لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما قبله)
(النوع الثاني) من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافرًا إلا من حمل الزاد والمزاد دون من كان نازلاً , فكان لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر , والتاني [١] , والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك , ولم يُقَدِّر عثمان للسفر قدرًا , بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر , وكذلك قيل: إنه لم ير نفسه والذين معه مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون: (السفر الذي تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد) , ومأخذ هذا القول - والله أعلم - أن القصر إنما كان في السفر لا في المقام , والرجل إذا كان مقيمًا في مكان يجد فيه الطعام والشراب، لم يكن مسافرًا , بل مقيمًا بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل الطعام والشراب , فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر , وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة , والمشقة إنما تكون لمن يحتاج إلى حمل الطعام والشراب، وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس وجنس , روى ابن شيبة عن علي بن مسهر , عن أبي إسحاق الشيباني , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن عبد الله بن مسعود قال: (لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم , فإنه من مصركم) . فقوله: (من مصركم) يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعًا له , وروى عبد الرزاق , عن معمر , عن الأعمش , عن إبراهيم التيمي , عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن , فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي , وشرط علي أن لا أفطر , ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه , وبينهما نيف وستون ميلاً , وعن حذيفة: (أن لا يقصر إلى السواد) , وبين الكوفة والسواد تسعون ميلاً , وعن معاذ بن جبل , وعقبة بن عامر: (لا يطأ أحدكم بماشية أحداب الجبال , أو بطون الأودية , وتزعمون أنكم سفر , لا ولا كرامة , إنما التقصير في السفر من الباءآت [٢] من الأفق إلى الأفق) . (قلت) : هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان , ولا بالمكان لكن جعلوا هذا الجنس من السير سفرًا كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد ومزاد , فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل فيه الزاد والمزاد , فهو كالمقيم , فقد وافقوا عثمان , لكن ابن مسعود خالف عثمان في إتمامه بمنى، وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة , وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ من أفق إلى أفق , فهذا هو الظاهر؛ ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: (فإنه من مصركم) , وهذا كما أن ما حول المصر من البساتين , والمزارع تابعة له , فهم يجعلون ذلك كذلك , وإن طال , ولا يجدون فيه مسافة , وهذا كما أن المخاليف وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير. وفي حديث معاذ: (من خرج من مخلاف إلى مخلاف) يدل على ذلك ما رواه محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا شعبة، سمعت قيس بن عمير يحدث عن أبيه , عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربعة فراسخ , فصلى الظهر ركعتين، قال شعبة: أخبرني بهذا قيس بن عمران , وأبوه عمران بن عمير شاهد , وعمير مولى ابن مسعود. فهذا يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة , ولكن اعتبر أمرًا آخر كالأعمال , وهذا أمر لا يحد بمسافة , ولا زمان لكن بعموم الولايات، وخصوصها، مثل من كان بدمشق , فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها؛ كان مسافرًا. وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر؛ إنما رخص فيه للمشقة التي تلحقه في السفر، واحتياجه إلى الرخصة، وعلموا أن المنتقل في المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر , وكذلك الخارج إلى ما حول المصر , كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، ولم يكن يقصر , وكذلك المسلمون كانوا ينتابون الجمعة من العوالي , ولم يكونوا يقصرون , فكان المنتقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم. وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ومزدلفة، ومنى، مع أن هذه تابعة لمكة , ومضافة إليها , وهي أكثر تبعًا لها من السواد للكوفة , وأقرب إليها منها , فإن بين باب بني شيبة , وموقف الإمام بعرفة عند الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة بريد بهذه المسافة , وهذا السير وهم مسافرون , وإذا قيل: المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام؛ قيل: بل كان هناك قرية نمرة , والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل بها , وكان بها أسواق , وقريب منها عرنة التي تصل واديها بعرفة , ولأنه لا فرق بين السفر إلى بلد تقام فيه , وبلد لا تقام فيه إذا لم يقصد الإقامة , فإن النبي صلى الله عليه وسلم , والمسلمين سافروا إلى مكة , وهي بلد يمكن الإقامة فيه , وما زالوا مسافرين في غزوهم وحجهم وعمرتهم , وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في جوف مكة عام الفتح وقال: (يا أهل مكة , أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) , وكذلك عمر بعده فعل ذلك , رواه مالك بإسناد صحيح , ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا أبو بكر , ولا عمر بمنى [٣] , ومن نقل ذلك عنهم؛ فقد غلط , وهذا بخلاف خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا , وخروجه إلى الصلاة على الشهداء , فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم , وبخلاف ذهابه إلى البقيع , وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة؛ ليجمعوا [٤] بها , فإن هذا كله ليس بسفر , فإن اسم المدينة متناول هذا كله , وإنما الناس قسمان: الأعراب , وأهل المدينة , ولأن الواحد منهم يذهب , ويرجع إلى أهله في يومه من غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر , فلا يحمل زادًا , ولا مزادًا لا في طريقه , ولا في المنزل الذي يصل إليه؛ ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافرًا؛ ولهذا تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء , وهو يقدر بسماع النداء وبفرسخ , ولو كان ذلك سفرًا لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفرًا , فإن الجمعة لا تجب على مسافر , فكيف يجب أن يسافر لها. وعلى هذا , فالمسافر لم يكن مسافرًا لقطعه مسافة محدودة , ولا لقطعه أياما محدودة؛ بل كان مسافرًا لجنس العمل الذي هو سفر , وقد يكون مسافرًا من مسافة قريبة , ولا يكون مسافرًا من أبعد منها , مثل أن يركب فرسًا سابقًا , ويسير مسافة بريد , ثم يرجع من ساعة إلى بلده , فهذا ليس مسافرًا , وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة , ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد؛ فكان مسافرًا كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة , ولو ركب رجل فرسًا سابقًا إلى عرفة , ثم رجع من يومه إلى مكة؛ لم يكن مسافرًا , يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن , والمقيم يومًا وليلة) , فلو قطع بريدًا في ثلاثة أيام؛ كان مسافرًا ثلاثة أيام ولياليهن؛ فيجب أن يمسح مسح سفر , ولو قطع البريد في نصف يوم؛ لم يكن مسافرًا , فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة أيام سواء كان سفره حثيثًا , أو بطيئًا , سواء كانت الأيام طوالاً , أو قصارًا. ومن قدره ثلاثة أيام , أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والأقدام , وجعلوا المسافة الواحدة حدًّا يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها في يوم؛ جعلوه مسافرًا ولو قطع ما دونها في عشرة أيام؛ لم يجعلوه مسافرًا , وهذا مخالف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى قباء , والعوالي وأُحُد , ومجيء أصحابه، من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين الأبنية، والحوائط التي هي النخيل، وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر، والمسافر لا بد أن يسفر؛ أي: يخرج إلى الصحراء، فإن لفظ السفر يدل على ذلك، يقال: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته , فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن؛ لا يكون مسافرًا , قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: ١٠١) , وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} (التوبة: ١٢٠) , فجعل الناس قسمين: أهل المدينة والأعراب. والأعراب: هم أهل العمود , وأهل المدينة: هم أهل المدر، فجميع من كان ساكنًا في مدر، كان من أهل المدينة , ولم يكن للمدينة سور ينهز به داخلها من خارجها , بل كانت محال، محال، وتسمى المحلة دارًا، والمحلة: القرية الصغيرة فيها المساكن , وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة، فبنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخيلهم، وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك , وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك , وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون الأنصار كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار دار بني النجار , ثم دار بني الحارث , ثم دار بني ساعدة , وفي كل دور الأنصار خير) , وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في بني مالك بن النجار , وهناك بنى مسجده , وكان حائطًا لبعض بني النجار فيه نخل وخرب وقبور , فأمر بالنخل فقطعت , وبالقبور فنبشت , وبالخرب فسويت , وبنى مسجده هناك , وكانت سائر دور الأنصار حول ذلك , قال ابن حزم: ولم يكن هناك مصر. قال: وهذا أمر لا يجهله أحد , بل هو نقل الكوافي عن الكوافي , وذلك كله مدينة واحدة , كما جعل الله الناس نوعين: أهل المدينة , ومن حولهم من الأعراب، فمن ليس من الأعراب , فهو من أهل المدينة، لم يجعل للمدينة داخلاً وخارجًا وسورًا وربضًا كما يقال مثل ذلك في المدائن المسورة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة بريدًا في بريد , والمدينة بين لابتين، واللابة: الأرض التي ترابها حجارة سود , وقال: (ما بين لابتيها حرم) , فما بين لابتيها كله من المدينة , وهو حرم , فهذا بريد لا يكون الضارب فيه مسافرًا. وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافرًا فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري خارجة عن مكة , ليست كالعوالي من المدينة , وهذا أيضًا مما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة , فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة؛ لم يكن مسافرًا , والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرًا , فعلم أنه لا بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان , فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا سكان فيها يحمل فيها الزاد والمزاد؛ فهو مسافر , وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان الذي يقصده. وكان عثمان جعل حكم المكان يقصده حكم طريقه , فلا بد أن يعدم فيه الزاد والمزاد , وخالفه أكثر علماء الصحابة , وقولهم أرجح , فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بمكة عام فتح مكة , وفيها الزاد والمزاد , وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافرًا من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها , ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أنه كان خائفًا؛ لأنه لما فتح مكة والكفار كثيرون , وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له , وعثمان يُجَوِّزُ القصر لمن كان بحضرة عدو , وهذا كما يحكى عن عثمان أنه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالمتعة؛ لأنهم كانوا خائفين , وخالفه علي , وعمران بن حصين , وابن عمر , وابن عباس , وغيرهم من الصحابة , وقولهم هو الراجح , فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان آمنًا لا يخاف إلا الله , وقد أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة , والقصر. وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر , ولكن إذا اجتمع الخوف والسفر؛ أبيح قصر العدد , وقصر الركعات , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هو وعمر بعده لما صليا بمكة: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم , فإنا قوم سفر) , بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفرًا؛ فلهذا الحكم تعلق بالسفر , ولم يعلقه بالخوف. فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال , وكلام الصحابة , أو أكثرهم من هذا الباب يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة , أو زمان محدود يشترط فيه جميع الناس , بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل , فمن رأوه مسافرًا أثبتوا له حكم السفر , وإلا فلا. ولهذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان , فروى وكيع , عن الثوري , عن منصور بن المعتمر , عن مجاهد , عن ابن عباس قال: (إذا سافرت يومًا إلى العشاء , فإن زدت؛ فقصر) , ورواه الحجاج بن منهال، ثنا أبو عوانة , عن منصور بن المعتمر , عن مجاهد , عن ابن عباس قال: (لا يقصر المسافر في مسيرة يوم إلى العتمة إلا في أكثر من ذلك) , وروى وكيع , عن شعبة , عن شبيل , عن أبي جمرة الضبعي قال: قلت لابن عباس: أقصر إلى الأيلة؟ قال: تذهب وتجيء في يوم؟ قلت: نعم. قال: لا إلا يوم متاح، فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع إلى أهله في يوم , هذه مسيرة بريد , وأذن في يوم , وفي الأول نهاه أن يقصر إلا في أكثر من يوم , وقد روي نحو الأول عن عكرمة مولاه قال: (إذا خرجت من عند أهلك؛ فاقصر , فإذا أتيت أهلك؛ فأتمم) , وعن الأوزاعي: (لا قصر إلا في يوم تام) , وروى وكيع , عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي , عن عطاء بن أبي رباح قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال: (لا , ولكن إلى الطائف وعسفان , فذلك ثمانية وأربعون ميلاً) ، وروى ابن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن عطاء قلت لابن عباس: أقصر إلى منى أوعرفة؟ قال: لا , ولكن إلى الطائف , أو جدة , أو عسفان , فإذا وردت على ماشية لك , أو أهل؛ فأتم الصلاة. وهذا الأثر قد اعتمده أحمد والشافعي. قال ابن حزم: من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين اثنان وثلاثون ميلاً.. قال: وأخبرنا الثقاة أن من جدة إلى مكة أربعين ميلاً. (قلت) : نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة , ويرجع من يومه إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه , ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفى عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم , وأبي بكر , وعمر في الحج إذا خرجوا إلى عرفة , ومزدلفة. وابن عباس من أعلم الناس بالسنة , فلا يخفى عليه مثل ذلك , وأصحابه المكيون كانوا يقصرون في الحج إلى عرفة , ومزدلفة , كطاوس , وغيره , وابن عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج , وكان أصحاب ابن عباس كطاوس يقول أحدهم: أترى الناس - يعني أهل مكة - صلوا في الموسم خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه حجة قاطعة , فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقًا كثيرًا , وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه , وإنما صلى بمنى أيام منى قصرًا , والناس كلهم يصلون خلفه، أهل مكة , وسائر المسلمين , لم يأمر أحدًا منهم أن يتم صلاته , ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح , ولا ضعيف , ثم أبو بكر , وعمر بعده كانا يصليان في الموسم بأهل مكة , وغيرهم كذلك , ولا يأمران أحدًا بإتمام، مع أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه لما صلى بمكة قال: (يا أهل مكة , أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) , وهذا أيضًا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة عام الفتح لا في حجة الوداع , فإنه في حجة الوداع لم يكن يصلي بمكة , بل كان يصلي بمنزله , وقد رواه أبو داود وغيره , وفي إسناده مقال. والمقصود أن من تدبر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة , ومزدلفة , ومنى بأهل مكة , وغيرهم , وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام؛ علم قطعًا أنهم كانوا يقصرون خلفه , وهذا من العلم العام الذي لا يخفى على ابن عباس , ولا غيره , ولهذا لم يعلم أحد من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين , فدل هذا على أن ابن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى , أو عرفة سفرًا لا ينزل فيه بمنى وعرفة , بل يرجع من يومه , فهذا لا يقصر عنده؛ لأنه قد بين أن من ذهب , ورجع من يومه لا يقصر , وإنما يقصر من سافر يومًا , ولم يقل: مسيرة يوم. بل اعتبر أن يكون السفر يومًا , وقد استفاض عنه جواز القصر إلى عسفان , وقد ذكر ابن حزم أنها اثنان وثلاثون ميلاً , وغيره يقول: أربعة برد ثمانية وأربعون ميلاً , والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلاً عمدتهم قول ابن عباس , وابن عمر. وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك , فلو لم يكن إلا قولهما لم يجز أن يأخذ ببعض أقوالهما دون بعض , بل إما أن يجمع بينهما , وإما أن يطلب دليلاً آخر , فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر , ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخًا من أصحاب مالك , والشافعي , وأحمد إنما لهم طريقان بعضهم يقول: لم أجد أحدًا قال بأقل من القصر فيما دون هذا , فيكون هذا إجماعًا. وهذه طريقة الشافعي , وهذا أيضًا منقول عن الليث بن سعد , فهذان الإمامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال بأقل من ذلك , وغيرهما قد علم من قال بأقل من ذلك. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))