للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


افتراق الأمة الإسلامية والفرقة الناجية

(س ٥٥) من صاحب الإمضاء الرمزي في (شانكين - سومطرا) .
سلام الله عليكم , والرجاء من سيادتكم إيضاح ما أبهم، ولكم من الله الأجر؛
يزعم بعضهم أن افتراق الأمة إلى شيع أمر لازب، أخبر به النبي صلى الله عليه
وآله وسلم. في حديث (ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة)
رواه الطبراني.
وبناءً عليه، فلا مطمع في توحيد كلمتهم وإصلاحهم، بل لا يزالون مختلفين
وقد سألناهم عن الفرقة الناجية، فقالوا: هي المتبعة لمذاهب الأئمة الأربعة
المشهورة، فمن حاد عن أحد هذه المذاهب فهو ولا شك - بزعمهم - في الدنيا
من
المغبونين وفي الآخرة من المخذولين، (هذا ما تقوله حماة التقليد والأقرب أنه آخر
سهم في الكنانة) .
فما قولكم سيدي في الحديث، هل هو صحيح متواتر أم مطعون في الزيادة
الأخيرة؛ كما أشار إليها الأستاذ الحكيم السيد أبو بكر بن شهاب من أبيات نشرت في
الـ م٧ ص ٤٢٦ من المنار وهي:
وحديث تفترق النصارى واليهود ... وأمتي فرقًا روى الطبراني
لكن زيادة كلها في النار إلا ... فرقة لم تخل عن طعان
فتفضلوا علينا بالبيان الشافي المعهود من حضرتكم، لازلتم خير خلف لخير
سلف.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. م.
... ... ... ... ... ... ... ... ... في شاكين سمترا
(ج) أما افتراق الأمة الإسلامية فهو واقع بالفعل، ولكن لا يوجد دليل من
القرآن ولا من الحديث؛ يدل على اليأس من اتفاقهم في الأمور العامة والإخوة
الإسلامية والتعاون على مقاومة من يعاديهم كلهم، وعلى ما ينفعهم كلهم، وإن ظلوا
مختلفين في كثير من المسائل؛ بأن يكونوا في اختلافهم على هدي السلف الصالح
في عذر بعضهم لبعض واتقاء التكفير والعدوان.
وأما الحديث الوارد في الافتراق، فقد رواه غير واحد من الحفاظ منهم أحمد
وأبو داود والترمذي، وهو في الجامع الصغير بلفظ (افترقت اليهود على إحدى
وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين، وتفترق أمتي على ثلاث
وسبعين) رواه أحمد عن أبي هريرة. أقول: ورواه الترمذي عنه بلفظ (تفرقت) ،
ثم قال: في الباب عن سعيد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك حديث حسن
صحيح، حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود الجفري عن سفيان عن عبد
الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمر قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل
حذو النعل بالنعل؛ إلى أن قال (صلى الله عليه وسلم) وإن بني إسرائيل تفرقت على
اثنتين وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟
قال: (ما أنا عليه وأصحابي) هذا حديث حسن غريب، مفسر لا نعرفه مثل هذا
إلا من هذا الوجه , اهـ كلام الترمذي.
فهذه الرواية التي تعين الفرقة الناجية بشيء من القوة في إسنادها عبد الرحمن
ابن زياد الإفريقي راويها؛ وهو قاضي إفريقية، قال فيه الإمام أحمد: ليس بشيء
نحن لا نروي عنه شيئًا، وقال النسائي ضعيف في الثقات، ولما نقل الذهبي
عنه هذا القول قرنه بقوله: (فأسرف) ، وروي بأسانيد أضعف من هذه وأوهى،
فالرواية إذًا لم تخل من طعن فيها.
ورواه الحاكم في صحيحه، وما انفرد الحاكم بتصحيحه لا يسلم من مقال أيضًا،
ولكن قال في المقاصد: إن الحديث حسن صحيح يعني: بزيادة كلهم في النار إلا
فرقة واحدة.
ورُوي بلفظ كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة، فسئل عنها فقال: الزنادقة
والقدرية، رواه العقيلي والدارقطني، وهو موضوع وضعه ابن الأشرس. وفي
شرح عقيدة السفاريني ما نصه: ذكر أبوحامد الغزالي في كتاب التفرقة بين
الإسلام والزندقة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ستفترق أمتي نَيِّفٌ
وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة) هذا لفظ الحديث في بعض
الروايات، قال: وظاهر الحديث يدل على أنه أراد الزنادقة من أمته؛ إذ قال:
(ستفترق أمتي) ، ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته، والذين ينكرون المعاد
والصانع فليسوا معترفين بنبوته؛ إذ يزعمون أن الموت عدم محض، وأن
العالم كذلك لم يزل موجودًا بنفسه من غير صانع، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر، وينسبون الأنبياء إلى التلبيس، فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة , انتهى.
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإسكندرية: أما هذا الحديث فلا أصل له
بل هو موضوع كذب باتفاق أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ بل الذي في كتب
السنن والمسانيد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من وجوه أنه قال: (ستتفرق
أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار) وروي
عنه أنه قال: (هي الجماعة) ، وفي حديث آخر: (هي من كان على مثل ما أنا
اليوم عليه وأصحابي) وضعفه ابن حزم، لكن رواه الحاكم في صحيحه، وقد رواه
أبو داود والترمذي وغيرهم، قال: وأيضًا لفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي صلى
الله عليه وسلم كما لا يوجد في القرآن، وأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في توبته
قبولاً وردًّا؛ فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر) اهـ.
(قلت) : وقد ذكر الحديث الذي ذكره الغزالي الحافظ ابن الجوزي في
الموضوعات، وذكر أنه رُوِيَ من حديث أنس ولفظه (تفترق أمتي على سبعين أو
إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة) قالوا: يا رسول الله من هم؟
قال: (الزنادقة وهم القدرية) أخرجه العقيلي وابن عدي ورواه الطبراني أيضًا
قال أنس: كنا نراهم القدرية، قال ابن الجوزي: وضعه برد بن أشرس، وكان
واضعًا كذابًا، وأخذه عنه ياسين الزيات فقلب إسناده وخلطه، وسرقه عثمان بن
عفان القرشي وهؤلاء كذابون متروكون.
(وأما الحديث الذي أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن أمته ستفترق إلى
ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، فروي من حديث
أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي الدرداء
ومعاوية وابن عباس وجابر وأبي أمامة وواثلة وعوف بن مالك وعمرو بن
عوف المزني، فكل هؤلاء قالوا: واحدة في الجنة وهي الجماعة، ولفظ حديث
معاوية ما تقدم، فهو الذي ينبغي أن يعول عليه دون الحديث المكذوب على النبي
صلى الله عليه وسلم، والله أعلم) اهـ أورده السفاريني.
أقول: حديث معاوية الذي أشار إليه، رواه عنه أحمد والطبراني والحاكم بلفظ
(إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة سنفترق
على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) ، وفيه زيادة عزاها
السفاريني إلى أبي داود فقط، وهي: (وإنه ستخرج في أمتي أقوام، تتجارى بهم
الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه، فلا يبقى منهم عرق ولا مفصل إلا دخله)
وهذا أمثل ما رواه الحاكم من ألفاظ هذه الحديث، وسنده لا يسلم من مقال، ورواه
بغير هذا اللفظ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وكثير
هذا طعنوا فيه حتى قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب، وقال ابن
حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وذكر الذهبي أن العلماء لا يعتمدون
على تصحيح الترمذي؛ لأنه روى عنه حديث (الصلح جائز بين المسلمين)
وصححه.
وجملة القول أن تعدد طرق الحديث، يقوي بعضها بعضًا على طريقتهم
المتبعة في ذلك، وأظن أنه لا تسلم رواية منها عن طعان أو مقال، كما قال ابن
شهاب خلافًا لمن اعتمد تصحيح الحاكم لبعضها، وكلها مشكلة مخالفة للأحاديث
الصحيحة كما يأتي.
وأما معنى الحديث بصرف النظر عن سنده؛ فهو أن الفرقة الناجية هي الفرقة
التي تتبع السنة التي كان عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه؛ أي سنة
السلف الصالح قبل ظهور البدع، وهؤلاء هم الجماعة قلوا أم كثروا، وهم لا
ينحصرون في هذا الزمان بأهل مذهب معين من المذاهب المعروفة، على أن أهل
الأثر والحنابلة أقرب من غيرهم إلى السنة وأبعد عن البدعة، وذلك أن المسائل التي
اختلف فيها أهل المذاهب، لا ينحصر الحق فيها في مذهب دون غيره، فتارة يكون
الصواب مع الأشعرية وتارة مع الماتريدية فيما يختلفان فيه، وقل مثل هذا في
خلاف المعتزلة والشيعة وغيرهم، وفي الفروع وسائر المذاهب، ثم إن المنتمين
إلى هذه المذاهب ليسوا متبعين لائمتها حق الاتباع، فيكون أتباع المصيب هم الفرقة
الناجية، فالظاهر أن الناجين في كل زمان هم أهل الاتباع الذين يتقون الابتداع،
ولا يخلو المنتسبون إلى مذهب من المذاهب المعتد بها في الإسلام عن طائفة أو
أفراد منهم يؤثرون السنة على كل بدعة، ومجموعهم طائفة واحدة بجمعهم الاعتصام
بالكتاب والسنة {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: ١٣-١٤) .
وقد عد بعضهم هذا الحديث مشكلاً، وتوسع الشيخ صالح المقبلي في بيان هذا
الإشكال، وحله في كتابه العلم الشامخ، وإننا نلخص منه ما يأتي:
قال: (والإشكال في قوله كلها في النار إلا ملة، فمن المعلوم أنهم خير الأمم
وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة، مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء
في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض حسبما صرحت به
الأحاديث، فكيف يتمشى هذا؟ فبعض الناس تكلم في ضعف هذه الجملة، وقال:
هي زيادة غير ثابتة، وبعضهم تأول الكلام بأن الفرقة الناجية صالحوا كل فرقة،
وهو كلام منتقض؛ لأن الصلاح إن رجع إلى محل الافتراق، فهم فرقة واحدة لا
أفراد من الفرق، وإن رجع إلى غير ذلك فلا دخل له؛ لأن الكلام أنهم في النار
لأجل الافتراق، وما صاروا به فرقًا) .
(ثم إن الناس صنفوا في هذا المطلب، وأخذوا في تعداد الفرق؛ ليبلغوا بها
إلى ثلاث وسبعين، ثم يحكم كل منهم لنفسه ومن وافقه بأنه الفرقة الناجية، وإنما
يصنعون ذلك لإدعاء كل منهم أنه على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأصحابه، ثم صرح به صلى الله عليه وسلم ثم اتفق عليه جميع الفرق الإسلامية،
إنما ينحصر النظر فيمن الباقي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأصحابه، ومن المعلوم أن ليس المراد أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد
كان في فضلاء الصحابة، إنما الكلام في مخالفة تُصَيِّر صاحبها فرقة مستقلة
ابتدعها) .
(وإذا حققت ذلك، فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل، وفيما يترتب
عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر، ولكنها لم تخص معينًا من هذه الفرق التي قد
تحزبت، والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرون بحسب مسائل عديدة، حتى أدخلوا
نوادر المسائل وما لا ضرر في مخالفته، فربما لم يكن من مهمات الدين أو لم يكن
من الدين في شيء، ولكن كل تسمى باسم مدح اخترعه لنفسه، وصاروا يجعلون
المسائل شعارًا لهم من دون نظر في مكانة تلك المسألة في الدين، والخوارج
يسمون نفوسهم الشراة، والأشاعرة يسمون نفوسهم أهل السنة، والمعتزلة يسمون
نفوسهم العدلية أو أهل العدل والتوحيد؛ لأن خصمهم يثبت الصفات أمورًا مستقلة
فليسوا بموحدين أو لأنهم مشبهة إما صريحًا أو إلزامًا، ونحو ذلك مما تخبرك به
كتب المقالات والكلام، والإنصاف أن كلاًّ منهم قد اخترع ما لم يكن في زمن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضي الله عنهم، واختلفت البدع فمن كبير
وأكبر وصغير وأصغر، وما بينهما أعنى الكبر والصغر اللغويين لا الاصلاحيين،
فذلك مما لا سبيل إليه إلا بالتوقيف، والمفروض أن هذه أشياء مخترعة، فكيف
التوقيف على ما لم يذكر بنفي ولا إثبات إنما غايته أن يكون دخل في عموم نهي أو
نحو ذلك، فتعين الفرق، وتعدادها فرقة فرقة، وأنها هي التي أراد رسول الله صلى
الله عليه وسلم مما لا سبيل إليه ألبتة، إنما تكلموا فيها خبطًا وجزافًا، سهل لهم ذلك
وجرأهم عليه البدعة الأولى التي خالفوا بها السنة.
(فإن قلت: ومن ذا الذي بقى على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وأصحابه، ولم يشارك الناس في تحزبهم وابتداعهم، قلت: أما في العصور
المتقدمة فكان ذلك هو الغالب، ومازالوا من عام إلى عام يرذلون، وأما الآن في
زمن الغربة، فأما مَنْ يُرْجَع إليه في مسائل الدين وهم المتفقهة ففي غاية القلة،
وبذلك تصدق الغربة؛ لأن العلماء هم المعتد بهم، وبهم يصير الدين غريبًا أهيلاً
على أنهم قد قلوا في أنفسهم، لا تكاد تجد اليوم مدعيًا عنده بينة، وأما الأعصار
المتوسطة من المئتين إلى سبع مئة تقريبًا، ففيها ثورة العلماء وجلة الجهابذة الحكماء
وما شئت أن تأخذ منهم من خير وشر وجدته؛ أما الخير فبتحقيق فنون العلم وبثها،
وأما الشر فبتأييد الفرقة) .
ثم إنه قسم الناس إلى عامة وخاصة، وقال: إن العامة ومنهم النساء والعبيد
براء من البدعة، ولا يسمون أهل السنة أيضًا بل يسمون مسلمين.
قال: (وأما الخاصة فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها نصب عينيه، وبلغ
في تقويتها كل مبلغ، وجعلها أصلاً يرد إليه صرائح الكتاب والسنة، ثم تبعه أقوام
من نمطه في الفقه والتعصب، وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها، وحملوه ما لم
يتحمله، ولكنه إمامهم المقدم، وهؤلاء هم المبتدعة حقًا، لكن تختلف تلك البدعة في
كونها ذات مكانة في الدين أم لا) .
ثم ذكر أن من الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس
والتصنيف، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق، وقد دس في تلك الأبحاث نقوضها
لكن على وجه خفي الغرض، ومنهم من تدرب على كلام الناس، وعرف أوائل
الأبحاث، وحفظ كثيرًا من غثاء ما حصلوه، ولكن أرواح البحث بينه وبينها حائل
لقصور الهمة والرضا من الأوائل، قال: (وهؤلاء هو الأكثرون عددًا والأرذلون
قدرًا؛ فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة ولا أدركوا سلامة العامة) ، وقال: إن
هؤلاء لهم حكم الابتداع، والذين قبلهم ظاهرهم الابتداع، ورأيه أن تعامل هذه
الأقسام الثلاثة معاملة المبتدعة، وحسابهم على الله تعالى.
قال: (ومن الخاصة قسم رابع ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، أقبلوا
على الكتاب والسنة، وساروا بسيرهما وسكتوا عما سكتا عنه، وأقدموا وأحجموا
بهما، وتركوا تكلف ما لا يعنيهم، وكان تهمهم السلامة، وحياة السنة آثر عندهم من
حياة نفوسهم، وقرة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى وفهم معانيه على السليقة
العربية والتفسيرات المروية، ومعرفة ثبوت حديث نبوي لفظًا وحكمًا، فهؤلاء هم
السنية حقًا وهم الفرقة الناجية وإليهم العامة بأسرهم، ومن يشاء ربك من أقسام
الخاصة الثلاثة المذكورين بحسب علمه بقدر بدعتهم ونياتهم) .
ثم بين أن هذا هو المخرج من الإشكال ومناقضة هذا الحديث لأحاديث فضائل
الأمة المرحومة، واحتج لذلك بحديث حذيفة في الصحيحين وسنن أبي داود، قال:
كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر؛
مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بك
بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم) ، قلت: فهل بعد ذلك الشر
من خير؟ قال: (نعم وفيه دخن) ، قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يستنون بغير
سنتي ويهتدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر) قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: (نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قلت: يا رسول الله،
فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: وإن لم
يكن جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة
حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) ثم شرح المصنف هذا الحديث، وطبقه على
أحوال المسلمين إلى عصره في القرن الحادي عشر، وأكبر العبارة فيه الأمر
باعتزال جميع فرق المسلمين، إذا لم تكن كلمتهم مجتمعة على الإمام الحق الذي يقيم
الدين وينشر دعوته في العالمين.
الإسلام دين التوحيد، وما أمر المسلمون إلا ليبعدوا إلهًا واحدًا، ويتبعوا دينًا
واحدًا، ويقيموا لهم إمامًا واحدًا، ويكونوا أمة واحدة لا يفرقهم نسب ولا لغة ولا
وطن، وقد نهوا عن التفرق كما نهوا عن الكفر، ولكن ظهر الإسلام في الأميين،
فلم تكد الأمم والشعوب تتبين بعض معارفه، حتى دخلوا فيه أفواجًا من غير دعوة
منتظمة ولا مدارس مشيدة؛ لأنهم فصلوا بعض ما عرفوا منه على كل ما كانوا
يعرفون من أديانهم، فكان هذا الإقبال السريع على الدخول فيه من أسباب تفرق
أهله شيعًا ومذاهب ودولاً وأممًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥٣) ،
تنصر أحزاب السياسة أحزاب الدين وأحزاب الدين أحزاب السياسة على حزب
التوحيد، وتفريق الموحدين حتى جنوا على التوحيد نفسه؛ توحيد الألوهية بالتوجه
إلى غير الله ودعاء سواه، وتوحيد الربوبية بشرع ما لم يأذن به الله، وحتى سلط
الله تعالى على جميع هذه الأحزاب أعداء، خَضَّدُوا شوكتها وزلزلوا دولتها،
فضعف الغرور بها، وعلى قدر ضعفهم وضعفها صار بعض المسلمين يشعرون
بحاجتهم إلى الاتحاد بسائر إخوانهم، وكان أول من دعاهم في هذا العصر إلى
وجوب التعارف والاتحاد المصلح الحكيم الشهير السيد جمال الدين الأفغاني - رحمه
الله تعالى ورضي عنه - وقد صار المقتنعون بوجوب ذلك كثيرون.
إن تفرق المسلمين في السياسة والدولة، قد خَرَجَ أَمْرُ تَلاَفِيه مِنْ أيدي
المسلمين؛ لأنهم صاروا كلهم عالة على دول أوربا القوية، حتى إن أقوى دولهم
تعيش بمال أوربا، ويعمل فيها بنفوذ أوربا مالا يستطيع أحد أن يمنعه، فلا نبحث
في هذا؛ فإن له أجلاً لا بد أن يبلغه، وإنما نستفيد من حوادث الزمان في ضغط
أوربا ما نستعين به على تلافي ضرر التفرق في المذهب والجنس واللغة، فقد رأينا
ميل الفرس وإحساسهم بإخوة سائر المسلمين قد قوي بعد احتلال روسية لبعض
بلادهم وتهديد إنكلترة إياهم باحتلال البعض الآخر.
أما التفرق في المذاهب؛ فقد ضعف بقلة المذاهب وجهل المنتسبين إليها بها
وقلة انتفاعهم بعصبيتها، وتوجه كثيرون منهم إلى علوم وآداب أخرى غريبة عنها
فلم يبق أمامنا فرق كبيرة يذكرون بلقب مذهبي إلا الإمامية الزيدية من الشيعة،
والإباضية من فرق الخوارج، والوهابية من فرق أهل السنة وكانوا يسمون الحنابلة
ومعظم النزاع بينهم وبين الأشعرية، وقد تلاشى لقب أشعري وماتريدي من غير
الكتب، وأما الخلاف في الفروع فألقاب المذاهب فيه محفوظة، ولا يعرف الجماهير
من المذاهب التي ينتسبون إليها إلا قليلاً من المسائل التي يخالفون فيها غيرهم؛
كقنوت الشافعية في الصبح وسدل المالكية أيديهم في الصلاة، وقد بقي لكل مذهب
في الأصول والفروع طائفة من المنقطعين إلى تعلمها وتعليمها يتعصبون لها؛ لأنها
مورد معيشتهم ومصدر جاههم، فهم الآن دعاة التفريق وأنصاره، ولكن حوادث
الزمان ستمحق هؤلاء بإظهار دواعي الألفة والوحدة ومضرات التفرق، فيكون
المؤمنون إخوة متحابين، لا يمنعهم من ذلك الاختلاف في بعض المسائل الدينية،
بل يكون كالخلاف في المسائل العلمية والعادية.
وأما التفرق باختلاف اللغة والجنس والوطن فله في العصر دعاة من
المتفرنجين؛ هم أشد آفة وفتنة من دعاة التفرق بالمذاهب؛ لأنهم يتغلبون على
المناصب وأعمال الحكومة ومصالحها؛ بميل الحكومات إلى تقليد الإفرنج في كل
شيء، حتى صار في مسلمي مصر من يفتخر بالفراعنة وإن كان فيهم من لعنة الله،
وكلهم في الوثنية واستعباد البشر سواء، ومن الفُرْس من يفتخر بسلفه من
المجوس، بل ترى بعض الشعوب التي لا يعرف لها سلف مدني له آثار في العلوم
والفنون قبل الإسلام أشد عصبية للصنف واللغة من الشعوب التي لها سلف في ذلك،
فيجب على علماء الإسلام الأعلام أن يتحدوا ويتعاونوا في جميع البلاد الإسلامية؛
لكبح شر هؤلاء، وتحقيق الوحدة الإسلامية التي جعلت المسلمين كلهم إخوة، حتى
تسنى بها لعتيق حبشي أسود أن يعتقل أميرًا قرشيًا فاتحًا بعمامته في مكان سلطانه
وسؤدده أمام الناس، ويقوده بها إلى المحاسبة على ما أنفق من مال الأمة، ذلك
العتيق الحبشي هو بلال رضي الله عنه، وذلك الأمير هو سيد بني مخزوم سيف الله
ورسوله خالد بن الوليد رضي الله عنه.
إن الوحدة الإسلامية الدينية الأدبية التي ينشدها المصلحون تتوقف على تعميم
لغة الإسلام بين شعوب جميع الشعوب الإسلامية؛ إذ لا تآلف بغير تعارف، ولا
تعارف بغير تفاهم، ولا يسهل التفاهم بين المسلمين إلا بلغة دينهم المشتركة بينهم،
وهي العربية التي لم تعد خاصة بالعنصر العربي بالنسب، كما أن الإسلام ليس
خاصًّا به، وعلى تعارف علماء المسلمين وتعاونهم بالجمعيات العلمية الأدبية
والجرائد على توحيد طريقة التعليم الديني والاجتماعي، وقد أنشأوا يشعرون بهذه
الحاجة لحياتهم، وسيكون العمل قريبًا إن شاء الله تعالى.