ولفظ الحديث عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟) قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين من الجمع والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) [١] وليس في هذا حيلة؛ وإنما هو نهي عن شراء التمر بالتمر متفاضلاً، وأمر ببيع كل نوع منه، وابتياعه بالدراهم وهذا الأمر عام مطلق في جميع البيوع، وهو أن يكون لكل شيء من الأشياء المختلفة ثمن تقدر به، وتقصد به الثمنية المعينة ليكون ميزانًا لتقدير سائر الأشياء به، ومعرفة نسب بعضها إلى بعض، فشراء التمر الرديء الكيل بخمسة دراهم، والجيد من نوع كذا بعشرة دراهم، يجعل لكل من النوعين ثمنًا معينًا تعرف به نسبة أحدهما إلى الآخر، فليس في هذه الصفة مخالفة للشارع في صفة العقد ولا حكمته في تحريم الربا، ولا في أكل أموال الناس بالباطل، وقد يكون له صورة تشبه الحيلة، وهو أن يكون أحد رجلين عنده تمر جيد، وآخر عنده رديء وكل منهما محتاج إلى ما عند الآخر لولا منع المبادلة لتبادلا بهما؛ فيشتري كل منهما ما عند الآخر بالثمن. هذا وإن العلامة المحقق ابن القيم قد أحصى كل ما استدل به القائلون بجواز الحيل من الآيات والأحاديث والقياس ومسألة العقود والشروط فيها، ومسألة المخارج من الحرج وما زيد عليها، ورد عليهم ردًّا قويًّا سديدًا شديدًا مفصلاً تفصيلاً، وأورد من فروع مفاسدها ما هو كفر ورِدَّة عن الإسلام [٢] ، وما هو من كبائر الفسوق والعصيان، فأغناني ذلك عن الإطالة في هذه المسالة بعد أن كنت عازمًا عليه. وحسبي أنني بينت تحقيق الأصل الذي يرجع إليه كل شيء في هذا الباب وهو وجوب المحافظة على حكمة الشارع في تحريم الربا كغيره، وعلى نصوص الشارع فيه مع التفرقة بين القطعي منها وغير القطعي، كما بينت أن قواعد الفقهاء وتعريفاتهم وضوابطهم ومدارك الأحكام في مذاهبهم ليست تشريعًا دينيًّا يجب على الأمة أخذه بالتسليم والعمل به؛ وإنما هو مسائل اجتهادية وضوابط فنية يصدق عليها كلها كلمة الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأزيد هذه المسألة بيانًا أيضًا في فصل آخر. * * * حكمة النهي عن ربا الفضل بقي عليَّ هنا بيان مسألة مهمة، وهي أن قاعدة اليسر ورفع الحرج من أحكام الإسلام مسألة قطعية ثابتة بنص القرآن وصريح السنة وإجماع الأمة، وأن مسألة ربا الفضل في بعض فروعها من العسر والحرج والخروج عن المعقول في حكمة التشريع ما يشق معه المحافظة على نصوصها وحكمتها معًا؛ لأن حكمتها غير ظاهرة. ولذلك قال بعض كبار العلماء: إنها تعبدية، والتعبد في هذه المعاملات المالية غير معقول أيضًا؛ إذ لا يظهر فيه معنى من معاني التعبد التي تزيد المؤمن إيمانًا بالله تعالى ومعرفة بجلاله وكماله ورحمته وعدله وحكمته؛ ولذلك يرى كثير من المؤمنين المتقين أنفسهم مضطرين إلى التماس المخرج من بعض أحكامه بالحيلة، ويفرقون بين المخارج الباطلة التي يحتال بها مرضى القلوب وضعفاء الإيمان على ربا النسيئة القطعي الدال على القسوة واستباحة أكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك من المعاصي والمخارج الصحيحة المشار إليها بقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: ٢) وإنني أعتمد في هذه المسألة على ما حققه العلامة ابن القيم في حكمة تحريم ربا الفضل؛ إذ لم أر أحدًا وفق لما وفق له من ذلك، وقد كنت نقلت في الصفحة ٧٣ و٧٤ ما قاله هذا المحقق من الفرق بين ربا النسيئة، وربا الفضل في كتابه (أعلام الموقعين) وحكمة تحريم كل منهما بالإجمال، فأما حكمة تحريم ربا النسيئة وهو ما فيه من الضرر العظيم فلا شبهة فيه، وأما حكمة تحريم ربا الفضل فقد نقلت عنه أنه قال: إنها كونه ذريعة لربا النسيئة. ولم أذكر بيانه التفصيلي له، وهذا موضعه فأنقله عنه بنصه وأعيد خمسة أسطر مما نقلته هنالك في آخر ص٧٤ وهو: (قال) الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي الذهب والفضة والبُر والشعير والتمر والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من يروى هذا عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس. (وطائفة) حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة. (وطائفة) خصته بالطعام [٣] وإن لم يكن مكيلاً ولا موزونًا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد - (وطائفة) خصته بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزونًا، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول للشافعي. وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه [٤] ، وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه. وأما الدراهم والدنانير (فقالت طائفة) العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة (وطائفة) قالت: العلة فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى (وهذا هو الصحيح بل الصواب) فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا؛ فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل [٥] على بطلانها، وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية؛ فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذا كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به بالمبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض؛ فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء، ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحًا ويأخذ مكسرة، أو خفافًا ويأخذ ثقالا أكثر منها لصارت متجرًا، أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. (فصل) وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها فمن رعاية مصالح العباد أن مُنِعُوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعُوا من بيع بعضها ببعض حالاً متفاضلاً، وإن اختلفت صفاتها، وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها. وسر ذلك والله أعلم أنه لو جوَّز بيع بعضها ببعض نسأ لم يفعل ذلك أحد إلا ربح، وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ولا سيما أهل العمود والبوادي؛ وإنما يتناقلون الطعام بالطعام، فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النسأ فيهم كما منعهم من ربا النسأ في الأثمان؛ إذ لو جوَّز لهم النسأ فيها لدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) [٦] فيصير الصاع الواحد لو أخذ قفزانًا كثيرة ففطموا عن النسأ، ثم فطموا عن بيعها متفاضلاً يدًا بيد؛ إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نسأ وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف الجنسين المتباينين؛ فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة، ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه، وفي تجويز النسأ بينها ذريعة إلى (إما أن تقضي وإما أن تربي) فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدًا بيد كيف شاؤوا؛ فحصلت لهم مصلحة المبادلة واندفعت عنهم مفسدة (إما أن تقضي وإما أن تربي) وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نسأ؛ فإن الحاجة داعية إلى ذلك فلو مُنِعُوا منه لأضر بهم، ولامتنع السلم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم والشريعة لا تأتي بهذا، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نسأ، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة، ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبًا إلى مفسدة راجحة. (يوضح ذلك) أن من عنده صنف من هذه الأصناف، وهو محتاج إلى الصنف الآخر؛ فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبًا) أو تبيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوي، وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالاً بخلاف ما إذا أمكن من النسأ؛ فإنه حينئذ يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل؛ لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره؛ فينشأ من النسأ تضرر بكل واحد منهما، والنسأ ههنا في صنفين، وفي النوع الأول في صنف واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد، وإذا تأملت ما حرم فيه النسأ رأيته إما صنفًا واحدًا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير والبُر والشعير والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النسأ كالبُر والثياب والحديد والزيت. (يوضح ذلك) أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته، فمُنِعُوا من ذلك حتى مُنِعُوا من التفرق قبل القبض؛ إتمامًا لهذه الحكمة ورعاية لهذه المصلحة؛ فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر، وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد، وقد تواطؤوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل، ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن، فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالاً، وأخروا الطلب لأجل الربح؛ فيقعوا في نفس المحذور. (وسر المسألة) أنهم مُنِعُوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يُفْسِد عليهم مقصود الأثمان، ومُنِعُوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع أن لا يفاضل بينهما، ولهذا قال: (تبرها وعينها سواء) فظهرت حكمة تحريم ربا النسأ في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأن تحريم هذا تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة. وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا؛ فإن ما حُرِّم سدًّا للذريعة أخف مما حُرِّم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية؛ فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها؛ فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة؛ فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببُر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه؛ إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوَّز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية. ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: (الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير) وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) والرقة هي الورق، وهي الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة؛ فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيًا عن الربا في النقدين، وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما، بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها. (يوضحه) أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها؛ فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها؛ لكن لو سدَّ على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر. (يوضحه) أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها، ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها، ومعلوم قطعًا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارًا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله، وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. (يوضحه) أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف. (يوضحه) أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حُرِّم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة. فهذا محض القياس، ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصناعة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها، وإذا كان أرباب الحيل يجوِّزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسًا، ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلاً ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للمعقول والفطر والمصلحة، والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت، وحرموا بيع الكسب بالسمسم وبيع النشا بالحنطة، وبيع الخل بالزبيب ونحو ذلك، وحرموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاؤوا إلى ربا النسيئة وفتحوا للتحليل عليه كل باب، فتارة بالعينة، وتارة بالمحلل، وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه، ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكاتبون والمتعاقدان ومن حضر أنه عقد ربا مقصود، وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدًا ليس إلا، ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا فعلوا هنا كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم، وقالوا: قد يُجْعَل وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر؛ فيقع التفاضل. فيا لله العجب! كيف حُرِّمَت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وأُبيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا؟ وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها، ومقابلة الصناعة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل مفسدة، وأصل كل بلية؟ وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء، وبالله التوفيق. (فإن قيل) الصفات لا تُقَابَل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولمَّا أبطل الشارع ذلك عُلِم أنه مُنِعَ من مقابلة الصفات بالزيادة. (قيل) الفرق بين الصنعة التي هي أثر الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها، ولا هي من صنعه، فالشارع من حكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة؛ إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل؛ فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر، والعلة أن لا يبيع جنسًا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جوَّز لهم مقابلة الصفات بالزيادة، لم يحرم عليهم ربا الفضل، وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه. (يوضحه) أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها؛ إذ لا فرق بينهما في ذلك. (يوضحه) أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بِعْ هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك [٧] . ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها. ولا يقول له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل قط: لا تبعه إلا بغير جنسه. ولم يُحَرِّم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه. (فإن قيل) فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ، فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلاً، وتكون الزيادة في مقابلة صناعة الضرب، قيل: هذا سؤال قوي وارد. (وجوابه) أن السَّكَّة لا تتقوم فيه الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها؛ فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة، وإن كان الضارب يضربها بأجرة؛ فإن القصد بها أن تكون معيارًا للناس لا يتجرون فيها كما تقدم، والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في العرف، ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة، وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها، واتخذها الناس سلعة، واحتاجت إلى التقويم بغيرها، ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، وأخذ الرجل الدراهم ورد نظيرها وليس المصوغ كذلك، ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافًا ويرد خمسين ثقالاً بوزنها، ولا يأبى ذلك الآخذ ولا القابض، ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئًا، وهذا بخلاف المصوغ، والنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا درهمًا واحدًا، وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان؛ وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. (فإن قيل) فيلزمكم على هذا أن تجوِّزوا بيع فروع الأجناس بأصولها متفاضلاً، فجوَّزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلاً، والزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضًا. (وجوابه) أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع، أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها؛ والثلاثة منتفية في فروع الأجناس مع أصولها، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها ولا يساويها في إلحاقها بها، وأما الأصناف الأربعة ففرعها إن خرج عن كونه قوتًا لم يكن من الربويات، وإن كانت قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه، وحرم بيعه بجنسه الذي هو مثله متفاضلاً كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز، ولم يحرم بيعه بجنس آخر، وإن كان جنسهما واحدًا فلا يحرم السمسم بالشيرج، ولا الهريسة بالخبز؛ فإن هذه الصناعة لها قيمة لا تضيع على صاحبها، ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، ولا حرام إلا ما حرمه الله، كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله، وتحريم الحلال كتحليل الحرام. اهـ المراد منه. (للموضوع بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))