للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد نجيب حفار


الإلحاد في المدارس العلمانية [*]

حضرة العالم الفاضل اللوذعي الكامل صاحب مجلة المنار الإسلامية فضيلة
السيد محمد رشيد أفندي رضا أدامه الله ركنًا ركينًا لإنارة منار الدين وكهف
المستغيثين.
أما بعد: سلام عليكم من الله ورحمة وبركة، إن الذي حدا بي لأن أسطر
لسيادتكم هذه العجالة؛ هو أنني قد اطلعت على كلام لبعض مدرسي المدرسة
العلمانية اللادينية التي صار إنشاؤها حديثًا في مدينة بيروت (الموسيو أرنولد) في
جريدة الخرج عدد ٧٤ نقلاً عن جريدة البشير، وعندما فرغت من مطالعتها تخيل
لي أن الإسلام قد عاد كما بدأ غريبًا كئيبًا لا ملجأ له ولا مأوى، ولا مجير يجيره ويرد
عن حوزة بيضته، إلى أن استيقظت من رقدتي، وتنبهت من غفلتي، وعلمت أن الله
سبحانه يرسل في رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكنت بحسب
اعتقادي أنك هو هو في هذا الزمان؛ ولذلك بادرت لأقدم لحضرتكم ما تفوه به
ذلك الضال من الطعن في الدين، وفي ذات الله تقدست ذاته من أن تصل إليه أيدي
المعطلين الخائنين الكافرين؛ لتعلقوا على ذلك ما يرد أباطيله وأضاليله
الكاذبة ومفترياته الخاسئة، إذ ليس مثل فضيلتك من يكبح جماح مثله، كما سبق
لحضرتكم ولحضرة المرحوم الأستاذ الإمام كسر رءوس هكذا وحوش ضارية، بل
الوحوش خير منهم، وهذه عبارته بنصها وحروفها.
قال الخائن: (يجب تحطيم الأصنام النخرة، ولا سيما أشدها ثباتًا ونخرًا أي
حقيقة الله ... العقل يقودنا إلى الحقيقة، الإيمان يقودنا إلى الكذب، الكذب هو الله
... أمن الممكن أن يكون الله شيئًا سوى ذلك الوعيد الذي رفعه الأحبار منذ القدم
فوق رءوس الشعوب، ولم يزل في أيامنا وفي وسط الحضارة والتمدن آلة القوى
الشريرة، آه! فليسقط كل إله. إن كان عناية ربانية قد اجترمت على الأرض
جرائم لا تحد ولا تحصى، كي يسود الخير الاجتماعي فيما بيننا، وكي تتحرر
الشعوب يجب ليس فقط هدم الكنيسة ونقضها، يجب أيضًا قتل الله!) .
هذه عبارته بنصها وحروفها تمامًا، فالله أسأل أن يلهمكم ردًّا كافيًا شافيًا على
هذا الخائن، وخصوصًا أن كثيرًا من المسلمين من أهالي بيروت أرسلوا أولادهم
للمدرسة المذكورة؛ ليتعلموا بها اللادين، نعوذ بالله من فساد الاعتقاد والدين،
والسلام عليكم.
طرابلس الشام في ٢٨ جمادى الثاني سنة ٣٢٧ ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم الصادق
محمد نجيب حفار
(المنار) ليس العجيب أن يقذف ذلك الملحد تلك الأباطيل جهرًا، فتنشر في
الجرائد، ولكن العجيب أن تسمح الحكومة العثمانية بنشر الكفر الصريح في
المدارس والجرائد، وهي لا تكاد تسمح في الآستانة بانتقاد أحد من أصحاب
السياسة السوءى. وكل ما قاله ذلك الملحد بديهي البطلان لا يحتاج إلى الرد عليه،
فهو يزعم أن الإيمان يعلم الناس الكذب والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (النحل: ١٠٥) وقول الله هو الحق الذي يصدقه العقل، فإن
من لا إيمان له لا حظ له من حياته إلا التمتع بالشهوات والحظوظ العاجلة، فلا
يمتنع من الكذب لأجل تحصيلها. وأما المؤمن فيمنعه من الكذب خوف العقاب في
الآخرة فوق الحذر من فقد الكرامة في هذا، وإن الذين جربوا هذا التعليم في أوربة
بدأوا يجنون منه الحنظل والزقوم بزيادة الجنايات والجرائم فيهم، وإننا ننقل لك ما
نشر في جريدة الأخبار في العدد الذي صدر في ٢٦ جمادى الآخرة مؤيدًا لذلك وهو:
التعليم اللاديني
بشرنا مكاتب من الإسكندرية في المقطم بأن نخبة من الماسون ورجال
الجمعيات الأخرى، شارعون في إنشاء مدارس التعليم المطلق من كل سلطة
دينية، يعلمون فيها التلاميذ على مذهب ابن رشد، ورحب بهذا المشروع
وأطراه وأمل فيه خيراً عظيمًا وسأل بلدية الإسكندرية أن تساعده مساعدة
فعلية مادية، فرأينا والحالة هذه أن نقول كلمة في التعليم المشار إليه نذكر فيها
نتائجه في البلاد التي أقبلت عليه، ونبين حقيقته عبرة لقوم يعقلون.
أقبلت فرنسا على هذا التعليم منذ سنة ١٨٨٢، فلم تر منه فائدة في ترقية
الأخلاق، بل دلت الإحصاءات على أن الفساد زاد كثيرًا في الأجيال التي
خرجت في عهده، ولا يزال يزداد في الأحداث نوع خاص فإن عدد المجرمين
الأحداث في سنة ١٨٨٢كان ١٦٠٠٠، فإذا هو ٤١٠٠٠ سنة ١٨٩٢، وكان
معدل المنتحرين من الأحداث الذين يتراوح سنهم بين السادسة عشرة والواحدة
والعشرين ١٦٨ في سنة ١٨٧٥، فبلغ ٧٨٠ في سنة ١٩٠٠ وبلغ عدد
الفارين من الخدمة العسكرية - وهي جريمة ضد الوطن - ٢٥٧٨٧ في سنة
١٩٠٩، وكان أقل من ذلك بكثير فيما مضى، وانتشر مذهب اللاوطنية أيما
انتشار.
وممّا يزيد هذه الأرقام جسامة أن ازدياد الجنايات؛ لا يقابله زيادة في
المواليد؛ بل نقص فيها على ما هو معلوم.
والعقلاء متفقون على أن ذلك نتيجة التعليم اللاديني.
قال المسيو غيليو وهو من رجال القضاء: ما من رجل صادق مهما كان
مذهبه إلا يضطر إلى الإقرار؛ بأن زيادة الجرائم الهائلة بين الفتيان قد بدأت
بعد ما أحدثوه في التعليم العمومي.
وقال المسيو بونجان وهو قاض آخر: إن فرنسا ستهبط إلى أقصى
دركات الهاوية؛ بسبب هاته الذريات المتوالية التي تفوق كل واحد منها
الأخرى صلفًا وكسلاً وتمردًا. وإنما سبب كل ذلك التربية اللادينية.
وقال المسيو ألار أحد زعماء الاشتراكيين في مجلس النواب مخاطبًا
أعضاء المجلس: ... إني أسألكم، أليست طريقة التعليم التي جئتمونا بها سببًا
من أسباب الجنايات؟
ويدعم هذا الرأي الإحصاء الذي أورده المسيو غيليو قال:
إن من مائة ولد يحاكمون، لا يكاد يكون اثنان من تلامذة المدارس
الدينية والباقون من سواها.
هذا ولما كان الشارعون في التعليم اللاديني في مصر يريدون الانتساب
إلى ابن رشد، فلا نرى بدًّا من أن نبدي لهم في المقام رأي ذلك الفيلسوف
نفسه في هذه المسألة.
جاء في الهلال عدد ٢ سنة ٢ صفحة ٤١ في ترجمة ابن رشد، وقد قال:
إنه ينبغي للإنسان في حداثته التمسك بالدين، وإنه إذا توصل إلى معرفة
حقائق الدين السامية نظريًّا، فلا ينبغي أن يزدري بالمبادئ التي نشأ عليها.
وسئل رينان شارح فلسفة ابن رشد في هذا العصر: كيف تصلح أخلاق
الأحداث؟ فقال: إني آسف كثيرًا؛ لأن ذوي الشأن لا يهتمون بغرس مبادئ
الدين في صدورهم.
ورأي ابن رشد ورينان يشجب المدارس اللادينية، حتى إذا صحت
دعوتها الأولى؛ وهي أنها تعلم العلوم في معزل عن الدين، فكيف وهي لا
تقصد حقيقة سوى مقاومة الدين ومقاتلته، وذلك بشهادة الزعماء والأركان.
قال المسيو فيفياني في مجلس النواب الفرنساوي: لقد حان الوقت لأن
نجاهر بأن كلمة (الحياد) ؛ لم تكن سوى أكذوبة سياسية وخدعة، قضت بها
الظروف لتسكين خواطر ذوي الضمائر الضعيفة. أما الآن فالواجب أن
نكشف حقيقة مقاصدنا، ونقول: إنه لم يكن في نيتنا سوى أمر واحد؛ وهو
إنشاء مدرسة تقاوم الدين بنشاط وجهاد.
قال المسيو أولار رئيس جمعية التعليم العلماني: كفانا ذكرى الحياد (في
الأمور الدينية) في المدارس، فلا نقول بعد الآن: إننا لا نريد دك الدين بل
لنجاهر أننا نريد دكه دكًّا.
وجاء في مقدمة الجزء الثاني من كتاب (التعليم الجمهوري) الذي
وضعته (جمعية نشر التعليم العلماني) ١٩٠٥ ما يلي: (دعونا من الله، إننا
لا نريد أن نهدم الكنيسة فقط، بل نريد أن نقتل الله نفسه) (قاتلهم الله ولعنهم) .
وجاء في كتاب (القوى الطبيعية) للمسيو هنري أرنول أحد أساتذة
المدرسة العلمانية في بيروت ما يلي: (الله هو الكذب. اقرأ بوفون وفولتر وكوفيه
وداروين نفسه تجد أن كل مرة لم يتمكن يراع أولئك المفكرين العظام
من جعل حقيقة تنتشر في الكون وتسير في سبيلها، كان المانع لها الله) .
هذه نتائج التعليم الذي يريد أن ينفحنا به ماسون الإسكندرية وأعوانهم،
كأننا في حاجة إلى عوامل جديدة لزيادة الجنايات، وتكثير حوادث الانتحار،
وبث روح اللاوطنية في هذا القطر، وهذه قواعد ذلك التعليم وغايته، ولا نعلم
كيف تطلب مساعدته من حكومة ذات دين رسمي تنفق على إقامة شعائره
مبالغ طائلة، وتبث الأئمة والوعاظ في البلاد مستعينة بمواعظهم على تقليل
الجنايات، وتشترك بثمانية آلاف نسخة من مجلة دينية؛ رغبة في إصلاح
الأخلاق، وكتابها ينادون أنها دينية قبل كل شيء، ويتحاشون ذكر اسم
الجلالة في الجرائد؛ حذرًا من أن يؤدي ذلك إلى امتهانه، ويقومون ويقعدون
إذا فكرت بلدية الإسكندرية بإقامة تمثال لشاعر أهان نبيهم، ألا يرى الكاتب
أن هذه الحكومة إذا أجابت طلبه تقع في التناقض؛ إذ أنها مخطئة: إما في
تعزيز الدين وإما في المساعدة على مقاومته، وإن طلب المساعدة من مثل
هذه الحكومة لمثل هذه الغاية منتهى السذاجة أو غاية الوقاحة. اهـ.
(المنار)
سبق لنا كلام في انتشار الإلحاد في فرنسة، وأنها ستكون أول دول أوربة
هلاكًا إذا لم تتدارك ذلك، وما كنا سمعنا عن أحد من عقلائها كلامًا في ذلك؛
كالذي ترجمته لنا جريدة الأخبار، وما دعا الحكومة الفرنسية إلى هذا إلا خوفها
على جمهوريتها؛ لأن جميع رجال الدين فيها يعتقدون وجوب الحكومة الملكية،
فما جاءتها هذه الفتنة إلا من السياسة الملعونة، ومن العجائب أن ما حاولته
فرنسة ولم تتجرأ على التصريح به إلا بعد عشرات السنين من السعي له، ينفذ
في بلادنا بعد الدستور فجأة، ويعلن إعلانًا، وما نسبة ماسون الإسكندرية هذا
النوع من التعليم إلى ابن رشد إلا غش وخداع، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع
إن شاء الله تعالى.