للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعليم المفيد
كتبنا في الجزء الماضي من المنار نبذة عنوانها (التعليم النافع) ذيلناها بنبذة
أخرى في بيان العمل العظيم الذي قام به أحد العبيد السود في أميركا نقلاً عما عربه
المقتطف الأغر عن جرائد تلك البلاد , وقد جاء في جزء آخر من المقتطف مقالة
أخرى عنوانها (التعليم المفيد) ذكر فيها ملخصًا من مقالة لذلك العبد الكريم الفعال
ومما جاء فيها قوله:
(إن من المسائل الكبيرة عندنا تعليم ثمانية ملايين من السود سكان الولايات
الجنوبية من أميركا وتهذيبهم وجعلهم مثل غيرهم من السكان , وقد اتسع نطاق هذه
المسألة الآن؛ لأنه صار علينا أن نعلم ثمانمائة ألف نفس من السود سكان كوبا
وبورتوريكو فضلاً عما يجب من تعليم البيض سكان تينك الجزيرتين؛ لأن كثيرين
منهم في حالة يرثى لها مثل السود الساكنين معهم. فإذا أبنت للقراء ما نجح من
السعي في تعليم السود في هذه البلاد مدة الثلاثين سنة الأخيرة مع ما لقيناه في ذلك
من المصاعب الجمة؛ أكون كأني أنبأتهم بما سينتج من السعي في نشر التعليم
والتهذيب في كوبا وبورتوريكو , وإيضاحًا لذلك أقص عليهم القصة التالية: (كان
في البلاد المعروفة ببلاد السود أي التي يزيد فيها السود على البيض رجل له أملاك
وسيعة وعنده مائتا عبد يحرثون أرضه ويزرعونها , فيكتسب بتعبهم مكاسب وافرة
فلما انتهت الحرب الأهلية بتحرير العبيد اضطر أن يحررهم كلهم , لكن الفريق
الأكبر منهم بقي في خدمته , أو صاروا يستأجرون الأرض منه ويزرعونها
وحدث بعد ذلك أنه كان مارًّا في أرضه ذات يوم فرأى ولدًا صغيرًا من أولاد هؤلاء
السود في حالة يرثى لها من الجوع والعري فرمى إليه قطعة من النقود , ورآه بعد
ذلك مرارًا فكان يرق له ويرمي إليه قرشًا، أو نصف قرش , واتفق أن هذا الولد
واسمه وليم سمع أن في تسكجى مدرسة يتعلم فيها أولاد السود مبادئ العلوم والفنون
بتعبهم أي أنهم يعملون ويتعلمون , فتوسل إلى رفاقه أن يساعدوه على الذهاب إليها
فجمعوا له قليلاً من الثياب والنقود بعد العناء الشديد , لكن النقود لم تكن كافية لدفع
أجرة السفر إلى المدرسة , فعزم أن يمضي لها ماشيًا، وهي على مائة وخمسين
ميلاً من المكان الذي كان فيه , فحمل ثيابه , وسار إليها وبلغت نفقاته في الطريق
أربعة غروش لا غير لأنه كان يقص قصته على الذين يمر بهم فيطعمونه مجانًا.
وبلغ تسكجي مقرَّح القدمين وأتى إليَّ؛ فأرسلته إلى حيث اغتسل ونظف
بدنه , ووضعته مع الذين يحرثون الأرض ويزرعونها لأنه كان قد صار لمدرستنا
ألف وأربعمائة فدان أصلحنا نصفها , وكان التلامذة يزرعونه وحدهم ويشتغلونه ,
ويستخدمون في زرعه وخدمته أحدث الطرق العملية المعروفة. فصار يعمل في
النهار معهم ويتعلم ساعتين في الليل , وكان في أول الأمر يتعب من الدرس وينام
وهو أمام المدرس , ولكنه تنبه رويدًا رويدًا , وصار يفهم ما يسمع ويزيد رغبة ,
وأخذ يسأل معلميه مسائل تدل على تعطشه إلى المعرفة مثل سؤال عن سبب
اعتمادنا على البقر المعروفة ببقر جرزى وبقر هلستين بدل البقر العادية , وعن
سبب كثرة لبنها وسمنها.
ولم تمض السنة الأولى عليه حتى تعلم مبادئ القراءة , وجمع بعض النقود
من أجرته فدخل الفرق القانونية في السنة الثانية , وبقي يعمل جانبًا من الوقت في
الحقل , فلما انتهت السنة وجد نفسه في حاجة إلى النقود , فكتب إلى الرجل الذي
ولد بين عبيده يخبره عن دخوله في مدرسة تسكجي , وطلب منه أن يقرضه خمسة
عشر ريالاً , ووعده بإيفائها حالما يتم دروسه. فطرح الرجل الكتاب ولم يلتفت
إليه , فكتب إليه ثانية فلم يجبه , فكتب إليه ثالثة , وحينئذ شعر الرجل بدافع في
نفسه يدفعه إلى مساعدته , فكتب إلي يخبرنى بذلك , وبعث إليه بالخمسة عشر
الريال التى طلبها.
(وبعد ثلاث سنوات وقف هذا الولد , وكان قد صار شابًّا أمام سيده الذى
بعث إليه بالخمسة عشر ريالاً وقال له: أنا الولد وليم الذى كنت ترمي إليه بقطع
النقود , ثم تكرمت عليه بخمسة عشر ريالاً , وقد أتيت لأشكر فضلك , وأوفيك
دَينك , ثم دفع إليه المال مع رِباه؛ لأنه كان قد أتم دروسه , وعمل سنة فى إحدى
المدارس وأخذ أجرتها. فنظر إليه الرجل نظر الدهشة والاعتبار , ثم التفت إلي
السود الذين يعملون في أرضه وهم مئات لأنه كان على ثروة طائلة وأملاك
وسيعة , فرأى أنه غير قائم بما يجب عليه لهم فقال لوليم: تعال، وافتح مدرسةً
عندي لإخوانك , وكان ذلك منذ ست سنوات , وقد اتسعت هذه المدرسة الآن
وصار فيها مائتا تلميذ وخمسة معلمين من الذين تخرجوا في مدرسة تسكجي
وثلاثة مباني , ولها أربعون فدانًا يمارس فيها التلامذة الزراعة على أنواعها ,
ويتعلمون أيضًا النجارة بفروعها , وفيها قسم لتعليم البنات مبادئ العلوم والخياطة
وتدبير المنزل , وهي آخذة في إنشاء معمل للحدادة وعمل المركبات , والرجل
المشار إليه هو الذي بنى المدرسة ووقف عليها الأربعين فدانًا , وهو يدفع رواتب
معلميها أيضًا.
ولا يقتصر هؤلاء المعلمون على التعليم في المدرسة , بل تراهم يجمعون
الفلاحين من البلاد المجاورة , ويتذاكرون معهم في المواضيع الزراعية , ويعلمونهم
الأساليب الجديدة لحرث الأرض وزرعها وخدمتها وطرق الاقتصاد المختلفة ,
ويحضر معهم الرجل الكريم المشار إليه آنفًا , وهو مسرور بما يراه فيهم من دلائل
الاجتهاد والارتقاء.
(ولما غادر وليم قومه , وأتى إلينا كانوا على غاية الفقر والذل لا يملكون
شيئًا ولا ينظرون إلى البيض إلا نظر الخصم إلى خصومه , وهم مثقلون بالديون ,
فأوفوا ديونهم الآن , ولم يعودوا يرهنون غلة الأرض التي يزرعونها كما كانوا
يفعلون قبلاً , وابتنوا بيوتًا رحبة يسكنون فيها , وصلحت أحوالهم بعد فسادها ,
وبمثل هذه المدرسة تحل مسألة السود في هذه البلاد وفي بلاد كوبا وبورتوريكو) .
ثم ذكر ما كان من غلو البيض في احتقار السود , وبين أن هذا الاحتقار قد
زال لما أثرى كثيرون من السود , وامتلكوا الأراضي الواسعة , وبنوا المعامل
الكبيرة حتى ذكر أنهم صاروا يشاركون البيض في انتخاب رؤسائهم , وقال في هذا
المقام: (وما من شيء أزال كراهة البيض لهم واشمئزازهم منهم مثل إصلاح
معيشتهم , مثال ذلك أن فتاة من الفتيات اللواتي تعلمن في مدرسة تسكجي مضت
إلى جنوب البلاد , وعزمت أن تفتح فيها مدرسة لتعليم أولاد السود فنظر إليها
البيض هناك شزرًا , ولم يرض نساؤهم أن يلتفتن إليها فصبرت على الضيم حاسبة
أنهن يفعلن ذلك لما رسخ في نفوسهن من احتقار السود , وأنشأت المدرسة واهتمت
بها , ثم تزوجت بشاب من السود وبنيا بيتًا صغيرًا على أسلوب حسن جدًّا , وأنشآ
أمامه حديقة غناء زرعت فيها أبدع أنواع الأزهار والرياحين , ومرت بها امرأة من
عظماء البيض ذات يوم , ورأتها في الحديقة تسقي رياحينها , فنظرت إليها متعجبة
ثم دخلت الحديقة , وطارحتها السلام , فأخذت السوداء تتكلم معها عما في حديقتها
من أنواع النبات كلام امرأة متعلمة متهذبة , فعجبت البيضاء منها ودخلت بيتها ,
ولما رأت غرفه وأثاثه ورياشه وما فيه من الكتب والجرائد وحسن الترتيب والتنظيم؛
ارتفع مقام السود في عينيها , وأخبرت صديقاتها بما رأت , فصار لتلك المرأة
السوداء المقام الأول في ذلك البلد.
ولو بقي الكُتاب والخطباء أعوامًا يحثون البيض على اعتبار السود
إخوانًا لهم ما أفلحوا في ذلك قدر ما أفلحت فيه هذه المرأة السوداء بتنظيم بيتها وزرع
حديقتها وإقناعها نساء البيض بهذا الدليل الحسي أنها ليست دونهن عقلاً
وذوقًا.
(ومنذ بضعة أشهر أقيم معرض زراعي في بلد اسمه كلهون في ولاية ألاباما ,
وفي هذا البلد مدرسة كبيرة عرض تلامذتها , والذين تعلموا فيها معروضاتهم
الزراعية من القطن والأثمار فلما رآها البيض بالغة حد النمو؛ أعجبوا بها والتفتوا
منها إلى أصحابها , فارتفعت منزلة السود في عيونهم , ورأوا فضل التعليم
والتهذيب , فللمدارس التي تعلم أولاد السود وتهذبهم الفضل الأول في ترقية
شأنهم , وربط البيض بهم برباط الألفة والصداقة) اهـ.
ثم ذكر المعرب جملة مختصرة من كلام بوكر واشنطون هذا في وصف
مدرسته , وأردفه بجملة أخرى في المقابلة بين تلك المدرسة وما تفرع منها , وبين
مدارس هذا القطر وسائر البلاد الشرقية التي لا تعتني بقرن العلم بالعمل , فهكذا قد
سبقنا حتى العبيد السود في تلك البلاد , وما كنا لنفيق من هذا الرقاد، ونهتدي سبيل
الرشاد.