للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: الجاحظ


إعجاز القرآن

قطعة للجاحظ
سلك أئمة البلاغة في الكلام عن إعجاز القرآن الكريم سبلاً عديدة وذهبوا
مذاهب مختلفة في تبيين وجوه الإعجاز وبيان أساليب التحدي، وكان الباقلاني
أكثرهم إيفاءً للكلام في كتابه (إعجاز القرآن) الذي جعله خاصًّا بهذا الموضوع،
بيد أن الجاحظ، وهو إمام الكتاب ورئيس المنشئين، سلك سبيلاً أخرى في كلامه
عن إعجاز القرآن، فإنه لم يتعرض إلى دقائق الفصاحة وفلسفة البلاغة وبيان
مناحي الكلام ومسالك النظم والنثر، بل تكلم عن الإعجاز باعتبار كونه ثابتًا واقعًا،
وإليك كلامه:
بعث الله محمدًا عليه الصلاة والسلام في زمن أكثر ما كانت العرب فيه شاعرًا
وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد
الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي
يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، نصب لهم الحرب ونصبوا
له، وقتل من عليتهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن،
ويدعوهم صباحَ مساءَ إلى معارضته - إن كان كاذبًا - بسورة واحدة أو بآيات
يسيرة، فكلما أراد تحديًا لهم بها وتقريعًا لهم بعجزهم عنها، قالوا له: أنت تعرف
من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا.
قال: فهاتوا ولو مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، ولو
طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه
ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة
كلامهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض الشعراء
من أصحابه والخطباء من أمته، لأن سورة واحدة وآية يسيرة كانت أنقض لقوله،
وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج عن الأوطان
وإنفاق الأموال.
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في
الرأي والنبل بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر، والخطب الطوال
البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم،
بعد أن ظهر به عجز أدناهم، فمحال - أرشدك الله - أن يجتمع هؤلاء كلهم في
الأمر الظاهر، والخطاب المكشوف البين، مع التقريع بالتقصير والتوقيف - على
العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد أعمالهم، وقد احتاجوا إليه
والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، كما
أنه محال أن يطيقوه ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك
محال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل وهم يبذلون أكثر منه.