البعثة النبوية وجملة سيرته - صلى الله عليه وسلم - قبلها كان -صلى الله عليه وسلم- وسطًا في قومه وأمته، ولكنه أرقاهم بل أرقى البشر في زكاء نفسه وسلامة فطرته، نشأ يتيمًا شريفًا، وشب فقيرًا عفيفًا، ثم كان زوجًا محبًّا لزوجه مخلصًا لها، ولم يتول هو ولا والده شيئًا من أعمال قريش في دينها ولا دنياها، ولا كان يعبد عبادتهم، ولا يحضر سامرهم ولا ندوتهم، ولم ينظم الشعر كما كانوا ينظمون، ولا عُني بالخطابة كما كانوا يعتنون، ولم يؤثر عنه قول ولا عمل يدل على حب الرياسة، أو البحث في شئون السياسة، ولم يشاركهم في شيء من خرافات الجاهلية وضلالات الشرك، ولا من المفاخرات الكلامية وشئون الغزو والحرب، بل كان يحب العزلة، ويألف الوحدة، وروي أنه في حداثته حضر سمرهم مرتين، ألقى الله فيهما عليه النوم. وحب العزلة والانكماش معروف عن كثير من الناس، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يمتاز في نشأته الأولى، على الأتراب، بالتزام الصدق والأمانة وعلو الآداب، فبذلك كان له فيهم المقام المكين، حتى لقبوه بالأمين. على هذا الحال كان -صلى الله عليه وسلم- حين بلغ أشُدّه واستوى، وكملت من جسده السليم ونفسه الزكية جميع القوى- لا طمع في مال ولا سُمعة، ولا تطلَّع إلى جاه ولا شهرة. وكان أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح [١] واضحة، ثم حبب إليه الخلاء [٢] وكان يخلو بغار حراء [٣] فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد [٤] ثم يرجع إلى خديجة فيتزود [٥] حتى جاءه الحق وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان؛ بأن تمثل له الروح الأمين جبريل، ولقنه عن ربه أفضل التنزيل. قال له: اقرأ. فقال: (ما أنا بقارئ) كرر ذلك ثلاث مرات، وهذا من أمر التكوين لا من تكليف ما لا يُطاق، وكان الملَك بعد كل جواب يغُطّه أي: يضمه إلى صدره ويعصره، حتى يبلغ منه الجهد مبلغه، وحكمة ذلك أن تغلب فيه الروحانية على البشرية، ويستعد لتلقي الآيات الإلهية، فيكون واسطة بين الخلق والخالق، ومنتهى الحاضر ومبدأ الغائب ولما أرسله في الثالثة قال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ١-٥) أي: كن قارئًا بعد أن كنت أُمّيًّا، باسم ربك الذي خلق الإنسان الناطقَ من علق ولم يك شيئًا، لا باسمي ولا باسمك، ولا بحولي وقوتي ولا بحولك وقوتك، فهو القادر على جعلك قارئًا لآيات ربك، التي اقتضى جوده وكرمه أن يرسمها بالوحي في لوح قلبك، وعلى تعليمك من الكتاب والحكمة ما لم تكن تعلم، كما علّم الإنسان بالقلم وغير القلم ما لم يكن يعلم، فرجع -صلى الله عليه وسلم- بهذه الآيات إلى خديجة يرجف فؤاده، وقد ارتعد بدنه ولكن حُفظ رشاده، فقال: (زمّلوني زمّلوني) فزمّلوه؛ أي: لففوه بالثياب ودثّروة، حتى إذا ذهب عنه الروع أخبر خديجة الخبر، وقال: (لقد خشيت على نفسي) أي: الهلاك أو الضرر، فقالت له: كلاَّ والله ما يحزنك [٦] الله أبدًا، إنك لَتصل الرحم [٧] وتحمل الكلّ [٨] وتُكسب المعدوم [٩] ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق [١٠] . ثم فتر الوحي ثلاث سنين، قوي فيها الاستعداد واشتد الشوق والحنين. قال: (بينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء) وذكر أنه رُعب منه أيضًا. ولكن كان ذلك دون الرعبة الأولى، فرجع إلى أهله فتزمّل وتدثّر، فأُنزل عليه: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: ١-٥) ثم حمي الوحي وتتابع، وبلَّغ -صلى الله عليه وسلم- دعوة ربه فاشتد عليه أذى المشركين وتتايع. [١١] فما هذا النبأ العظيم الذي جاءه بعد الأربعين، وما ذلك الأمر العظيم الذي دعا إليه بعد ثلاث وأربعين، فغيّر الله به على يديه تاريخ البشر أجمعين، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. *** تبليغ الدعوة الإسلامية وخلاصتها إن ذلك اليتيم العائل في حداثته، الراعي الشريف التاجر القنوع في شبيبته، الزوج المخلص لزوجته، الوالد العطوف على بناته وصبيته [١٢] الأمي الذي لم يقرأ سِفْرًا، ولا كتب سطرًا، ولا شِعرًا، ولا ارتجل نثرًا، الناشئ في الأمة الأمية، التي فرقتها نزعات العصبية، واستحوذت عليها نزعات الوثنية، وغلبت عليها حمية الجاهلية، وأمست عاصمتها الدينية الدنيوية، ذات حكومة شبيهة بالعُرفية، ليس لها رئيس متبوع، ولا قانون مشروع؛ قام فيها يدعوها إلى توحيد يجتث جراثيم الوثنية، بتوحيد الربوبية والألوهية؛ وإلى استبدال الكتاب والعلم بتلك الأمية، واستبدال الحكمة بتلك الجاهلية، وإلى تزكية الأنفس من تلك الخرافات والتقاليد الوراثية، وإلى استعمال عقولها وحواسها في العلم والعرفان، والانتفاع بجميع ما في الأكوان؛ لأن الله تعالى سخرها للإنسان. بل قام يدعوها إلى ما هو أكبر من ذلك شأنًا، وأعم فائدًة ونفعًا، - قام يدعوها إلى كتاب مهيمن على الكتب السماوية، ودين أُنزل لإصلاح جميع البرية، وشريعة عادلة سماوية اجتهادية، تستأصل تلك الفوضى الاجتماعية، وتكفل لهم السعادة الإنسانية، بإعتاقها البشر من رِقّ السيطرة الروحية والسياسية، وجعلهم أحرارًا مستقلين في فهم العقائد الدينية، وأداء العبادات التي يتقربون بها إلى العزة الإلهية. وجعل أمرهم شورى بينهم في الأحكام السياسية والمدنية، وجعل المفاسد وحِفظ المصالح أساسًا للأمور الأدبية والشرعية، وجعل الإخلاص وحسن النية في الأمور الدينية والعادية، مما يستعد به الإنسان للحياة الأبدية، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضًا تقوم به الأفراد وتتعاون عليه الجماعات؛ لأنه سياج الفضيلة ومقوِّم الأخلاق والعادات. وجعل القتال ضرورة تقدر بقدرها، ويُجتهَد في إضعاف ضررها وشرها، فلا يقتل فيها النساء ولا الأولاد، ولا الأُجراء ولا العُباد؛ ولا يمثل فيها بالقتلى [١٣] ولا يُذَفف على الجرحى؛ [١٤] ومتى رجحت كفتنا بالإثخان [١٥] في الأعداء، نكتفي بالأسر عن سفك الدماء، {فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: ٤) ، [١٦] وتزول الضرورة التي أوقدت نارها، وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ جَنَحْنا لَهَا، [١٧] لأننا أحق بها وأهلها، إلى غير ذلك من ضروب الإصلاح، وأسباب الفوز والفلاح. ومن أهمها أحكام الرق، بما رغب وأوجب فيها من العتق. وأحكام اليتامى والنساء، في الحقوق والإرث والتصرف في الأموال، وحسْبُك من هذا الإصلاح العظيم، قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: ٢٢٨) . قام ينبههم بأنه رسول من عند الله إلى جميع الأمم، من العرب والعجم، وأنه أوحي إليه هذا القرآن لينذرهم به ومن بلغ [١٨] ويتلو عليهم قوله تعالى: {تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: ١) وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: ٢٨) ؛ ويخبرهم عن الله عز وجل بأنه سينصره عليهم، ويبشر المؤمنين منهم بأنهم هم الذين يحملون دعوته إلى غيرهم، وأن الله سيفتح لهم مصر والشام، ويعطيهم ملك كسرى وقيصر، وأنهم سيكونون هم الأئمة الوارثين، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: ٥٥) . قام - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدعوة الكبرى، وذكر بها قومه فأعرض الأكثرون عن الذكرى، ولم يعقل أذكى قريش وأعقلهم لها سببًا إلا الجنون، أو نَبْز الداعي إليها بلقب شاعر أو كاهن مفتون؛ إذ كانوا يعلمون أنه لم يكن لديه شيء من الأسباب والوسائل، لما هو دونها بمراحل؛ لا حول ولا قوة، لا مال لا عصبية لا سليقة في الشعر تجذب القلب، لا تمرّن على الخطابة يؤثر في اللُّب، كما يعلمون أنه طُبِع على الصدق، وعاش طول عمره عيشة الجد، فكان أقرب ما توصف به تلك الدعوة إلى الظنون، أن قالوا: إنها نزعة من نزعات الجنون. ولولا ما أيده الله تعالى به من الآيات والبراهين، وأعظمها هذا القرآن الحكيم والنور المبين، ولولا تصديق الله تعالى إياه بالفعل، كما صدقه بذلك القول الفصل لقال بقولهم ذاك في كل حين من بلغته دعوى تلك الدعوة من المتقدمين والمتأخرين،] ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون [١٩] ٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [[٢٠] (القلم: ١-٧) . أي برهان على النبوة أعظم من هذا، أميٌّ قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما يكتبون وما يقرؤون، بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا يعلمون. في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هبّ لتقويم عِوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة، وأبعدها عن فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع أصول الشريعة، ويخط للسعادة طرقًا لن يهلك سالكها، ولن يخلص تاركها. (ما هذا الخطاب المُفحِم؟ ما ذلك الدليل المُلجِم؟ أأقول: ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم؟ لا، لا أقول ذلك، ولكن أقول كما أمره الله أن يصف نفسه: إن هو إلا بشر مثلكم يوحى إليه. نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأت في الإقناع برسالته بما يلهي الأبصار، أو يحيّر الحواسّ، أو يدهش المشاعر، ولكن طالب كل قوة بالعمل فيما أعدت له، واختص العقل بالخطاب وحاكم إليه الخطأ والصواب، وجعل في قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل، مبلغ الحُجة وآية الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [٢١] . كان مثله -صلى الله عليه وسلم- في إثبات ما جاء به مثل رجل في بلد كثرت فيه الأمراض، ولم يكن لدى أهله طبيب ولا علاج، فادّعى أنه طبيب يبرئ العلل، فكذبوه فأثبت دعواه بالعلم والعمل، إذ جاء بكتاب عالج به أولئك المرضى الذين أعضل داؤهم، واختلفت أمراضهم، فشُفُوا وعادت إليهم صحتهم؛ إلا مَن أعرض عن دوائه، حتى هلك بدائه، بل الأمر أعظم من ذلك. ألا إن مداواة أمراض الأمم الروحية والاجتماعية، أعز وأعسر من مداواة الأمراض الجسدية، وتتوقف على علوم كثيرة لا على علم واحد، يُدرس الآن منقولها ومعقولها في كثير من المدارس، وما أكثر من درسها في كتبها، وتلقاها عن أساتذتها، يقدر على إصلاح أمة من الأمم بالعمل بها، فما القول في أميّ نشأ بين أميّين، قام بذلك الإصلاح الذي تغير به تاريخ البشر أجمعين، في الشرائع والسياسيات وسائر أمور الدنيا والدين، وامتد مع لغته في قرن واحد من الحجاز إلى آخر حدود أوربة من الغرب، وإلى حدود بلاد الصين من جهة الشرق، حتى خضعت له الأمم، ودالت لدولته الدول، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارة والمدنية، والعلوم العقلية والكونية، على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية، التي علمها القرآن أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان، فهل يمكن أن يكون هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم، اختص به ذلك النبي الأميّ الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم؟ *** مناهضة الدعوة، وإلجاء الرسول إلى الهجرة بدأ دعوته -صلى الله عليه وسلم- بإنذار عشيرته الأقربين، ممن في مكة من قريش ومن الموالي والوافدين، فلقي أشد الجحود والإيذاء من قومه، حتى صدوه عن تبليغ دعوة ربه، عملاً بقول أبي لهب: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه. وقد أخرجوا عمه أبا طالب وآله من مكة؛ لأنه لم يخل بينهم وبينه، فجمع أبو طالب بني هاشم والمطلب، ودخل بهم ومعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشِّعب، وأجمعت قريش مقاطعتهم، وعدم مصاهرتهم، وأن لا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئًا، ولا يقبلوا منهم صلحًا، إلا أن يسلموا محمدًا للقتل، فمكثوا ثلاث سنين في الشِّعب، وهم في أشد البلاء والجهد، وكان بعض ما مسهم من الضرر، أن أكلوا ورق الشجر؛ ثم اشتد إيذاء قريش له ولمن آمن به بعد وفاة خديجة وأبي طالب، وقد توفيا في عام واحد، فعرَض نفسه على القبائل في موسم الحج، لعله يجد من يحميه للقيام بهذا الأمر، فلم يحمه من قريش أحد، ولكن آمن به في موسم الحج ستة نفر من أهل يثرب، [٢٢] ثم آمن به آخرون منهم في موسم آخر، وصاروا يدعون أهل المدينة إلى الإسلام، وأرسل إليهم -صلى الله عليه وسلم- من يعلّمهم القرآن. ففشا الإسلام فيهم، وجاءه في الموسم الثالث امرأتان وثلاثة وسبعون رجلاً منهم، فبايعوه على التوحيد الخالص لربهم وإلههم، وأن يمنعوه- أي يحموه- مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فتمهدت له بذلك أسباب الهجرة، وكان قد هاجر جمهور من آمن به إلى الحبشة، فأمر من بقي أن يهاجروا إلى المدينة مختفين، فكان القادرون يهاجرون أرسالاً متتابعين، وقد علم أكابر قريش بالأمر، وأن الرسول سيتبع أصحابه بالسر، ففزعوا إلى الحيلة والمكر، وبينما كان أبو بكر -رضي الله عنه- يهيئ راحلتين وزادًا ودليلاً للهجرة مع الرسول من مكة، كان رؤساء قريش يأتمرون [٢٣] بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في دار الندوة، فبعضهم يرى نفيه وبعضهم يرى حبسه وبعضهم يرجّح قتله، ثم أجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة شابًّا جلدًا، [٢٤] يقفون أمام داره ليلاً، حتى إذا خرج ضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد؛ ليتفرق دمه على القبائل، فيرضى بديته بنو هاشم، فلما وقف أولئك الشبان على بابه، أمر عليًّا بأن ينام في فراشه ويتدثر ببرده، وخرج -صلى الله عليه وسلم- من بينهم، ولم ينظره ولا شعر به أحد منهم، بل كانوا ينظرون من فروج الباب، فيرون النائم فيظنون أنه هو النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ وذلك قوله تعالى في كتابه المبين:] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ [[٢٥] (الأنفال: ٣٠) . ((يتبع بمقال تالٍ))