المكتبة العمومية ودار المحفوظات أما المكتبة العمومية فقد جاءني من أوصي بصحبتي ويثقل عليَّ ذكر اسمه لطوله؛ فذهبت معه إلى تلك المكتبة، وهو أخو مديرها، وله احترام في نفوس خدمتها، وكان يعرف قليلاً من اللغة الفرنسية، فسألته أن يطلب لي فهرس الكتب العربية إن كانت، فطلب ذلك فبدت حركة شديدة في الخدمة وكثر الداخل والخارج، والذاهب والآئب، ولغطت الألسن، وارتفعت الأيدي بالإشارات، وطال الزمن نحو ربع ساعة، كل ذلك وأنا لا أفهم أسباب هذا الاضطراب، وآخر الأمر جِيء إليّ بدفتر صغير جدًّا يحتوي على نحو خمسين صفحة وكانت تلك الضوضاء للبحث عنه، وكل يتهم صاحبه بأنه هو الذي يعرف مقره والآخر يدافع عن نفسه تهمة معرفته. ولم يرعني عند تصفحه إلا كثرة ما فيه من كتب الأدعية والصلوات، كأنه فهرس خزانة لشيخ من مشايخ الطريقة الخلوتية، أو مكتبة السادات البكرية؛ قدس الله أرواحهم جميعًا، وإنما رأيت فيها قطعة من شرح ابن رشد على مدونة الإمام مالك رضي الله عنه وكتابًا في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، إلا أنه لا يمكن قراءة سطر واحد من تلك السيرة؛ لأن خطوطًا قد جرت على السطور بعناية غريبة حتى عمت الحروف الأصلية وحجبت حقيقتها عن النظر مع سلامة الظاهر من التشويه؛ فعجبت لذلك وسألت عن السبب فقيل لي: إن قسيسًا من أهل القرن الثامن حمله التعصب على أن يأتي إلى المكتبة، ويطلب الكتاب بحجة أنه يريد قراءته، وكان يعرف العربية حق المعرفة فسلم إليه فصنع به ذلك حتى يصد الناس عن مطالعة ما فيه. وقد فعل مثل ذلك بمصحف من المصاحف وزوّر كتبًا كثيرة أفسدها. وقد انكشف للحكومة حاله؛ فحوكم وصدر الحكم عليه بالحبس مدة عشر سنين في رواية، ومدة خمس عشرة سنة في رواية أخرى. أما القطعة من شرح ابن رشد فكانت سليمة وخطها مغربي جيد تسهل قراءته على طالب العلم. والكتاب الفرد الكامل الذي رأيناه في المكتبة هو كتاب النخل لأبي حاتم السجستاني وهو صغير في نحو ستين ورقة بخط ضيق مضبوط صحيح. قرأت منه عدة صفحات ونقلت منه عدة فقرات في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم: ٢٤-٢٥) ... إلخ. ومما نقلته في ذلك قول أبي حاتم رحمه الله: ومما كرم الله به الإسلام وكرم به النخل أنه قدر جميع نخل الدنيا لأهل الإسلام فغلبوا عليه وعلى كل موضع فيه نخل، وليس في بلاد الشرك منه شيء، فرحم الله أبا حاتم ما كان أبعده عن صحة الحكم في طبائع العمران، وإن كان من أفضل أهل السير وأجلّ علماء اللغة والكتاب مفيد في اللغة وهو بخط مشرقي تاريخ نسخه شهر جُمَادَى الآخرة سنة ٣٩٤، وقد بلغنا أنه طبع في ألمانيا وكان الأجدر به أن يطبع في مصر، ولعلّ ذلك يكون إن شاء الله متى ساوى المصريون أهل ألمانيا في اهتمامهم باللغة العربية ونفائسها! ثم زرت دار محفوظات الدولة وهي مثل (الدفتر خانة) عندنا إلا أنها لم تبع أوراقها ولا دفاترها لا بالقنطار ولا بالرطل كما فعل بالدفتر خانة المصرية؛ بل هي محفوظة على ما كانت عليه من عدة قرون لا يفرط في ورقة واحدة منها. وقد طبعت الدولة ما في الأوراق التاريخية المحررة باللسان العربي، وغيره من الألسن الشرقية حتى يسهل على الناظر فيها معرفة ما كتب في تلك الأوراق، ويتيسر له بعد ذلك قراءتها في أصولها خصوصًا إذا كان غير متعود على قراءة الخطوط العربية المختلفة فإذا قابل بين المطبوع والمرقوم عرف صحة العبارة في النسختين. ولعل المكتبة المصرية الكبرى تصنع مثل ذلك في الخطوط المكتوبة على أوراق البَرْدِي وغيرها مما كتب بالكوفية أو النسخ القديم أو ما عفى بعضه القدم لتتم فائدة حفظ هذه الأوراق والانتفاع بها إن شاء الله. من العادة في المكاتب وديار حفظ الأوراق أن يجعل لها دفاتر يكتب فيها الزائر اسمه ولقبه وتاريخ الزيارة وهي عادة حسنة تليق بأماكن أقيمت لحفظ الآثار العلمية والمذكرات التاريخية. أما عمال المكتبة العمومية في بلرم فلم يحفلوا بهذه العادة، واكتفوا بتقديم ورقة من أوراق طلب المطالعة لوضع إمضائي عليها كما فعل ذلك خَدَمَة المكتبة العمومية في مسينا لكن عمال دار محفوظات الدولة راموا أن تجري تلك العادة مجراها فطلبوا ذلك الدفتر فلم يجدوه فجدّوا في البحث والتنقيب وأخذت الأصوات تتقاذف، والإشارات تنمو وتتزايد، على نحو ما فعل عمال المكتبة العمومية، في اكتشاف فهرس الكتب العربية، وكنت على عجل أريد زيارة محل آخر فحبست مدة حتى يسر الله ووجد الدفتر ووضعت إمضائي فيه. وأظنهم حمدوا الله لأن كنت السبب في العثور عليه بعد ضياعه. هذا وذلك يدلانك على أحد أمرين: إما قلة الزائرين لهذه الأماكن العلمية من الأجانب وطلاب النظر في الآثار العربية، وقلة الدارسين من أهل البلاد في تلك الكتب التي كتبت في لسان غير لسانهم اكتفاءً بتراجمها أو لعدم الحاجة إليها، وإما شدة الإهمال من موظفي هذه الديار. وقد يتيسر لك الجمع بين الأمرين، ولم أعهد في مكتبة أوروبية أن وقع لي مثل ما وقع في مكتبتي بلرم. حاجة السائح إلى معرفة اللغات وأيها أنفع ومن الأمور التي لا أجد بدًّا من نقدها أن موظفي هذه المكاتب لا يعرفون من اللغات إلا الإيطالية، فلا يعرفون الفرنسية مع قربها من لغتهم ومن عرف منها بعض كلمات يصعب عليه أن يؤدي بها مراده. وكان رفيقي يترجم بيني وبينهم عندما كان معي في المكتبة العمومية، لكني بعد انصرافه وقعت في وحشة يزيدها لزم الصمت وعدم الفائدة في الكلام وضيق الصدر عند إرادة الاستفهام عما يراد فهمه، ولا يوجد السبيل إليه إلا من طريق الإشارة. ولا يخفى عليك أن الإشارة إنما تصلح للإفادة والاستفادة من الأخرس إذا كنت والدة له على ما في المثل: (أم الأخرس أعرف بلغته) فلا بد من التعود على ضرب من الإشارة مخصوص حتى يتيسر الفهم والإفهام؛ ولهذا لم يمكني أن أستفيد شيئًا فيما ينبغي أن يصنع لاستنساخ شيء من الكتب العربية كتلك القطعة من شرح ابن رشد مثلاً. وبعد طول الكلام بفرنسية لا يفهمونها وإيطالية لا أفهمها انصرفت وأنا من الجهل على مثل ما دخلت به لكن قد انكشفت عني غمة هذا الجهل بملاقاة مَن أمكنه فهم ما أقول وأمكنني فهم ما يقول من أهل المدينة. يناسب في هذا المحل ذكر ما يقال من أن الذي يعرف اللغة الفرنسية يسهل عليه السفر في جميع بلاد أوربا ويتيسر له الفهم والإفهام؛ لأنها لغة عامة لا تجد نُزلاً ولا مكانًا يرغب في زيارته إلا وأنت تجد فيه من يكفيك حاجتك فيما تريد. وقد رأيت أن هذا القول اضمحلت صحته في مكاتب بلرم، ولم ألقَ ما يقوي صحته في مكتبة مسينا، والمكاتب من ديار العلم التي يكثر فيها العارفون باللغات الأجنبية، ولا ينبغي أن تخلو منه لمسيس الحاجة إليهم. وقد بت ليلة في لوندرا، ونزلت في أكبر نزل فيها يسمى (كير أفنور أوتيل) فيه ما يزيد على ستمائة بيت للنوم، ولم أجد فيه من يعرف الفرنسية إلا خادمين أحدهما بواب والآخر من خَدمة قاعة الطعام، أما خَدمة أماكن النوم وغيرهم فلا يفهمون كلمة واحدة والحاجة إليهم أشد فإن المطالب الخاصة جميعها منوطة بهم أو بهن. إذا طلبت ماءً أو لبنًا أو قهوة أو تهيئة حمام أو نقل متاع من مكان إلى مكان أو تصحيح منكسر أو كسر صحيح لم تجد من تطالبه إلا أولئك الذين لا يعرفون كلمة من الفرنسية، غير أنهم لتعودهم فيما يظهر على كثرة ورود هذا النوع من الخرس صاروا أو صرن كوالدة الأخرس يسهل عليهم أو عليهن فهم الإشارات بدون إتعاب شديد لأعضاء المشيرين (أي: الذين يتفاهمون بالإشارة لا الذين حازوا رتبة المشيرية العسكرية العثمانية) ؛ لكن لا يخفى عليك أن من المطالب ما لا تعبر عنه الإشارة، فماذا تصنع إذا كنت أعلم العلماء بالفرنسية وعرض لك مثل هذا الطلب، وليس عندك وقت يسع تعلم اللغة الإنكليزية؟ لا يسعك إلا الإقرار بأن ذلك القول الذي قالوا مبني على تجربة قاصرة لا تصلح أن تكون مقدمة من مقدمات البرهان المعدودة في فن المنطق. أزيدك شيئًا في هذا؛ وهو أنك إذا كنت لا تعرف لسان القوم الذين تنزل فيهم يجدونك طعمة أو هبة من الله سيقت إليهم؛ فهم يكلفونك من النفقات ما يشاؤون، ولا يجدون في أنفسهم دانقًا من الرأفة بك أو الرحمة لغربتك، ولا يمكنك أن تبحث مع ناهبك في موضوع نهبك؛ لأنه لا يفهم ما تقول، وأنت لا تفهم ما يقول، فينتهي أمرك بدفع ما رُقم لك رغم أنفك، وغاية ما يمكنك فعله أن تتنفس الصعداء وتهز رأسك وتلوي عنقك علامة على غضبك ولكن هذا كله لا يوفر عليك ما نقصه منك الجهل باللسان. وفي ظني أن من أراد أن يسافر إلى بلد لا يعرف لسانه فأولى له أن يتعلم من لسان ذلك البلد ما يكفيه للتعامل، ومدة سنة قبل السفر تكفي لذلك، وأجرة الأستاذ المعلم لا تصل إلى نصف ما يخسره ببركة الجهل باللسان. أستغفر الله من خطأ فيما قلت. إذا أراد السفر إلى صقلية (سيسيليا) من بلاد إيطاليا فعليه أن يجدَّ لمعرفة اللغة الإيطالية حتى يتكلم بسرعة، ويفهم بسرعةٍ يسبق بها كلامُه وفَهمُه كلامَ الإيطاليين وفَهمَهم، وإلا سأل الله العوض فيما يفقد من متاعه وما يؤخذ منه أجرة على ضياعه. عند وضع قدمه على ساحل صقلية يجتمع عليه الحمالون والمرشدون المضلون ويتجاذبون متاعه وثيابه كلٌّ يأخذ قطعة فإن كان لا يعرف اللسان، كان ما كان مما لا يسعه الإمكان، فإذا سلم له متاعه من التحطيم أو الضياع، أو أصابه من ذلك ما لم يفد فيه الدفاع، وجد أمامه جيشًا من الطالبين كل واحد يطالبه بقيمة عمله، وما هو ذلك العمل؟ هو حمل قطعة من المتاع وكلمة قيلت غير مفهومة في هدايته إلى المحل الذي وصل إليه، مع أنه وصل برجليه، ومن طريقٍ، كل الناس يمشون فيه. ولا تنس أنهم يجاذبونك أعضاءك حتى إن جميع أجزائك لفي خطر من مجاذبتهم إذا لم تكن حريصًا عليها. فإذا كنت في حاجة إلى السفر إلى هذه البلاد، والإقامة فيها مدة من الزمان لتبديل الهواء، وترويح النفس بجمال المناظر خصوصًا أيام الربيع فعليك أن تصرف سنتين في تعلم اللغة الإيطالية وما تنفقه في التعلم أقل مما تخسر مع تعذر التفاهم. وجدت أن الذي يعرف الإنكليزية أسعد حظًّا في فرنسا ممن يعرف الفرنسية في إنكلترا فإنك لا تجد نزلاً في البلاد الفرنسية إلا وفيه كثير من الخدم الذين يعرفون الإنكليزية. سألت عن السبب في ذلك قيل لي: إن أهل فرنسا قلما يسيحون في بلاد الإنكليز. أما الإنكليز والأميريكيون فيملؤون سهول فرنسا وجباله، ويُدهشون بالذهب صغارها ورجالها، فاضطر الفرنسي إلى ترويج الإنكليزية في بلاده لتعجب الزائرين، وليستكثر من الناثرين. ويل لك إذا أقمت يومًا أو يومين في نُزُل بمسينا من أكبر ما يقصده السائحون، رب النُّزل يعرف بعض كلمات قليلة من الفرنسية يمكنه بها أن يفهمك أن أجرة محل النوم وحده بلا أكل ولا شرب عشرة فرنكات في الليلة ويمكنك أن تفهمه بأنك قبلت ذلك على شرط النظافة وتوفر الراحة وإن كان لا يعمل من ذلك بما فهم منك وإنما العمل على ما فهمت أنت منه. تنام عند الساعة العاشرة فلا يمر عليك نصف ساعة إلا وقد أطار نومك صياح وجلبة ودوي حركات تذهب وتجيء خارج منامك فيضيق صدرك وتطلب الفرج، ولا تجده فتفتح الباب، وتقول كلامًا كثيرًا يفهم منه أنك في شدة الضيق مما تسمع ولا سبيل إلى النوم فيقال لك ما تفهم منه أن هؤلاء مسافرون جاؤوا إلى المحل من جديد وماذا يصنع معهم؟ فتطلب محلاًّ آخر للنوم ويأخذون فراشك من محلك الأول إلى محلك الثاني فتحمد الله على الهدوء وإقبال الراحة، ثم تلقي جسمك على الفراش ويقبل النوم على عينيك بثقله، ثُم لا يمضي نصف ساعة إلا وقد أخذت يداك تحك وجهك وعنقك، واليسرى تحك اليمنى واليمنى تحك اليسرى، ولا يزال الحك يزيد والمحكوك يتألم حتى تتنبه أعصاب الدماغ والعين ويصبح ذلك النوم الثقيل أخف من نفس الجميل، فيطير عنك إلى حيث تبحث عنه ولا تجده ولا يبقى لك إلا الحك والحكة وما هذا كله؟ هذا هو البق الذي تروعك حمرته، وتقلقك عضته؛ بل حركته؛ بل تطير نومك رؤيته، فتطلب الخلاص وماذا تصنع؟ مضت مدة من الليل نام فيها الصائحون فتعود إلى محلك الأول وقد نام الخادم، فتعود إلى غير فراش أو تفرش لنفسك وهذا أفضل لك، فإذا أصبحت حُوسبت على شمعتين في مكانين لم تصرف منهما شيئًا وعلى شيئين آخرين، وكدتَ تحاسَب على أجرة مخدعين! أظرف ما وقع لي مع خادم هذا النزل، طلبت منه ماءً باردًا فلم يفهم فأشرت إلى فمي ومثلت بيدي صورة إناء الماء، فإذا هو يفتح الباب وينظر إلي كأنه فهم أنني أشرت بيدي إلى أن الباب مغلق، وبفمي إلى فتحه؛ لأنه فتحة من فتحات بدني، وبعد تعب أعضائي من الإشارة ولساني من التكلم بالفرنسية قمت وبحثت عن كوب، وأشرت به إليه ففهم أني أريد ماءً؛ لكن لم يفهم أني أريده باردًا، وما أشد التعب في تصوير الجليد له! فرغ ماء الغسل، فطلبت منه تجديده فرفع في وجهي كرسيًّا طويلاً اشتريته لأجلس عليه في المركب ففزعت لذلك، وظننت أنه يريد رميي به ظنًّا منه أني شتمته؛ غير أن ذلك سُرِّيَ عني عندما رأيته ينظر إليَّ نظر الاحترام ويطلب مني بعينه أن يضع الكرسي. فاستلقيت من الضحك وذهبت إلى موضع الغسل وأشرت إليه أن يجدد الماء ففعل. أفلا يحملك ذلك على تعلم اللسان الإيطالي إذا أردت السفر إلى سيسيليا، وأن لا تصدق ما يقال لك من أن معرفة الفرنسية تكفيك الحاجة في كل بلاد أوربا؟ ! ((يتبع بمقال تالٍ))