للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


محمود سامي باشا البارودي

ذكرنا في الجزء الماضي تاريخ نشأة هذا الرجل وترجمته السياسية ,
وهذا ما وعدنا به من سيرته الأدبية ننشرها في باب الآثار فهو أولى بها.
يقولون: إن التربية هي التي تُكَوِّنُ الرجال النابغين , وليس وراء التربية
إلا الوراثة. ونقول مع الإذعان لهذا القول: إن الإنسان ابن استعداده لا ابن
أبيه وعشيرته التي يتربى فيها ويتكيف بصفاتها وعاداتها , فإن كان العامل في
الاستعداد هو الوراثة لأحد الآباء والجدود فذاك , وإلا فإن الاستعداد الذي يولد
في بعض الناس بغير سعي منهم ولا ممن يربونهم هو الأصل في تكوّن
الرجال النابغين في كل زمان ومكان. والتربية تساعد الاستعداد في تكميل
الشخص أو تقاومه فيبقى ناقصًا , وحوادث الزمان تساعد صاحبه فيظهر أثره
أو تعانده فلا يظهر له أثر. وقد ولد محمود سامي معتدل المزاج مستعدًّا
للبلاغة والتأثير في القول وللإتقان مع الاعتدال في العمل , وقد كان الزمن
الذي نشأ فيه غير مساعد على تكوين ملكة البلاغة وسجية الشاعر المفلق ,
ولم يعرف في آبائه وعشرائه شاعر مطبوع ولا كاتب بليغ , وكان المتأدبون
لا يتنافسون إلا في مثل شعر البهاء زهير وابن الفارض فمن دونهما من
المتأخرين المتكلفين , ولكن استعداده غلب وراثته الأعجمية وتربيته القومية
فنشأ في المدرسة الحربية شاعرًا ساحرًا جامعًا بين السلاسة والمتانة , وقد قال
الشعر في شبابه فكان في بدايته خيرًا من جميع شعراء عصره في نهايتهم.
ولكن له أبياتًا زعم فيها أنه جرى في الشعر على عرق إذ ورث النظم عن
خال له , والمعالي عن جده , وهي مما يوحي معاني الشعر قال:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله
وسما جدي علي ... يطلب النجم فناله
فهو لي إرث كريم ... سوف يبقى في السلاله
ولم يكن يحفظ لخاله ما يصح له به الحكم , ولكنه سمع أنه كان ينظم
وأن نظمه ضاع , فإن صح أنه كان بليغًا فالاستعداد مؤيد بالوراثة من جهة
أمه أو هو هي. ومن نظم المترجَم في شبابه قوله في الحرب الروسية
العثمانية:
أدور بعيني لا أرى غير أمة ... من الروس بالبلقان يخطئها العد
جواثٍ على هام الجبال لغارة ... يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو
إذا نحن سرنا صرّح الشر باسمه ... وصاح القنا بالموت واستقتل الجند
وقال معارضًا قصيدة أبي فراس (أراك عصي الدمع) :
طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة مما يضن بها التجر
ومنها في الفخر:
من النفر الغرّ الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر
إذا استلّ منهم سيدٌ غربَ سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
ويا لله أرق حاشية قوله: (لها في حواشي كل داجية فجر) وما أدق
غزل خياله فيه. وأما البيت الثاني فإنه ليكاد يروع ببلاغته السامع حتى يخيل
إليه أن الأفلاك تصدعت مما تفزعت فيلمس رأسه مخافة أن يصيبه كسف
منها, ويتمثل له الدهر رجلاً فجأه العجب فالتفت إلى السبب، وليكاد يلفته ما
يتخيل من التفات الدهر، ويلم به الدهش والذعر، أو يذهب به الوهم إلى أن
التفات الدهر هو التفات أهله فيحسب كل فرد من الناس قد ألوى عنقه
وشخص ببصره مقطبًا ينظر ما يكون من فعل ذلك السيف المستل في يد ذلك
البهمة الأمثل، وجملة ما يقال في البيتين: إنهما من السحر الذي يأخذ المرء
عن نفسه ويحكم سلطان الخيال في عقله وحسه، ولكني لا أعرف صيغة
(تفزّع) في هذه المادة لغيره , ولو كان لي أن أجيز مثلها لأجزتها وقلت:
إنها مما يشتق قياسًا , فإني لا أرى لغيرها مثل روعتها.
وله من قصيدة أخرى نحو هذا الفخر:
وأصبحت محسود الجلال كأنني ... على كل نفس في الزمان أمير
إذا صُلت كفّ الدهر من غُلوائه ... وإن قلت غصت بالقلوب صدور
وله قصيدة يعارض بها دالية النابغة الذبياني , ومنها في وصف الحرب
والفرس:
ولقد شهدت الحرب في إبانها ... ولبئس راعي الحي إن لم أشهد
تتقصف المران في حجراتها ... ويعود فيها السيف مثل الأدرد
عصفت بها ريح الردى فتدفقت ... بدم الفوارس كالأتيّ المزبد
مازلت أطعن بينها حتى انثنت ... عن مثل حاشية الرداء المجسد
ولقد هبطت الغيث يلمع نوره ... في كل وضاح الأسرة أغيد
تجري به الآرام بين مناهل ... طابت مشاربها وظل أبرد
بمضمر أرِنٍ كأن سراته ... بعد الحميم سبيكة من عسجد
خلصت له اليُمنى وعم ثلاثة ... منه البياض إلى وظيف أجرد
فكأنما انتزع الأصيل رداءه ... سلبًا وخاض من الضحى في مورد
زجل يردد في اللهات صهيله ... دفعًا كزمزمة الحبي المرعد
متلفتًا عن جانبيه يهزه ... مرح الصبا كالشارب المتغرد
فإذا ثنيت له العنان رأيته ... يطوي المعاهد فدفدًا في فدفد
يكفيك منه إذا استحس بنبأة ... شدًّا كألهوب الإباء الموقد
صلب السنابك لا يمر بجلمد ... في الشد إلا رضّ فيه بجلمد
نهم العتاد إذا الشفاة تقلصت ... يوم الكريهة في العجاج الأربد
وقال عندما كان يصطلي بنار الحرب في جزيرة كريد يصفها:
أخذ الكرى بمعاهد الأجفان ... وهفا السرى بأعنة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب ... فوق المتالع والربى بجران
لا تستبين العين في أرجائه ... إلا اشتعال أسنة المران
نسري به ما بين لجة فتنة ... تسمو غواربها على الطوفان
إلى أن قال:
فالبدر أكدر والسماء مريضة ... والبحر أشكل والرماح دوان
والخيل واقفة على أرسانها ... لطراد يوم كريهة ورهان
وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا ... يتكلمون بألسن النيران
حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت ... عيناي بين ربى وبين محان
فإذا الجبال أسنة وإذا الوها ... د أعنة والماء أحمر قان
ونظم في عهد الصبا قصيدة في العلم قال في مطلعها:
بقوة العلم تقوى شوكة الأمم ... فالحكم في الدهر منسوب إلى القلم
كم بين ما تلفظ الأسياف من علق ... وبين ما تلفظ الأقلام من حكم
وهذا الذي قاله وهو من رجال الحرب يدل على مبلغ استعداده للعلم.
ومنها:
شيدوا المدارس فهي الغرس إن بسقت ... أفنانه أثمرت غضًّا من النعم
مغنى علوم ترى الأبناء عاكفة ... على الدروس به كالطير في الحرم
من كل كهل الحجا في سن عاشرة ... يكاد منطقه ينهلّ بالحكم
كأنها فلك لاحت به شهب ... تغني برونقها عن أنجم الظلم
يجنون من كل علم زهرة عبقت ... بنفحة تبعث الأموات في الرمم
ثم وصف الشاعر منهم والكاتب والحاسب والمهندس والطبيب والخطيب
والسياسي والقانوني , وذكر التهذيب والفضيلة , وقال:
أنّى يفوز لنا قدح بفائدة ... ونحن في زاخر بالجهل ملتطم
لا تجعلوا اليأس عذرًا فهو داعية ... إلى المذلة بعد العز والشمم
لو كان يعلم حيّ أن خيبته ... من زلة الرأي لم يعتب على القسم
وقال بعد النفي يصف النوى، ويذكر الهوى، ويمثل أخلاقه، ويشكو رفاقه، وقد
سمعناها من إنشاده بعد عودته:
محا البين ما أبقت عيون المهى مني ... فشِبتُ ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة ... ألا شدّ ما ألقاه في الدهر من غبن
فإن أك فارقت الديار فلي بها ... فؤاد أضلته عيون المهى عني
بعثت به يوم النوى إثر لحظة ... فأوقعه المقدار في شَرَك الحسن
فهل من فتى في الدهر يجمع بيننا ... فليس كلانا عن أخيه بمستغني
ولما وقفنا للوداع وأسبلت ... مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فعزني ... وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
وما هي إلا خطرة ثم أقلعت ... بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى ... وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جرّبت النوى قبل هذه ... فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكني راجعت حلمي وردني ... إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل ... لما قرعت نفسي على فائت سني
فيا قلب صبرًا إن جزعت فربما ... جرت سنحًا طير الحوادث باليمن
فقد تورق الأغصان بعد ذبولها ... ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن
وأي حسام لم تصبه كهامة ... ولهذم رمح لا يفلّ من الطعن
ومن شاغب الأيام لان مريره ... وأسلمه طول المراس إلى الوهن
وما المرء في دنياه إلا كسالك ... مناهج لا تخلو من السهل والحزن
فإن تكن الدنيا تولت بخيرها ... فأهون بدنيا لا تدوم على فن
تحملت خوف المن كل رزيئة ... وحمل رزايا الدهر أحلى من المنّ
وعاشرت أخدانًا فلما بلوتهم ... تمنيت أن أبقى وحيدًا بلا خدن
إذا عرف المرء القلوب وما انطوت ... عليه من البغضاء عاش على ضغن
يرى بصري من لا أودّ لقاءه ... وتسمع أذني ما تعاف من اللحن
وقد نظم في منفاه بجزيرة سيلان قصيدة طويلة في السيرة النبوية على رويّ البردة قال في فاتحتها:
يا رائد البرق يمم دارة العلم ... واحْدُ الغمام إلى حيّ بذي سلم
وإن مررت على الروحاء فأمر لها ... أخلاف سارية هتانة الديم
من الغزار اللواتي في حوالبها ... ري النواهل من زرع ومن نعم
إذا استهلت بأرض نمنمت يدها ... بردًا من النور يكسو عاري الأكم
ترى النبات بها خضرًا سنابله ... يختال في حلة موشية العلم
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ ... أحق بالريّ لكني أخو كرم
منازل لهواها بين جانحتي ... وديعة سِرها لم يتصل بفمي
إذا تنسمت منها نفحة لعبت بي ... الصبابة لعب الريح بالعلم
أدِر على السمع ذكرها فإن لها ... في القلب منزلة مرعية الذمم
عهد تولى وأبقى في الفؤاد له ... شوقًا يفل شباة الرأي والهمم
إذا تذكرته لاحت مخايله ... للعين حتى كأني منه في حلم
فما على الدهر لو رقت شمائله ... فعاد بالوصل أو ألقى يد السلم
تكاءدتني خطوب لو رميت بها ... مناكب الأرض لم تثبت على قدم
في بلدة مثل جوف العير لست أرى ... فيها سوى أمم تحنو على صنم
لا أستقرّ بها إلا على قلق ... ولا ألذ بها إلا على ألم
إذا تلفتّ حوالي لم أجد أثرًا ... إلا خيالي ولم أسمع سوى كلمي
فمن يرد على نفسي لبانتها ... أو من يجير فؤادي من يد السقم
ليت القطا حين سارت غدوة حملت ... عني رسائل أشواقي إلى إضم
مرت علينا خماصًا وهي قاربة ... مر العواصف لا تلوي على أرم
لا تدرك العين منها حين تلمحها ... إلا مثالاً كلمح البرق في الظلم
كأنها أحرف برقية نبضت ... بالسلك فانتشرت في السهل والعلم
لا شيء يسبقها إلا إذا اعتقلت ... بنانتي في مديح المصطفى قلمي
محمد خاتم الرسل الذي خضعت ... له البرية من عرب ومن عجم
سمير وحي ومجنى حكمة وندى ... سماحة وقِرى عافٍ وريّ ظم
قد أبلغ الوحي عنه قبل بعثته ... مسامع الرسل قولاً غير منكتم
قوله: قاربة، مؤنث قارب وهو طالب الماء ليلاً. وأرم بالتحريك ككتف
بمعنى أحد، لا يستعمل إلا في النفي. ومر بقصر الجزيرة بعد عودته من سيلان
فتذكر أيام إسماعيل , ونظم معتبرًا ومذكرًا:
هل بالحمى عن سرير الملك من يزع ... هيهات قد ذهب المتبوع والتبع
هذي الجزيرة فانظر هل ترى أحدًا ... ينأى به الخوف أو يدنو به الطمع
أضحت خلاء وكانت قبل منزلة ... للملك منها لوفد العز مرتبع
فلا مجيب يرد القول عن نبأ ... ولا سميع إذا ناديت يستمع
كانت منازل أملاك إذا صدعوا ... بالأمر كادت قلوب الناس تنصدع
عانوا بها حقبة حتى إذا نهضت ... طير الحوادث من أوكارها وقعوا
لو أنهم علموا مقدار ما فغرت ... به الحوادث ما شادوا ولا رفعوا
دارت عليم رحا الأيام فانشعبوا ... أيدي سبا وتخلت عنهم الشيع
كانت لهم عصب يستدفعون بها ... كيد العدوّ فما ضروا ولا نفعوا
أين المعاقل بل أين الجحافل بل ... أين المناصل والخطية الشرع
لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت ... أحداثه أو يقي من شر ما يقع
زلوا فما بكت الدنيا لفرقتهم ... ولا تعطلت الأعياد والجمع
والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر ... وإنما صفوه بين الورى لمع
لو كان للمرء فكر في عواقبه ... ما شان أخلاقه حرص ولا طمع
وكيف يدرك ما في الغيب من حدث ... من لم يزل بغرور العيش ينخدع
دهر يغرّ وآمال تسرّ وأعـ ... ـمار تمرّ وأيام لها خدع
يسعى الفتى لأمور قد تضر به ... وليس يعلم ما يأتي وما يدع
يأ أيها السادر المزّور من صلف ... مهلاً فإنك بالأيام منخدع
دع ما يريب وخذ فيما خلقت له ... لعل قلبك بالإيمان ينتفع
إن الحياة لثوب سوف تخلعه ... وكل ثوب إذا ما رثّ ينخلع
فهذه القصيدة من آخر ما نظم , وفيها من آيات النذر للمغرورين بكثرة
المال والدثر، ما يستعبر له صاحب القلب، ويعتبر به من له لب.
والطبع في قوله: ما شان أخلاقه حرص ولا طبع (بالتحريك) الدنس والفساد
والكسل , وأصله من طبع (كتعب) السيف إذا علاه الصدأ. والسادر في الأخير:
المتحير , والذاهب عن الشيء ترفعًا , والذي لا يبالي ما صنع.
أثره الأدبي
منتخبات ثلاثين ديوانًا
كان للفقيد في ذوق الشعر وملكة البيان ما يُشعر به شعره، واشتهر به
دون السياسة والرياسة أمره، فهو كما ترى قد ناهز الجاهليين في القوة
والمتانة، وخاطر المخضرمين في الفصاحة والبلاغة؛ وبذ المولدين في الرقة
والسلاسة، فصح أن يلقب برب السيف والقلم، وصاحب الحُكْم والحِكَم،
وفارس الميدان والبيان، والصائل بالسنان واللسان. وما زال أهل الأدب
يعجبون بذوقه وحسن اختياره , وقد رأى بعد عودته من سيلان أن يؤلف
ديوانًا في الأدب من مختار فحول الشعراء المولدين؛ ليكون عونًا للناشئين
على طبع ملكة البلاغة العربية في النفس وتقوية سليقة الشعر في الخيال ,
فاختار دواوين ثلاثين شاعرًا فقرأها واختار منها فرائدها ورتبها في سبعة
أبواب: الأدب , المديح , الرثاء، الصفات، النسيب، الهجاء، الزهد،
والحكم، ورتب أسماء الشعراء على حسب أزمنتهم لا على حسب مكانتهم وهم:
(١) بشار بن برد (٢) العباس بن الأحنف (٣) أبو نواس (٤) مسلم بن
الوليد (٥) أبو العتاهية (٦) محمد بن عبد الملك الزيات (٧) أبو تمام
(٨) البحتري (٩) ابن الرومي (١٠) عبد الله بن المعتز (١١) أبو الطيب
المتنبي (١٢) أبو فراس الحمداني (١٣) ابن هانئ الأندلسي (١٤) السري
الرفاء (١٥) ابن نباتة السعدي (١٦) الشريف الرضي (١٧) أبو الحسن
التهامي (١٨) مهيار الديلمي (١٩) أبو العلاء المعري (٢٠) صردر (٢١)
ابن سنان الخفاجي (٢٢) ابن حبوس (٢٣) الطغرائي (٢٤) الغزي
(٢٥) ابن الخياط (٢٦) الأرجاني (٢٧) الأبيوردي (٢٨) عمارة اليمني
(٢٩) سبط التعاويذي (٣٠) ابن عنين.
ونقول: إن بشار بن برد أولهم مات سنة ١٦٧ عن نحو تسعين سنة فهو
من أهل القرن الأول والثاني , وابن عنين - بالتصغير - توفي سنة ٦٣٠ وقيل
سنة ٦٣٤ أي في أوائل القرن السابع فهؤلاء فحول الشعراء المولدين في نحو
سبعة قرون , فأشعارهم هي تاريخ اللغة والأدب في هذه القرون , وقد تحامى
الفقيد في اختياره المجون , فإنه كان يكرهه قولاً فكيف يثبته كتابة. وقد وضع
تعليقًا لهذا الديوان العظيم يفسر فيه الألفاظ الغريبة والمعاني المغلقة , وسيشرع
أهله في طبعه في زمن قريب إن شاء الله تعالى.
هذا هو الأثر العظيم لفقيد الأدب وأشعر الشعراء في هذا العصر , ولك
مثل من شعره في الموضوعات المختلفة , وكان أدبه النفسي أعلى من أدبه
اللساني , وقد خانه رحمه الله في نكبته كل صلة بالناس ما عدا هذه الصلة
الأدبية , فلم يف بعهده ويرعى حقوق وده من انتفعوا بجاهه ورفده، ولكن
وفى له الأدباء والشعراء، ووادَّه الفضلاء والعلماء الذين تجمعه بهم الصلة
الروحية والمشاكلة الطبيعية، فكانوا يكاتبونه في غيبته، ويغشون ناديه بعد
عودته، وكان أشدهم له وفاء الأستاذ الإمام، ومثله من يقوم بحقوق الصداقة
حق القيام، وقد عرفناه وصحبناه في هذه المدة , وكنا نذاكره في شؤون
الإصلاح فنراه متفقًا معنا في كل ما نعتقد ونكتب في وسائل إصلاح حال
المسلمين , وكان له ولع بالمنار حتى كان أحيانًا يطلبه قبل صدوره , بل قبل
تمام طبعه فنرسل له الكراسة بعد الأخرى خالصة له من دون المحبين.
توفاه الله تعالى في ليلة الثلاثاء لخمس خلون من شهر شوال فشيعت
جنازته باحتفال عظيم , وصلى عليه الأستاذ الإمام , ولم أره صلى على ميت
غيره إلا مأمومًا , وسيجتمع شعراء مصر وأدباؤها في اليوم التاسع والثلاثين
لموته - الجمعة ١٤ ذي القعدة ٢٠ يناير - عند ضريحه ويؤبنونه ويرثونه بما
نظموه من القصائد , فنسأل الله تعالى أن يرحمه رحمة واسعة , ويجعل في
ذريته خير خلف له، آمين.