للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مصطفى بك نجيب


نظرة عامة في حالة الإسلام

(مقالة للمرحوم مصطفى بك نجيب الذي كان من أشهر كتاب المسلمين في
مصر أرسلها إلى المنار مشايعة له على خطته منذ أكثر من ربع قرن، فلم ننشرها
يومئذ لكثرة لحنها وخجلنا من الافتيات على صاحبها بتصحيحها بدون إذنه، ثم ضلت
بين الأوراق , حتى عثرنا عليها في هذه الأيام، فرأينا الحاجة إليها كما كانت أو أشد
مما كانت سنة كتابتها فصححنا أكثر غلطها ونشرناها وهذا نصها) .
من الأمور التي يحار فيها لب المدققين في الأمور الاجتماعية والذين لهم إلمام
بعلوم التاريخ وأسباب تقدم الأمم أن يرى الإسلام في درجة الشقاء التي أصبح بها
وهذه الحالة التي عليها الأمم المختلفة المتدينون بالدين الحنيف قد استلفتت أنظار كل
المجتهدين في أسباب تقدم وارتقاء سعادة الأمم , ومن جهة أخرى قد شمتت أعداء
الإسلام لأنهم جعلوا ذلك حجة قوية يحتجون بها على أن الدين المنيف هو دين
الهمجية والانحطاط , وقد كذبوا في زعمهم , ولكن المقادير لم تساعد المسلمين في
الارتقاء والارتفاع , ولا يسند هذا إلى الإسلام لأنه بريء من كل ما يسند إليه من
الخزعبلات والتعصب الأعمى.
ولو نظرنا نظرة عامة في أحوال المسلمين لوجدناهم في أسوأ حال لأنهم
تركوا فضائل ما يأمرهم به دينهم القويم , واتخذوا الكسل عادة , والخرافات طبعًا
غريزيًّا، مع أن القرآن الشريف يأمرهم بالاجتهاد والعمل، ويرغبهم في الكسب
والارتزاق، وأن يسعوا في الأرض من مشارقها لمغاربها ليحصلوا على الفوائد
والمنافع التي تعلي شأنهم وتنمي ثروتهم.
يتأسف المسلم الغيور أن يرى ما آلت إليه أحوال المسلمين من (ضلال عن)
سواء السبيل، فقد ضلت الأفراد , وتغيرت معالمهم , وصار بينهم وبين الدين بون
عظيم مع أنهم لو ساروا على مبدأ الدين الإسلامي لأصبحوا في العز الرفيع والسؤدد
الجليل، ولكن أين ذلك، وقد ضربت على أفئدتهم غشاوة من الجهل , وتركوا
لأنفسهم مسلك الغباوة حتى حادوا عن الفضائل، وتشبثوا بالرذائل، ومع ذلك تراهم
مصممين على ما هم عليه قائمون، وإليه متجهون؟ أما آنت لهم الفرصة؟ ألم
يستفيدوا من الدروس المدهشة التي يرونها اليوم بعد الآخر؟ ألم تعلمهم الأهوال
كيف المآل؟ فقد انتهز الأجنبي فرصة نومنا وتداخل في أمورنا، ورمانا بعدم
الكفاءة والأهلية للعمل، هل بعد ذلك احتقار؟ كيف تكون أحوال المسلمين وقد
أمسوا مستعبدين بالأجانب لا يملكون لنفسهم حرية , ولا يمكنهم أن يجعلوا لدينهم
صفة ولا شأنًا بين الأديان، أين العلماء المجتهدون منهم الذين يهبون أنفسهم للتعليم
ويرغبون في تهذيب أخلاق إخوانهم المُفْتَقِرِينَ لتنبيههم عن غفلتهم؟ لا غيرة عندهم،
ولا نفس ترغبهم في العمل للمنفعة العامة.
سمعت من سائح سألته عن حالة المسلمين في جاوه وسوماطرة , فجاوبني
أنهم في أتعس عيش وأحط حالة , لا يسوغ لهم أن يجتمعوا في اجتماعات، ولا
تأذن لهم الحكومة ببناء مساجد وجوامع يقيمون بها الصلاة، حتى مدائنهم خالية من
كل ما يقام فيه شعائر العبادات الدينية الإسلامية، وإذا وجد شيء من هذا القبيل
فيمكن العثور عليه صدفة في القرى، فالمسجد يكون مركبًا من أكواخ حقيرة تقام
فيه بعض الفروض، ولا يسمح لساكني هذه الجزر بشيء سوى الضروري جدًّا مع
أنهم ملايين عديدة يسكنون هذه البقاع الخصبة , والتي لا ينقصها إلا العلم والانتظام
في سلك المدنية، كل ذلك حاصل والمسلمون في غفلة شديدة لا يحركون ساكنًا ,
ولا يرفعون صوتًا، فهل هذا ما يأمرهم به دينهم السديد؟
هل يأمرهم بالذل والمسكنة؟ كلا ثم كلا.
وهذا مثل من الأمثال التي يصادفها الإنسان بنفسه في حياة الأمم الإسلامية ,
وإذا قلنا: إن هذا الضعف ناتج من الضغط على الأفراد وعدم تمكنهم من حكم
أنفسهم بأنفسهم , فإليك أمثالاً متنوعة تشاهد بالعين ونراه , وإذا لم نرها فقد سمعنا
عن أخبارها.
فعدد الممالك الإسلامية التي تحكم نفسها فترى (؟) أن حالهم أسوأ وأردأ من
غيرهم , لا نظام لحكوماتهم , ولا مبدأ لدى الحكام إلا الاستبداد والظلم، حتى إن
هذه الأسباب تجعل بابًا للتداخل الأجنبي كما هو مشاهد الآن بمراكش وغيرها من
الممالك الأسيوية الإسلامية المستقلة.
ما الذي ينتظر من هذه الأمم ما دامت على هذه الحالة من الضعف؟ هل يؤمل
منهم خير بعد أن سلموا أرواحهم وبلادهم للأجانب وبعد أن سيطر هؤلاء عليهم
وأخذوا زمام أعمالهم في قبضتهم؟ .
أرى أنه ما دام أمراء المسلمين لاهين في شهواتهم ولذاتهم، مبتعدين عن كل
ما يجلب السعادة لشعبهم، غير مبالين إلا بمنافعهم الشخصية ومزاياهم النفسانية،
فذلك ما يجلب الدمار ويورث الضياع، لأن الملك إذا ترك لنفسه العنان , وانقاد إلى
أهوائه؛ ضاع وضيع من هو عليهم سلطان، فمن الوبال أن يحرم الإسلام من
الأمراء العاملين لنفعه الساعين في مصلحته وإعلاء كلمته.
وإني أرى أن السلطان العادل أو الأمير العارف يفيد المسلمين كثيرًا , ويصلح
شأنهم لأنهم يعدون أن الحاكم عليه صلاح الرعية، وبفساده تفسد البرية، وقد رسخ
ذلك في أوهامهم بدرجة غريبة لأنهم تعودوا ذلك من قديم مع أن ذلك لم يكن إلا بدعة
من البدع التي أضاعتهم وهضمت حقوقهم، لأنهم إذا طالبوا الحكام بواجباتهم لم
يستطيعوا أن يفعلوا مثل ما يفعلون معهم، ويستبدوا مثل ما يستبدون، ويجحفوا
بحقوقهم مثل ما هم عليه قائمون.
هذا ومن جهة أخرى ترى أن المسلمين أصبحوا في حالة تأخير من جهة الفكر
والتصور لأنهم امتثلوا للخرافات وزودوا عقولهم بأفكار سخيفة , وتركوا الأصول
الحقيقية فلذلك أثرت في حياتهم ووجودهم هذه الاعتقادات المأخوذة عن محض الجهل
حتى صارت لهم عادة مأثورة وقياسًا مألوفًا مع أن ذلك مخالف لنصوص الشرع على
خط مستقيم.
ترى أيضًا أن المسلمين منقسمون بينهم لا تربطهم محبة , ولا تجمعهم ألفة ولا
جامعة لأنهم أصبحوا محكومين , ولا يخفى أن الضغط والاستبداد يذهبان ما في
الإنسان من الغيرة والحمية وخصوصًا إذا جعل هذا الأمر عادة فيصير كأنه مخلوق
لهذه الحالة.
فلهذه الأسباب لا تجد جامعة واحدة حتى إنك ترى في البلدة الواحدة فتورًا بين
الأهل والأفراد , وقد نسوا كل النصائح الحكيمة التي أتى بها القرآن الشريف من
الآيات البينات في الاتحاد {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (القصص: ٣٥) , {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) إلى آخر تلك الآيات البينات.
ومن الحديث الشريف ما يغني عن البيان , ويفصح عن المقصود في مثل هذا
الموضوع.
وأما من يسمون بالعلماء فهم في حالة تأخر وانحطاط , فهم يرمون وراء
ظهورهم وينبذون نبذ النوى كل المبادئ الحديثة من العلوم , ويكفرون من اتبعها
زعمًا أن ذلك مخالف للشريعة السمحة ولو تصوروا قليلاً لعرفوا تمامًا سوء فهمهم
وقلة إدراكهم.
٣٠ أغسطس سنة ٩٠٥ ... ... ... ... ... مصطفى نجيب