبهة فيه، وينقل مثله أيضًا عن رجال الدين المعتقدين من النصارى والوثنيين وقد وقع على يدي شيء من ذلك في بعض الأمراض العادية، وليس في ذلك شذوذ عن السنن الطبيعية. إن الوهم يفعل في شفاء الأمراض العصبية ما لا يفعل العلاج، ولا يوجد مثار للوهم أقوى من اعتقاد المعتقدين بالسلطة الروحانية والقوى الغيبية يؤتاها بعض رجال الدين. ويكفي في توثيق عرى هذا الاعتقاد في المستعدين له ما ينقل إليهم بلسان زيد وعمرو، وهند ودَعْد. من الحكايات الغريبة، والوقائع العجيبة، وإذا رأى أحدهم بعينه واقعة منها أو بعض واقعة أو شبهة على واقعة كأن يرى فلانًا الذي كان مريضًا قد شفي بعد رقية رقي بها، أو تميمة علقت عليه. فهناك الجزم بأن كون الشيخ فلان يشفي المرض بالسر. ويبرئ العلل بالبركة من القضايا اليقينية الأولية، لا يتسرب إليه الشك. ولا يحوم حوله الريب. وأن من ينكره فهو مريض الاعتقاد، أو من أهل الجحود والإلحاد. عرف هذا الأطباء والعقلاء فاستعانوا بالإيهام على معالجة الأمراض العصبية فنجحوا نجاحًا عظيمًا، وهم يتفننون في تصوير الوهم بالصور المناسبة لحال المرضى في اعتقاداتهم، بل يخلقون لهم اعتقادات ببعض الأشخاص أو ببعض الأدوية ويبالغون في تعظيم شأنها حتى يشغلوا خيال المريض بها ثم يسلطونها على مرضه. وإنك لترى حكيمًا من الحكماء يدعو إلى منزله دجالاً من الدجاجلة الذين يدَّعون التصرف في الجان والسلطة على العفاريت الذين يمَسُّون الأناسي - يدعوه ليعالج بإيهاماته الدجلية امرأة عنده مصابة بمرض عصبي مما يسميه الأطباء (الهستريا) بعد أن يعجز عنها الأطباء. ويخيب فيها كل دواء فتشفى برؤية زيّه وبزته وشم بخوره وسماع رقيته، ويعترف له ذلك الحكيم بأنه يفعل بكلماته وعزائمه ما لا يفعل الطبيب بأدويته ومراهمه. أتقول: إن هذا الحكيم يعتقد بحقية هذا الخرافات، ويَدين بأن ذلك الدجال من أهل الخوارق والكرامات، أم تقول: إنه سلط الوهم على الوهم. كما يدفع في الجدل الرأي الفاسد بالدليل الفاسد، وأنه يرى المريض في عصبه كالمريض في عقله. ذلك يتأثر بأوهام الدجل وهذا يقتنع بمغالطات الجدل؟ الأمراض العصبية التي تفعل فيها الأوهام ضروب مختلفة، منها بعض فنون الجنون ومنها مقدماته، ومن المصابين بها من يعتقد بالشيطان يخالط روح الإنسان ويعتقد بأن لبعض الناس سلطانًا على الشياطين بطريقة صناعية كالبدعة الذميمة التي يسمونها (الزار) ، وهي منبع المآثم والأوزار أو بطريقة روحانية كبركات الشيوخ ورُقاهم وعزائمهم. وتجد الذين ينتحلون هذا الأمر بسلوك كل من الطريقتين يعيشون في مثل هذه البلاد بأكل أموال الناس بالباطل، فكثيرًا ما يوهمون من يرونه مستعدًّا لهذه الأمراض من النساء والرجال بأنه مصاب بها وما هو بمصاب فيؤثر قولهم في نفسه فيمرض ويحكِّمهم في نفسه يعالجونها كيف شاؤوا؛ بل يحكمهم في حاله وشرفه أحيانًا. وكثيرًا ما يزيدون الداء إعضالاً بحمقهم وسوء سلوكهم. جاءتني جريدة (المؤيد) وأنا أكتب في هذا النوع فرأيت في رسالة الإسكندرية منها كلامًا في انتشار وباء الزار في تلك المدينة وفعله في النفوس والأعراض ما لم يفعل الطاعون في الأجسام. وفي الأموال والعروض ما لم يفعل القمار والمدام. وقد رأيت أن أنقل ما كتب الكاتب بنصه فاقرأه تحت عنوان (بدعة الزار) . * * * (مضار بدعة الزار) أصدرت محافظة ثغرنا في الأسبوع الماضي أمرها إلى أقسام المدينة بمراقبة النسوة المشتغلات بالزار لأن جمعياتهن كثرت برواج خزعبلاتهن فألحقن بربات البيوت أضرارًا أدبية ومادية لا يحسن التغاضي عنها وعهدت المحافظة أمر تجسس هذه المحرمات إلى مشايخ الحارات ظنًّا منها أنها تستفيد من دقة مراقبتهم وتضرب بواسطة نفوذهم على أيدي أولئك النساء الشريرات. أما نحن فنقول: إن أوامر نظارة الداخلية الصادرة من عشر سنين ونيف والمصدق عليها من مجلس علماء الأزهر الشريف وإفتائه بتحريم استعمال بدعة الزار الشنيعة لم تكن في حاجة إلى أوامر جديدة وهمة حديثة ليقال معها أن حكومتنا اليوم التفتت إلى ضرر لتلافيه، ونظرت إلى محرم فلاحقته بعدلها بل يجب أن تصرح بأنها أغضت زمنًا عن واجب مقدس ثم تنبهت إلى نظام موضوع من أجله فهبت الآن لتلافي الشر ووقاية هاته العيلات وثروتها وآدابها بها من نتائجه الكثيرة التي منها الإملاق والجنون والطلاق والمروق عن جادة الاستقامة والعفاف وغير ذلك من الأضرار الظاهرة التي لا تحتاج إلى استطلاع وفلسفة. أما الإملاق والجنون فيكفي أن نشير إليهما بحادثة امرأة أشفقت على ابنتها المصابة بمرض عصبي (هستيريا) فلجأت إلى الزار فصارت تبذل لهن مطالبهن الكثيرة من ذهب وطعام وغنم ودجاج حتى احتاجت إلى المال فباعت (كنها) الوحيد الذي يستظلون به ويلجأون إليه وكانت النتيجة جنون الفتاة وموت أمها غمًّا وقهرًا؛ لأن ألعاب الزار وأوهامه من شأنها أن تثير العواطف وتنبَّه الأعصاب إلى ما كمن من الداء فيظهر بشدة حينئذٍ ويصبح على التوالي ملكة لا يرضيها غير هذه الأعمال الخيالية النفسانية فبدلاً من تسكين لاعجه يزداد شرًّا على شر ويكون من نتائجه الجنون وكفى بالفقر مُذهبًا للرشاد ومضيعًا للعقول. وكم من زوج طلق عروسه لتبذيرها ونبذها طاعته في سبيل هذا الزار الذي استحكم فصار عادة بين النساء وموضع افتخار بعضهن. وقليل من العقل والروية يكفي لنبذ الرجل زوجته إن والت معاندته والعمل على إساءته وهي لا تدري أنه البر الرؤوف بها في منعها عن الانغماس في حمأة هذه الأوضار؛ بل تظن به الشح والوسواس والكفر والكراهة إلى غير ذلك من الظنون السخيفة التي تزرعها نساء الزار في رؤوس البسيطات من هؤلاء الأمهات والفتيات، فيقضين على راحتهن ومستقبلهن قضاءً مبرمًا بالتفرقة والخراب وكفى بهذه النتائج المحزنة داعيًا إلى التفات الحكومة ومطاردتها للمشتغلات بهذه الدنايا والرزايا. أما المروق عن جادة الاستقامة والعفاف فهذا كثير، فإن لقهرمانات الزار فنونًا وحيلاً ينفر منها إبليس ويستعيذ بسلبها منهن بالله لأنها فوق قدرته لو أبنَّاها في هذه العجالة وقليلها يكفي للإشارة إلى سوء الحال وشر المآل. حُكي أن امرأة تعشَّقها سفيه دنيء فاحتال للوصول إليها كثيرًا حتى لجأ إلى نساء الزار فلعبن دورهن مع المرأة حتى أثَّّرن عليها بأنها ملموسة بروح شريرة مما يعبرن عنه (بأن عليها شيخ) وعندما ملكنها بهذه الخزعبلة قلن لها: إن شيخك يحب شابًّا صفته كذا وكذا.. إلخ إلخ. ولا سبيل لسكون هذا القادر إلا باجتماعهما. وما زلن بها حتى رضيت بالشاب فكان من اجتماعهما ما كان من سكون لواعج النفس بطرد حركة الشيخين وكثيرًا ما يجمع النسوة الشريرات مدبرات الزار الرجال بالنساء ويمهدن سبل الدنايا والموبقات على أشكال وضروب لا يليق بيانها وبذلك تتقوض أسس المحبة الزوجية فتكون العواقب أشد وخامة على الذرية التي لم تجنِ ما جناه الأبوان من جهلهما وتساهلهما. والغاية من رسالتي هي أني أريد إفهام الحكومة أن تكليفها مشايخ الحارات بمراقبة المشتغلات بالزار ومنازل طلابهن ومريديهن لا خير فيه ولا فائدة لأنها تفتح لهؤلاء المشايخ المراقبين باب رزق وسيع، فإنهم يسعون الآن باحثين منقبين على من يحيي ليالي الزار وأيامه ليستفيدوا أتاوة الصمت والتغاضي وهو ربح حسن يفضل الأرباح العائدة عليهم من المخافر والضمانات وغيرها، وبذلك يزيد الزار انتشارًا وضررًا. اهـ بنصه.
(المنار) إن ما رآه الكاتب في مشايخ الحارات صحيح، فإنهم قوم لا خلاق لهم. وإذا كان وجهاء الناس والذين يظن فيهم العقل والأدب والدين ينخدعون للنساء المنتحلات لبدعة الزار الضارة ويعتقدون نفعها فماذا عسى ينتظر من مشايخ الحارات وأكثرهم من التحوت والغوغاء الذين يشترون بالآداب والأعراض ثمنًا قليلاً؟ ولو جعلت الحكومة لمن يدلها على ذلك جُعْلاً ولو قليلاً لما خفي عليها شيء، ولتيسر لها أن تستأصل هذه البدعة الضارة استئصالاً. ومن العجائب أن الرجال يسمعون بآذانهم ويقرؤون بألسنتهم ويشاهدون بأعينهم مفاسد الزار وفتكه بالأموال والأعراض وإفساده للأخلاق والعقائد، وهم مع ذلك يسمحون لنسائهم بعمله وبحضوره فأيُّ شرفٍ وأي نخوة بقي عند هؤلاء الرجال السفهاء الأحلام الميتي الإرادة؟ والله لو صلح الرجال لما فسد النساء، ووالله ما أفسد النساء إلا الرجال، فلعن الله مَن لا غيرة له، ولعن الله من لا نخوة له، ولعن الله من لا شرف له. *** لكل قوم نصيب من الوهم يليق بحالهم واعتقادهم، وقد ألمعنا إلى بعض شأن الذين يعتقدون بالأرواح الخيرة والشريرة، وأما الماديون والروحيون الذين يعتقدون أن الأرواح أمور غيبية لا سلطان لها إلا في أبدانها التي تحيا بها، وأن لجميع الأمراض أدوية يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها (كما ورد في الحديث) فإن للوهم منافذ أخرى إلى نفوس المصابين بالأمراض العصبية منهم كالاعتقاد ببراعة الأطباء واكتشافاتهم واختراعاتهم، وبأخبار الذين شفوا بمعالجاتهم، وأن كثيرًا من أطباء أوربا وأمريكا ليعالجون أمثال هؤلاء المرضى بالأدوية الوهمية. حكي أن امرأة منهم أعضل داؤها، وعز شفاؤها، فجاء بعض الأطباء الذين كانوا يعالجونها وقال: إن كل تلك الأدوية التي كانت تداوَى بها من المسكنات وإنه لم يبق إلا علاج سام خطر هو الشافي قطعًا ولكن لا يمكنني أن أعطيها منه إلا بشروط منها أن لا تزيد عن المقدار الذي أعينه نقطة من السائل ولا مقدار ذرة من الجامد، ومنها أن تأخذه في المواقيت المعينة لا تتقدم دقيقة ولا تتأخر دقيقة ومنها أن نكتب كتابة ونسجلها في المحكمة بأنه لا تبعة عليّ ولا مطالبة إذا هي ماتت مسمومة؛ لأنني لا آمن من مخالفتها في المواقيت أو المقادير. وقد تردد أهل المريضة في قبول الشروط ولكنها هي قبلت بها؛ لأن المرض كان منعها المنام والراحة فما زالت تلح عليهم حتى قبلوا وكان شفاؤها في ذلك الدواء، ولم يكن إلا الدقيق والسكر والماء! عرف الناس تأثير قوة الاعتقاد الوهمي فضربوا لها المثل: (لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه!) ويظن بعض العامة أن هذا حديث لأنه مؤدٍّ للمعنى العام بعبارة وجيزة، وبذلك امتازت الأحاديث النبوية. ثم إن الجهل بأمور الدين والدنيا معًا فسره لأهل هذا العصر بغير معناه وإن شئت قلت بنقيضه. فهم يزعمون أن فيما يعتقد - وإن حجرًا - نفعًا حقيقيًّا ثابتًا له لا ينفكّ عنه، فهم يتمسحون ببعض الأحجار، ويتعلقون ببعض الأشجار، ويتبركون بمياه بعض الآبار، ويعتقدون أن فيها خواص تشفى الأمراض، وتقضى الحوائج والأغراض، ثم إنهم يلصقون ذلك بالدين ورجالاته، ويعدونه من دلائل صدقه وآياته، ويغفل أهل كل ملة عن مشاركة أهل الملل الأخرى لهم فيما يدعون، واستدلالهم بمثل ما يستدلون. كتبنا غير مرة في مفاسد الاعتقاد بهذه الجمادات والأشجار كعمود الرخام في المسجد الحسيني وباب المتولي وشجرة الحنفي ونعل الكلشني وغير ذلك، ولم ينس قراء المنار - بل أهل مصر كلهم - ما كان منذ سنتين ونيف في المسجد الحسيني من الجلبة والضوضاء في آخر الدرس الذي كنا نلقيه هناك، إذ نهينا الناس عن التمسح بالعمود الذي يسمونه عمود السيد استشفاءً به وطلبًا للبركات منه، فاحتج علينا بعضهم بالمثل الذي جعله الجهل حديثًا نبويًّا، ولما بينا لهم معنى المثل وكونه غير حديث وأنه لو كان حديثًا وكان معناه كما زعموا لكان حجة على نفع عبادة الأصنام قبل ذلك الجماهير. وكان في الصفوف البعيدة من حاضري الدرس من لم يفهم القول فطفقوا يتساءلون: ماذا قال في الحديث ماذا قال في الحديث؟ فأجاب بعض الذين وعوا القول بالصواب ودس بعض المرجفين أقوالاً كانت مثار اللغط والضوضاء كقولهم: إنه أنكر حديث رسول الله (بمعنى كذَّبه) وقولهم: إنه قال: إن سيدنا الحسين صنم لا ينفع ولا يضر وأمثال ذلك. أليست هذه الفتن والبدع والعقائد الفاسدة المفسدة للعقول والأرواح ناشئة كلها عن الاعتقاد بهذا النوع من الخوارق الوهمية التي دخلت في الدين من تلك الأقاويل التي أثبتها مثل التاج السبكي من غير بينة ولا بيان، ولا حجة ولا برهان، إلا زعم فلان ودعوى فلان؟ بلى، هذا وجه من وجوه تعليل ما نقل في هذا النوع وهو معقول مقبول وعليه أكثر العقلاء. وبقي وجه آخر يقول به بعض الناس في بعض الوقائع، ونعني بالناس أهل العلم والبحث وهو تأثير النفس في النفس ويعبر عنه الصوفية بتأثير الهمة ويثبتونه لغير المسلمين حتى الوثنيين وهو ثابت عند حكماء اليونان والعرب وغيرهم وحكى ابن خلدون وقائع منه. معهود عند جميع الناس رؤية أشخاص يرفعون قنطارًا (مصريًّا) عن الأرض وقل من رأى بعينه أشخاصًا يرفعون عدة قناطير. فإذا قيل لهؤلاء: إن قيصر روسيا السابق كان يأخذ كرتين من الحديد كل منهما عدة قناطير ويقذفهما في الجو واحدة بعد أخرى ثم يتلقى كل واحدة بيدٍ قاذفًا إياها في الجو ويعيد ذلك المرة بعد المرة زمنًا طويلاً - ينكر أكثر المعروفين بالعقل والروية هذه الرواية؛ لأن في الناس المولع بإنكار الغرائب التي لا يعهد مثلها كما أن منهم المولع بنقل الغرائب التي لا يعهد لها نظير. ويعهد جميع الناس أن يروا حزينًا فتؤثر فيهم حالته حتى يمتعضوا وربما بكى فأبكى، ويعهد قليل من الناس من تأثير بعض الوعاظ ما توجل له القلوب وتذرف منه العيون ويحمل كثيرًا من الناس على الرجوع عن حال إلى حال، وعلى الخروج من العقار والمال، وليس هذا تأثير الكلام خاصة وإنما العمدة فيه على تأثير النفس، وقد كان بعض الوعاظ الصالحين يعظ فيتوب قوم ويبكي ناس ويموت آخرون فقيل له: إن فلانًا أفصح منك في التذكير لسانًا، وأوضح بيانًا فما بال كلامه لا يؤثر، ولا يستتيب ولا يستعبر؟ ! فقال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة! يريد أن التأثير بالحال، لا بزخرف المقال، وإذا قلت لهؤلاء الناس: إن في الناس أفرادًا لهم قوة نفسية، وهمة روحانية، إذا وجهوها إلى نفس أخرى فإنها تؤثر فيها التأثير الذي يريدونه متى صح التوجه - ينغضون رؤوسهم، وينكر أكثر أهل البحث والروية هذه الرواية، وإذا دام أهل العلم في الغرب على بحثهم في الأمور الروحية فإن هذه المسألة ثبتت عندهم بالتجرِبة التامة. وكما يكون هذا التأثير في شفاء المرضى يكون في إحداث الأمراض ولبعض الناس في كل أمة استعداد قوي له إذا استعملوه زاد قوةً وتأثيرًا. ((يتبع بمقال تالٍ))