للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدولة العثمانية بعد الهدنة

اشترط دول الحلفاء في مهادنة الدولة العثمانية أن يكون لهم الحق في احتلال
جيوشهم للبلاد، والمواقع العسكرية التي يتوقف تنفيذ شروط الهدنة على احتلالها،
كتأمين تسريح الجيش وإعادة الأسرى، وجعلوا هذا الشرط وسيلةً لاحتلال كاد
يكون عامًّا شاملاً لجميع الولايات التركية بعدما احتلوا جميع الولايات العربية في
سورية والعراق , ومن البديهي أن هذا الاحتلال يمكِّنهم من تسريح جميع الجنود
العثمانية إلا ما يراه الحلفاء نافعًا لهم في حفظ الأمن تحت إدارتهم، كالشرطة
وأعوانها، ومن جمع السلاح، بحيث يكون تقسيم البلاد بينهم سهلاً سائغًا، لا مشقة
فيه ولا خسارة، ولم يكتفوا بجعل هذا الاحتلال لجيوش الدول الكبرى الظافرة،
بل انتهوا في إذلال الدولة والشعب التركي إلى الإذن لجيش من اليونان أن يحتل
ولاية أزمير أهم الولايات التركية بعد ولاية الآستانة , فطفق هؤلاء يستذلون أهلها،
فكانت هذه النكاية حافزةً للترك إلى الخروج مما خنعوا له أولاً من احتلال الآستانة
وغيرها، فهاجت الآستانة وماجت، واجتمع مئات الألوف في الميدان بين مسجد
أياصوفيا ومسجد السلطان أحمد , واحتجوا أشد الاحتجاج على عمل الحلفاء،
واحتج السلطان محمد وحيد الدين نفسه عليه بأن أعلن الاستقالة من الخلافة
والسلطنة، وأبى ولي عهده أن يقبل المبايعة لنفسه، واضطر السلطان إلى البقاء
في (دسته) وتألفت العصابات المسلحة في ولاية أزمير وغيرها من الأناضول
لقتال اليونان، فحملتهم خسائر عظيمة، ثم عزم الترك في الأناضول على مقاتلة
كل جيش يحتل بلادهم أو يجعلها تحت حماية أجنبية، وهو المتبادر من عمل
أوربة , وفر أنور باشا وغيره من الضباط إلى القوقاز، فتولوا تأليف العصابات
لقتال الإنكليز الذين احتلوا بعض تلك البلاد، والمساعدة على نشر البلشفية في أمم
الشرق الإسلامية.
بهذه العصابات التي ينتمي أكثر قوادها إلى جمعية الاتحاد والترقي التي لم
تدع في الجيش أحدًا من غير رجالها ذا قيمة، أخذت الجمعية تبني لها مجدًا جديدًا
في البلاد بعد أن ظن أكثر الناس أنه قضي عليها بسوء عاقبة الحرب التي أهلكت
بها الدولة والأمة، وبما تلا الهدنة من فرار أكبر زعمائها واعتقال الباقين، وبما
للسلطان محمد وحيد الدين الذي كان يمقتها أشد المقت من النفوذ الخاص الذي يعرفه
له أهل المكانة من الترك وغيرهم، حتى وصفه عربي وجيه كان مقيمًا في
الآستانة وعرفه حق المعرفة بقوله: إنه جمع بين ديانة أبيه عبد المجيد ,
وشجاعة عمه عبد العزيز , ودهاء أخيه عبد الحميد، وقال عربي آخر مختبر: إن
مشربه تجديد حياة الدولة بالمحافظة على مكانتها الإسلامية والعناية بالترقي
المدني، وإبطال التقاليد الضارة، ويرى العارفون بشؤون الدولة الآن أنه راض في
الباطن من مؤسسي العصابات، كمصطفى كمال باشا وغيره، وإن كانوا غير
خاضعين لحكومة الآستانة الخاضعة لاحتلال الحلفاء.
فالحرب الآن في الأناضول مستعرة كروسية، ونيران الفتن في البلقان
مستورة برماد دقيق تنكشف من تحته تارةً بعد أخرى، وجميع أمم الأرض
مضطربة جائعة، وسبب ذلك كله مؤتمر الصلح الأعرج الأعشى، الذي اكتفى بعقد
الصلح مع ألمانية ليقيدها بقيود تمكنه من التصرف في سائر الأمم بما يهوى،
ومعاهدة الصلح معها لم يُظهر رضاءه عنها أحد إلا الحكومة الإنكليزية الواضعة
لها، ولا يعلم عاقبة ذلك أحد إلا الله تعالى، فنسأله سبحانه اللطف بعباده
المهضومي الحقوق، والإدالة ولهم من ظالميهم الطامعين، آمين.