للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوفاق الإسلامي الإنكليزي

لقد أذن الله المسلمين أن يهبُّوا من رُقادهم، ويسترجعوا مجد أجدادهم، وقد
سبق لنا أن قلنا في مقالة نشرت في الجزء الرابع من المجلد الثالث: إن مجد الإسلام
قام على أساسين وإنه هدم بهدمهما وإنما يعود بإقامتهما وهما: استقلال الفكر
واستقلال الإرادة، أما الأول فإقامته بالاجتهاد في علوم الدين والدنيا، وأما الثاني
فإقامته بالقوة إلخ ما هناك، وقد لاحظ من قرأ مقالة (مستر. ج. كوربت)
الإنكليزي الذي عربتها جريدة المؤيد ونشرتها في ستة أعداد وذكرنا أقطاب مسائلها
في نحو صفحتين من الجزء الماضي أن هذا الكاتب السياسي بَنَى دعوة قومه إلى
الاتفاق مع المسلمين على أمرين: (أحدهما) أن دين الإسلام دين مدنية يمكن
لمتبعيه أن يتفقوا مع أمة راقية كالأمة الإنكليزية، ويسيروا معها في كل طريق من
طرق العمران فتنتفع بهم وينتفعوا بها. وهو يشترط في ارتقائهم، ما يشترطه
أشهر فضلائهم، وهو إطلاق العقل من القيود والأغلال، وتمتعه بنعمة الاستقلال،
والتربية الدينية. التي تعيد إليهم صفات الرجولية.
و (ثانيهما) أن للمسلمين قوتين واحدة في آسيا وهي الأمة الأفغانية وأخرى
في أفريقيا وهي الفرقة السنوسية. وقال الكاتب: إن الواجب على الإنكليز أن
يستعينوا بمسالمة القوتين على تمكين سلطتهم في القارتين. وذلك يجعل
مصالحهم متفقة مع مصالح الأمة الإسلامية. ومساعدتها على العروج في معارج
المدنية، فإنها أمة واحدة لا جنسية فيها ولا وطنية. (فليعتبر بالأحداث الذين
يفرقون بين المصري والشامي، والمغربي والحجازي) .
هل نحن في حاجة إلى مساعدة دولة قوية حرة كالدولة الإنكليزية؟ وهل
الدولة الإنكليزية في حاجة إلينا؟ نعم ولكن فرقًا بين الحاجتين. نحن نحتاج إلى مثل
الإنكليز الذين لهم السلطان الرسمي وغير الرسمي على نحو نصفنا لأجل النهوض
والقيام، وهم يحتاجون إلينا لأجل الثبات والدوام، أو نحن نحتاج إليهم في الحال،
وهم يحتاجونك إلينا لأجل الاستقبال. وهل يصدق الإنكليز في مساعدتنا على التقدم
والرقي إذا نحن صدقناهم؟ نعم إذا قالوا صدقوا، ولن يقولوا حتى يعتقدوا بأن
المصلحة في ذلك وحتى يثقوا بنا. وقد رأينا هذا الكاتب منهم يحاول إقناعهم
بالمصلحة وبكوننا أهلاً للثقة وقد سبقه إلى ذلك غيره من كتابهم وعلمائهم، فهل
وجد فينا من حاول إقناعنا بذلك مع أننا أحوج إلى الوفاق منهم إذ من البديهي أن
المحكوم الجاهل الضعيف أحوج إلى مرضاة حاكمه العالم القوي. ولكن الجاهل
يمنعه الجهل أن يعلم المصلحة وإذا علمها يمنعه الضعف أن يدعو قومه إليها؛ لأن
الجاهلين إنما يتخاطبون بما يهوون لا بما ينتفعون. أرأيت كيف كان السيد أحمد
خان ظَنيناً في قومه متَّهمًا في بلاده عندما قام يدعو إلى الوفاق بين مسلمي الهند
وحكامهم من الإنكليز؟ لا جرم أن هذا هو شأن الجهل ولكن المسلمين أنشأوا
يتسللون منه لواذا، ولذلك لا يلاقي من يجهر في مصر بمثل دعوة المرحوم السيد
أحمد خان عشر معشار ما لقي من الظِنة وما عانى من مرارة التهمة وإن كانت
مصر ليست من الإمبراطورية البريطانية كالهند.
المسلمون في مصر عرفوا ما كان عليه إخوانهم مسلمو الهند أيام الجفاء بينهم
وبين الإنكليز وعرفوا ثمرة دعوة أحمد خان وثمرة مدرسته في حفظ حقوقهم
ومصالحهم بالوفاق مع الإنكليز واسترجاع ما كان سلب منها بالتدريج. وظهر لهم
خذلان أحداث السياسة الذين جعلوا النعاق بالتنفير من الإنكليز منبعاً للمال ومنبراً
للجاه وعلموا أنهم غاشون خادعون ضالون مضلّون فتغيرت الأحوال وصار شيخ
الجامع الأزهر يزور عميد الإنكليز في مصر وشاعر الخديو يمدح ملك الإنكليز
وينشر ذلك في الجرائد التي تنتمي إلى الإنكليز وليس هذا ولا ذاك ممن تضطرهم
وظيفتهم أو تقضي سياستهم بأن يفعلوا ما فعلوا.
إننا نعلم مع هذا أن أكثر المسلمين يرتابون في تحقيق هذا الوفاق ولو عرفوا
مصلحتهم ومصلحة القوم بالبرهان لما كان لهم أن يرتابوا. إن من مصلحتنا التي لا
نشك فيها أن تكون تربيتنا إسلامية دينية ونرى الإنكليز الداعين إلى الوفاق يرون
رأينا في هذا. إن من مصلحتنا أن نكون رجالاً مستقلين في علومنا وأعمالنا ونرى
الإنكليز يدعوننا إلى ذلك ويقولون: إنه يساعد على الوفاق بيننا وبينهم. إن من
مصلحتنا إحياء اللغة العربية لغة الكِتاب والسنة واللغة الجامعة للأمة ونرى الإنكليز
يدعوننا إلى ذلك. فهل ترتاب في أن شيئًا من هذه الأمور هو من أهم مصالحنا؟
كلا، يقول قائل: إن كاتب المقالة وطائفة من الكتاب والسياسيين الإنكليز قالوا بهذا
القول ولكن الدولة لم تقل به ولم ينتشر بعد فيصر رأيًا للأمة البريطانية فنقول: إن
الحكومة ستضطر إلى مجاراة الأمة. فهل نخدع لقول بعض الكاتبين، ونثق بمن لا
يتفق معنا في لغة ولا جنس ولا دين؟ ونقول في الجواب: قد قال مثل ما قال هؤلاء
حاكم الهند العام الذي يحكم مائتي مليون من النفوس منهم نحو تسعين مليوناً من
المسلمين أو زهاء خمسة أضعاف ما تحكمه الدولة العلية من المسلمين. وهب أنه
لم يقل بذلك أحد من الحاكمين البريطانيين فأنا سائلك: أي خدمة تقدمها أنت وقومك
للإنكليز جزاءً على اعتقادك بإخلاصهم في حب الوفاق معكم فتخاف أن تضيع هذه
الخدمة مع من لا يستحقها؟ لو أن هذه الدولة محتاجة إلينا اليوم في عمل اختياري
وهي تخطب ودادنا لنخدمها به لكان لنا أن نقول: إنه يجب علينا أن نأخذ بالاحتياط
ولا نخسر عملنا حتى نثق بصدق مجاملنا.
يقولون لنا بلسان حالهم أو بلسان مقالهم: تربوا التربية الدينية. واتصفوا
بصفات الاستقلال والرجولية. وتعلموا العلوم والفنون. وحصلوا المال والثروة
ونحن نساعدكم على ذلك. فهل معنى الاحتياط أن لا نشتغل بشيء من ذلك؛ لأن
هذا ثقة بالقوم ولا ينبغي لنا أن نثق بهم إلا بعد قيام البرهان على صدقهم. كيف
يكون هذا وأن ما يصدر عنهم هو عين البرهان على صدقهم.
يقول القائل: إنهم يخادعون بمثل هذه الأقوال أمير الأفغان والسنوسي ليكون
الأول معهم على روسيا وليأمنوا من إغارة الثاني على السودان. ونقول: إن هؤلاء
الكتاب يخاطبون دولتهم وإنَّ حاكم الهند كان يخاطب رعيته المسلمين ومثله حاكم
سيراليون (راجع صفحة ٧٠٧ من المجلد الرابع) فهل اتفق هذا وهو في غربي
أفريقيا مع ذلك في شرقي آسيا على مخادعة السنوسي الذي لا يسمع خطبهما ولا
يقرأ الجرائد فيعرف خبرهما؟ .
نعم إن أمير الأفغان يعرف أحوال الهند وما يقول حاكمها. ولكن حاكم
الهند العام لا يقول للمسلمين: (إنني لو كنت مسلماً لما أضعت من وقتي خمس دقائق
من غير فكر في ترقية شأن الإسلام) ولا ينصح للمسلمين بأن يقيموا التربية
الدينية ويعدهم بمساعدة الحكومة لهم لمجرد المخادعة فإنه إنما كان يخاطب قوماً
عاملين يخاطب رجال التربية الإسلامية في احتفالهم العام بمدرسة عليكدة. فقوله
هذا أكبر منشط لهم بالفعل. ثم ما كان لأمير الأفغان أن ينخدع بالأقوال. التي لا
تنطبق على الأعمال.
يقول هذا القائل: إن هؤلاء الحكام يقولون هذا ليطمئن المسلمون إلى حكومتهم
وهم يعلمون أن المسلمين لا يعملون. ونقول: إذا كنت أيها المسلم أسوأ
ظنًّا بقومك منك بالإنكليز فلا تجعل الذنب على خير الفريقين ولكن اجعله على
شرهما وهو من يقال له اعمل لنفسك فلا يعمل ثم يعتذر بأن من يقول له اعمل غير
مخلص في قوله. واعلم أن عقلاء المسلمين لا يرضون لأنفسهم ما وصفتهم به وأن
الإنكليز لم يقولوا ولن يقولوا للمسلمين اقعدوا ونحن نسعى لكم. وأنهم إن قالوا
لرعاياهم: اعملوا ونحن لا نعارضكم فلهم الشكر. فإن زادوا وقالوا ونحن نساعدكم
فلهم الفضل العظيم فإن سائر المستعمرين من الإفرنج يمنعون رعاياهم ومن في
حمايتهم من غير أهل دينهم من التعلم، وكل وسائل التقدم.
هذا الوفاق يراه المصريون رأيًا جديدًا ويراه سائر العثمانيين قديماً فهو رأي
أكثر وزراء الدولة وساستها ولكنه كان وفاقًا إنكليزيًّا تركيًّا. وكان عليه العمل بين
الدولتين ولا ننسى مساعدة بريطانيا العظمى للدولة العلية في الحروب الروسية
حرب القريم وما بعدها. ثم تراخت عرى الصلة بينهما بعد احتلال إنكلترا مصر
وكادت سياسة المستر غلادستون التحمسية تقطع تلك العرى تقطيعًا بما ظهر من
تعصبه على الدولة وعلى الإسلام في إبان الفتنة الأرمنية. وكان من أثر ذلك توثيق
عرى الصلة بين السلطان وعاهل الألمان وضعف نفوذ الإنكليز وكسدت تجارتهم
في البلاد العثمانية حتى قال البرنس بسمرك ما معناه: إنَّ المعلم غلادستون قد هدم
بشقشقته الحمقى ما بنته دولته في نحو قرن. ولا يزال أكثر نبهاء العثمانيين
يفضلون الإنكليز على كل دولة أوربية، وهذا كله مبني على قاعدة مسلّمة عندهم
وهي أنه لا بد للدولة من الاعتماد على دولة أوربية في سياستها الخارجية.
إنكلترا قصرت مع الدولة العلية وإنَّ مجاملتها لها تزيد جميع مسلمي
مستعمراتها ثقة بها فهي تنفعها في الوفاق الإسلامي الإنكليزي أكثر مما تنفع
المسلمين الذين تحكمهم فيما نظن، فإن تعلق آمال أولئك المسلمين بالدولة العلية يثبط
هممهم عن السعي في الاستقلال الذاتي الذي هو روح الحياة الاجتماعية كما بيناه من
قبل ويزيد عليهم ضغط حكامهم؛ لأنهم يرونهم ميالين إلى حكومة أخرى. ومن
شأن الضغط أن يفيد ولكنه لا يفيد ههنا؛ لأن المضغوط عليه لا يحاول الخلاص
من الضغط لاعتماده على غيره وقد ثبت هذا بالتجربة المؤيدة للنظر.
كان الوفاق إنكليزيًّا تركيًّا فأصبحنا نتحدث بوفاق إسلامي إنكليزي وهو وفاق
أشرف وأعلى وأعم وأنفع. كانت سياسة إنكلترا في ذلك الوفاق مبنية علي قاعدة:
يجب أن لا تسقط تركيا ولا تقوم يجب ألا تموت ولا تحيا. وأما قاعدة هذا الوفاق
فهي: يجب أن يعود للمسلمين استقلالهم الذاتي وأن ينفخ فيهم روح الدين
الإسلامي بفضائله وآدابة ليبعثهم إلى المدنية الحقيقية ولكن يشترط أن يكونوا هم
العاملين والإنكليز من المساعدين. فإذا صح هذا فهو أكبر أمنية يتمناها كل عاقل
من المسلمين. ويرضى هؤلاء العقلاء من إنكلترا بأن لا تكون على الدولة العلية
إذا لم تكن معها وبأن لا تدخل جزيرة العرب ولا تمكن دولة غير مسلمة من دخولها
كيفما كان حال الدولة العلية؛ لأن الجزيرة عند المسلمين معهد ديني كالمسجد، ومن
أركان الوفاق إقامة دين الإسلام، لا هدم مناره وتعطيل شعاره.
الواثقون بدينهم من هؤلاء العقلاء يعتقدون بأن الأمة الإنكليزية الحرة إذا
عملت بنصيحة مستر كربت وأضرابه (ومنهم إسحاق طيلر الذي نشرنا كثيراً من
مقالاته في أجزاء من السنة الماضية والسنة الحاضرة) ودرست الإسلام درسًا
صحيحًا فإنها تدخل فيه أفواجًا. وقد سبق لنا القول بأن أمة أوربية كهذه إذا
دخلت في الإسلام فإنها تملك بالمسلمين الشرق كله ولا يبعد أن تملك بهم الغرب
أيضاً فإن أكبر قواد الحرب في أوربا قالوا: إنه يسهل عليهم أن يفتحوا أوربا كلها
بمائة ألف من جيوش المسلمين.
أنَّى لنا بصوت نديٍّ من ذي برهان قوي. يبلغ قومنا مبلغ انتفاعهم من هذا
الوفاق ويعلمهم كيف يقنعون الإنكليز به ويمثّلون له مصلحتهم فيه مشدودة مع
مصحلتنا في قرن. إن هذا من وظيفة الجرائد ووظيفة أهل الرأي في الأمة. وقد
علمنا ممن ذكرناهم من عقلاء المصريين الارتياح لهذا الوفاق إذا وثقوا من
رضاء الدولة الإنكليزية به، ورأينا الجريدة السياسية الكبرى للمسلمين في مصر
(المؤيد) موافقة عليه، ولا يوجد في مصر جريدة سياسية غيرها يعتد المسلمون
برأيها في مصلحة المسلمين. إلا أن هؤلاء يرتابون في إنكليز مصر إن لم
يرتابوا في إنكليز الهند وحجتهم في الارتياب ما ذكره المؤيد ويذكره جميع الناس من
تصرف المستر دنلوب في المعارف تصرف من يريد إضعاف اللغة العربية والدين
الإسلامي في مدارس الحكومة. وانتقاد عمل المستر دنلوب مجموع عليه في
مصر لا يختلف فيه مع المسلمين القبط ولا السوريون فهو منتقدٌ في غير ما ذكرنا
من أمر اللغة والدين، ولا ينسب عمله إلا إلى سياسة دولته، وإن كان يجوز
أنه خطأ في إدارته.
والذي يكشف عن وجه الحق في هذه المسألة وأشباهها هو أن يرجع بعض
الوجهاء العقلاء إلى من بيده أزمة سياسة هذه البلاد وهو اللورد كرومر، وبينوا له
الضرر فيما يعتقدونه ضارَّا للبلاد أو للمسلمين في لغتهم أو دينهم فإن أشكاهم وأزال
الضر فعليهم أن يعتقدوا أن الإنكليز لا يريدون بالمسلمين سوءًا وإنما يحبون أن
ينتفعوا من بلادهم وينفعوهم جزاء على ذلك. وإن تبين له الضرر وأصر على
إبقائه فلهم أن يسيئوا الظن بدولته، وأن يعتقدوا أن هذه الأقوال التي تقال في الخطب
والكتب والجرائد تغرير وتمويه. أما نحن فنظن أنه لا يقتنع منهم بمضرة إلا
ويزيلها قياسًا على من كلمه في شأن إبطال النيابة من المحاكم وبين له أن ذلك ضارّ
بالبلاد فنكث فتل الاتفاق على ذلك بعد توكيده وعلى من كلمه في مسألة بيع الدائرة
السنية وبين له مضرة الفلاحين فيه فنقض الاتفاق بعد إبرامه. ومثل ذلك كثير.
ونختم البحث بقول ينبغي أن نكرره دائماً وهو أن من لا يعمل لنفسه فلا
يصح أن يطالب غيره بأن يعمل له. ومن كان مقصراً في حفظ حقوقه فلا يلومن
غيره إذا قصّر فيه. ومن عرف نفسه وعرف مكانه ممن يعيش معهم لا يُظلم ولا
يهضم. ومن أعطيَ الحرية في العلم والعمل، فليس له عذر في التقصير والكسل
ومن عرف قوة الرابطة الإسلامية لا يقطعها بمُدية الوطنية، فلولا أن المسلمين
كالجسد الواحد كما ورد في الحديث لما طلب الإنكليز الوفاق معهم. ومن ظلم نفسه
كان جديراً بأن يظلمه غيره.
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
والسلام على من تدبر القول فحكم عليه لا على القائل، وكان همه منه التمييز
بين الضار والنافع والحق والباطل.