للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


درس عام في العلم الإسلامي والتعليم
العلوم الإسلامية

ومن هنا يمكنني أن أتخلص إلى الكلام على حالتنا في تحصيل العلم في جميع
بلاد الإسلام وهو موضوعنا فنقول:
عندنا علوم شتّى نشتغل بتحصيلها ونسميها العلوم الإسلامية، وإنما سميت
بهذا الاسم؛ لأن موضوعاتها لها علاقة بدين الإسلام كالفقه وأصوله؛ وهو علم يُبحث
فيه عن طريق استنباط الأحكام من أدلتها، وكعلم التوحيد وهو علم إسلامي يبحث
فيه عن وجوده تعالى وصفاته الكمالية ثم العلوم النقلية كالتفسير والحديث واللغة
والنحو والمعاني والبيان والبديع وما سمي علم الوضع.
ومن هذه العلوم وسائل ومقاصد ونحن مشتغلون بجميعها وسائل ومقاصد. ولا
حاجة إلى الكلام في تبيين طرق الاشتغال بها عندنا وعندكم. إنما الكلام في أمر عام
معروف عند الجميع وهو طرق تحصيل هذه العلوم.
علم النحو وتدريسه
فالنحو مثلاً يدرس بتونس بكتبه التي تقرأ بمصر كالقَطْر والأشموني والصبّان
وله غايتان: الأولى التمكن من فهم كتاب الله وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام وكلام
سلف الأمة. والثانية إصلاح اللسان من الخطأ. نشتغل بعلم هذه القواعد في هذه
الكتب ثم نشغل أنفسنا بالبحث في عبارة المؤلف هل تدل على ما قصده فقائل يقول:
نعم، ويأتي قائل آخر يقول لا. وقائل ثالث يرجح قول نعم، ورابع يرجح قول لا،
ونحو هذا مما ترونه في التقارير المكتوبة على الحواشي ويطول بذلك الزمان
وتضيع الفائدة. وينصرف الذهن عن القاعدة، ثم بعد الفراغ من العلم لا يجد
الطالب تقويمًا في لسانه ولا صحة في تحريره ولا قدرة على فهم ما جاء في كلام
العرب أو في كتاب الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيد الأمر صعوبة
طريقة الابتداء التي اختاروها في تدريس النحو فإن الأستاذ يبادئ الطالب وهو لا
يعلم شيئًا من اصطلاحات العلم بتحقيق المسائل وتفتيتها كما يقولون كأنه عريق في
العلم. ولا يراعي مقدار استعداده للفهم. وقد وقع لي أني مكثت سنة ونصف سنة لا
أفهم شيئًا من شرح الكفراوي على الآجرومية فحملني عدم الفهم على الهرب من
طلب العلم لتمكن اليأس من نفسي؛ ولكن لأمرٍ أراده الله قهرني والدي على الرجوع
إلى الطلب فهربت في الطريق؛ ولكني صادفت في مهربي مَن علمني كيف أطلب
العلم من أقرب وجوهه فذقت لذته واستمررت في طلبه. فعلى الأستاذ أن يكون بيده
ميزان يزن به ذهن الطالب ودرجة استعداده لقبول ما يقول. فيجب على المدرس أن
يتنازل مع المبتدي إلى درجته ثم يرتقي به شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الدرجة التي
يتمكن فيها من إدراك دقيق المعاني. وهذا الفن - فن معرفة درجات الأذهان وكيفية
الاستفادة - فن مخصوص تستلزم قراءته ست عشرة سنة إذا كان شرح المطول
يحتاج في قراءته إلى ثمان سنين. ومن أنفق أوقاته في هذا الفن الذي أُلِّفت فيه
الكتب وبُسطت في الأفكار فإني أضمن له ثوابه عند الله تعالى أضعاف أضعاف
ثواب من يختم إقراء المطول لما أنه يرشدنا إلى الغاية التي طالبنا الله بها.
علم المعاني
والبيان والغاية منه
علم المعاني والبيان علمان يُبحث فيهما عن البلاغة وهي مطابقة الكلام
لمقتضى الحال. فما هو ذلك المقتضى؟ نجد الناظر في هذا الفن أو المعلم له يقول
هل تتحقق البلاغة بمطابقة الكلام لمقتضى الحال في الجملة أم لا بد من مراعاة
جميع مقتضيات الأحوال؟ فإن كان الأول فكيف يعد بليغًا من لم يراعِ الحال كما
ينبغي وهو يعلم أنه غير مراعٍ له، وإن كان الثاني فلا تختلف طبقات البلاغة ولا
يكون لها أعلى وأسفل. ويطول البحث ويكثر الجدال في ذلك وينصرف الذهن عن
البلاغة نفسها ولا يجد الباحث ما يرده إليها.
وهكذا نجد البحث يطول في الغالب إلى حد يشغل الذهن عن الغرض المقصود.
مع أنه لو قال الأستاذ: البلاغة صفة في الكلام تبلغ المتكلم مراده من نفس السامع
على قدر طاقته ثم إنها تكون بمراعاة حال المخاطب، وذلك ينقسم إلى قسمين ما يتعلق
بفهم الكلام وما يتعلق بالمعنى الذي سيق له الكلام، فما يتعلق بنَظْم الكلام هو موضوع
علم المعاني، ثم ينطلق في بيان ذلك وتقرير المعاني التي سمّاها الإمام عبد القاهر
الجرجاني واضع هذا الفن (معاني النحو) .
أما القسم الثاني: وهو حال المخاطب بالنسبة إلى المعنى الذي سيق له الكلام
فتتوقف معرفته على أمور كثيرة ومعارف جمة يتوصل بها إلى معرفة طبائع
الأشخاص ومداخل المعاني إلى قلوبهم، فمن أراد أن يقنع مخاطِبه بعقيدة مثلاً فعليه
أن ينظر فإن كان المخاطب ممن لا يقنع إلا بالبرهان فعليه أن يُقِيمَهُ له، وإن كان
ممّن لا يدرك البرهان، ولكنه يقنع بالمسلَّمات مثلاً سلك معه له تلك السبيل ولا
يكون بليغًا إلا إذا لاحظ ذلك مع ما يتعلق بالنَّظْم: لو سلك الأستاذ هذا المسلك لجمع
المعاني الكثيرة إلى ذهن الطالب ووَجَّهَ نفسه إلى الغاية المطلوبة منها ثم إنه بعد ذلك
كله لا يعد معلمًا للبلاغة إلا إذا وجّه فكر الطالب إلى ممارسة كلام العرب ونسْج في
التحرير والتعبير على ما نسجوا عليه حتى تحصل له ملكة البلاغة ويصل إلى الغاية
مِن علمه. فإن غاية هذا العلم تشمل كِلا أمرين: الأول أن يكون الطالب فصيحًا
بليغًا فيما يكتب أو يخطب. والثاني أن يقيس بلاغة البلغاء ببلاغة القرآن فيدرك
حقيقة الإعجاز. وهذا الأمر الثاني هو في الحقيقة ثمرة الأمر الأول، فإنّ مَن لم يكن
بليغًا بالملَكَة والعمل لا يمكنه أن يميز بين طبقات البلاغة.
أسهل طرق تعليمه
سُئِلَ الأصمعي أي الرجلين أشعَر أمسلم بن الوليد أم أبو نواس؟ فحكم لأبي
نواس. فقيل له إن أخاك أبا عبيد يحكم لمسلم بأنَّه أشعر فقال: إن أبا عبيد يروي
الشعر، ولكنه لم يكابد مشقة العمل في صناعته فليس أهلاً للحكم، وهذا قول حق
فإن مَن لم يذقْ لم يعرفْ. وأمّا ما يظن من أنه يتيسر للطالب بعد معرفته
اصطلاحات علم المعاني أن ينظر في كتب التفسير كالكشاف مثلاً ويعرف ما يقول
الكشّاف في وجوه بلاغة الآية، وبذلك يكون ممن عرف بلاغة القرآن وإعجازه
فليس من كلام المحصلين؛ لأنه لو كفى ذلك لما كانت حاجة إلى صرف الزمان
الطويل في تحصيل علم المعاني؛ بل كان لنا أن نقول إن القرآن معجزة لأن صاحب
الكشاف قال إنه معجز وننتفع بزماننا في تحصيل ما هو أنفع وذلك مما لا يعقل.
ورُبَّ قائل إن المتكلم اليوم يقول ذلك من قبيل من يأمر غيره بالبر ولا يأتمر به فقد
عرض بنفسه جزافًا بإلقاء خطبة على أناس لا يدري أخلاقهم ولا يدري ما يقولون
بعده ولا يعرف مواضع الخطاب من أنفسهم. فالجواب: نعم لم أقف على هذه
الأمور تفصيلاً؛ ولكن مدة إقامتي بهذه الحاضرة كانت مدة اجتماع بأفاضلها وعلمائها
وبذلك حصلت لي خبرة إجمالية فخطر ببالي أن ألقي جملة فيما يطابق مقتضى الحال،
وفي ظني أن ما أقوله إن لم يقع موقعًا حسنًا من نفوس جميع السامعين فلا أقلّ مِن
أن يستحسنه بعضهم وذلك يكفيني في مطابقته لمقتضى الحال.
اختلط علينا الأمر بالنظر في المعاني الاصطلاحية، وكثرة البحث فيها وانقلب
الغرض منها إلى مصاب نزل بنا في علومنا وعقولنا فانصرفنا بها عما طلب منها.
ولهذا يلزمنا أن نأخذ مأخذًا في العلوم يسهّل تحصيلَها وييسرها على الطالب. وفي
ظني أنه إذا هذبت طرق التعليم لطالب علم البلاغة مثلاً أمكنه أن يبلغ الغاية منه في
ثلاث سنين. وكذلك من أراد بلوغ الغاية من النحو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك
بحيث يصير الطالب بعد هذا فصيحًا بليغًا مميزًا بين طبقات البلاغة شاعرًا بمعنى
إعجاز القرآن قادرًا على فَهم ما جاء في كلام السلف والانتفاع به فيما يصلح معاشه
ومعاده.
وجملة القول إن الغاية من هذه العلوم العربية هي أن يبلغ المرء بالتعلم مَبْلغًا
كان عليه العربي بالسليقة وهذا يحصل بما قدّمناه.
ومما يلزم التنبه له في التعليم أنه من حق الإنسان أن يفتح للطالب باب النظر
بنفسه في العلوم فيبيّن له القاعدة مثلاً ثم يطالبه بما يراه في انطباقها على جزئياتها
في العمل فإنه إذا عوّده على أن يقول له كل شيء، وأن يقوده في كل أمر وقف
ذهنه عند حد الاتباع وصعب عليه أن يحقق أمرًا بنفسه فعليه أن يطالبه بالعمل دائمًا
ويعلّمه طريقةَ معرفةِ الخطأ والرجوع إلى الصواب. وهذا هو ما يطلب من الدرس
بين يدي الأستاذ حتى تحصل ملكة التمييز. أما الوصول إلى غاية الكمال في العلم
بقدر الإمكان فأمره موكول لاجتهاد الطالب بعد مفارقة الدرس. ووقوف ذهن هذا
المنقاد في كل شأن عن معرفة الأمور بنفسه من الأمور المحسوسة؛ فمن ذلك أني
لما جئت هذا البلد كنت أمرُّ من طريق قصيرة من محطة سكة الحديد إلى البيت
ذهابًا وإيابًا ولكن مصحوبًا بالسيد خليل بو حاجب وقد رأيت أمس اليوم أن أذهب
إلى المحطة راجلاً فبعد أن مضيت في طريقي خطوات قيل لي إن هذا ليس هو
الطريق إلى المحطة فرجعت إلى طريق أخرى وطال عليَّ السير حتى صعب عليَّ
الرجوع إلى المنزل لتشتُّّت الطرق علي واضطررت إلى سؤال بعض المارة عن
المحطة فدلني عليها وإذا بيني وبينها أطول مما بيني وبين البيت الذي خرجت منه.
ثم بعد عودي إلى البيت خرجت ماشيًا مرة أخرى بعد نحو ساعة فاهتديت إلى
طريق المحطة؛ ولكن وقع لي اشتباه على مقربة منها. ولم تُزَلْ الشبهة إلا بسؤال
مار. أما بعد ذلك فإني لا أضل في هذه الطريق أبدًا. فالعصمة من الضلال إنما
تأتي في الحقيقة من عمل العقل وحده مع الاستعانة بما أرشد إليه المرشدون
الراشدون.
الغاية من علم التوحيد
ومن العلم ما يكون العلم والعمل به واحدًا كعلم الكلام فإن المقصد منه إنما هو
تحصيل اليقين بمسألة كثبوت الوجود لله تعالى وصفاته الكمالية التي ورد النص
بإثباتها له ودفع شبه الملحدين الذين ينكرون ثبوت شيء منها وثبوت بعثة الرسل
صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا العلم إن جرينا في تعلمه على التقليد في الدليل
كالتقليد في النتيجة، واكتفينا بفهم ما جاء من الأدلة على ألسنة من كتبوا فيها
أعرضنا عن الغاية من وضعه؛ لأن اليقين لا يحصل بقراءة الأدلة وخزنها في
الأذهان؛ وإنما يحصل بالاستدلال الصحيح وإدراك العقل وجه الدلالة من نفسه
بدون تقليد؛ وإنما يعد النظر في دليل المستدل السابق معينًا ومهيئًا للعقل إلى تصحيح
النظر. فالطريقة التي يجري عليها أغلب المعلمين ليست من غرض علم الكلام في
شيء، ومن الناس مَن إذا سألته في أمر يتعلق بعقيدة من العقائد فاجأك بقوله: لا
تقل ذلك فتكفر أو تعتزل، أو ما أشبه ذلك وهو سلاح يتخذه المرتابون في عقائدهم
ترسًا يدفعون به ما يخشون من الشبه التي تزلزل عقائدهم ولكن هذا الدفاع يدل على
ارتياب صاحبه في عقيدته قبل الدفاع؛ فإن صاحب اليقين يرتاح إلى كل ما يسمع
فإن وجد عند مخاطبه شبهة أمكنه أن يزيلها من نفسه. وتلك الطريقة من طرق
الدفاع عن العقائد هي التي أغلقت دون المسلمين أبواب العلم، فإنه كلما لاح نور إلهي
في يقين الطالب يهديه إلى طلب الحق وجد من هذه الكلمات كالاعتزال والفلسفة ما
يخمد ذلك النور فيه. ومن سوء الاستعمال في تعليم هذا العلم أن يعلم الطالب متن
السنوسية مثلاً وهو لم يحصل شيئًا من مادي العلوم. فيقال: إن الحكم العقلي ينقسم
إلى ثلاثة أقسام: الواجب والمستحيل والجائز، ثم تقرأ له هذه الأقسام بالتعاريف
الاصطلاحية وهو على جهل تام بما يدعه لفهم معنى الحكم فضلاً عن أقسامه
فيضطر الطالب إلى حفظ هذه الألفاظ بدون أن يحصل من معناها إلا على خيالات لا
تنطبق على حقيقة.
وقد قال المتقدمون إنه لا ينبغي أن يُنظر في علوم الكلام إلا بعد تحصيل
مقدماتها والاستعداد لفهم طرق الاستدلال حتى لا يضل الطالب النظر فيها وهو على
جهل من وسائل فهمها فاللازم الأخذ بأحد أمرين: إما أن يستدل الناس بالأكوان على
مُكَوِّنِهَا وبالآثار على المُؤثِّر فيها لينالوا بذلك اليقين فيما يعتقدون، كلٌّّّّّّّّ على حسب
استعداده. فالعامي مثلاً يستدل بما بين يديه من نبات وحيوان على حسب ما يظهر
له في نظامها، والسيد علي الرضا يكتب كتابًا في التشريح يقول في آخره: إنه عرف
بذلك وجود الله وأنه المنفرد بالتصرف في هذا الكون. وإما أن يعلم علم الكلام على
طريقة تكفل الانتفاع به في الوصول إلى اليقين الذي لا يقبل التزلزل، والإيمان
الذي يملأ القلب خشيةً من الله ورجاءً به وخضوعًا له. وأما طلب هذا العلم بمجرد
قراءة كتبه ومعرفة ما دلت عليه عبارتها فقط فهو في الحقيقة مما يصد عن اليقين
ويبعد عنه خصوصًا إذا خاف الناظر من أن يقال إنه فيلسوف أو معتزلي أو ما أشبه
ذلك؛ فإنه لا يقين مع التحرج من النظر؛ وإنما يكون اليقين بإطلاق النظر في
الأكوان طولها وعرضها حتى يصل إلى الغاية التي يطلبها بدون تقييد كما هدانا الله
إلى ذلك في كتابه فإنه يخاطب الفكر والعقل والعلم بدون قيد ولا حد، ووقوفنا عند حد
فهم العبارة مضر بنا في العلم ومنافٍ لما كتبه أسلافنا وما تركوه لنا من جواهر
المعقولات في الكتب النفسية المستودعة بخزائننا التي أصبحت اليوم أكلة للسوس
وفراشًا للأتربة، لا نمد أيدينا لنستلبه منها أو لنزعج السوس عن أكلها وإتلافها،
أَنْفَسُ ما فيها فَرّ من بين أيدينا ورُصِّعت به خزائنُ أمم أخرى أصبحت الآن تُنعت
بأمم النور ولو طلبناها لم نجدها.
وربما اعتذر الطالب عن قبول النصيحة بأنه لا مناص له عن صرف الزمان
في قراءة المطول ونحوه مثلاً؟ لأن غيره ككتاب الصناعتين ليس مما قرره القانون
أو لأن الأستاذ لا يريد ولأنه يبغي أن يكون عالمًا مشهورًا ولن يكون كذلك في نظر
العامة إلا إذا قرأ المطول بحواشيه في المدة المعلومة أو في أطول منها ولكن هذا لا
يصح عذرًا ولست أريد بنفي العذر أن أحمل الطالب على عصيان أستاذه أو حرمانه
مما يطلب من الشهرة بين قومه بل أريد أن أنبه إلى سلوك طريق وسط وهو أن
يجمع بين الحضور في درس الأستاذ وتحصيل حقيقة العلم فيطالع درس الأستاذ
ويضم إلى ذلك مطالعة شيء من الكلام البليغ وتحرير ما ينسج على منواله في
تحصيل الملكة المطلوبة.
ولقد عرض لي ما يعرض للطلبة اليوم وكنت أتمنى أن أبلغ من الشهرة ما بلغه
غيري فحضرت درس تلك الكتب مع اشتغالي باستكمال ما أردت من العلم على أن
طلب الشهرة في العلم إنما هو عند شعور النفس بشيء من الغرور، فإذا أدركت
حقيقة العلم نسيت شهوة الشهرة، وأدركت أنها بمنزلة من الجهل تقضي عليها
بتحصيل العلم للعلم والعمل به في سائر الأوقات وعلى أي الحالات.
للطالب أو الأستاذ أن يستعيذ من هذه البدع التي يراها جديدة ويقول إنها بدع
مخالفة لسنة السلف الصالح التي لا نريد أن نغيرها؛ لأنها لو لم تكن مفيدة لما سنَّها
أسلافنا، فما لنا إلا اتباعها وعليه يكون مثلي كمثل ذلك المغني على مسمع جماعة من
الأعاجم بكلام مجنون ليلى إلى طلوع الفجر فقيل له: بالله عليك غنِّ لنا عن ليلى
ومجنون، فقال: إن الغناء كان في ذلك، قالوا: ولماذا لم تعلمنا من قبل حتى نفرح؟
ذلك أن الطريقة التي نشير بها هي طريقة أسلافنا الأقدمين فالعَوْدُ إليها إحياء
لسُنَّتهم وعمل بآثارهم فلما كان أسلافنا جارين في تعليمهم على تلك الطريقة القويمة
كان نور العلم يضيء لهم سبلهم إلى سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكانت الأمم التي
تعد نفسها اليوم حاملة مصابيح العلم تستضيء بنورهم.
يقول القائلون: إن طلب تغيير الطرق اعتناء بالجديد وولوع بالبدع أو نزوع
لها، وليس الأمر كذلك فإن الجديد والبدعة هو ما نراهم عليه وقد ظهر أثره وعم
ضرره فالقديم الحقيقي هو ما تدعو إليه ولا نجاح لنا إلا بالتعويل عليه.
التوكل
بقيت مسألة نبهنا عليها في أول الأمر وهي أن الواحد منا إذا لاح في ذهنه نور
إلهي يرشده إلى طريق العلم بأنه معارَض بقول له: إن الحالة الحاضرة هي ما قدر
الله لا حيلة لنا فيها فالمرء متوكل على الله مسيَّر بحسب القدرة فعلينا بتسليم أمورنا
إليه تعالى والتوكل عليه: وبذلك ينطفئ النور الذي لاح بذهنه وبعد أن كان خطر
بباله داعي العمل، ينزع إلى البطالة والكسل، والعجب أنهم يظنون هذه الوساوس
من العقائد الدينية ولكن الدين يتبرأ منها وما للدين عدو أضر من أمثال هذه
الاعتقادات.
نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمامنا وقدوتنا لما بعث في دياجير الجهل
وتحكم سلطان الشرور وقبائح العادات في الأمم التي أرسل إليها لم يقل إن ذلك ما
أراده الله ولم يسلم أمره للقدر بترك العمل، وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم -
أصابهم من الآلام في السعي ما أصابهم مع أنهم أشد الناس توكلاً على الله وأكملهم
تمسكًا بالقدر في طريق الحق فإذا كانوا قدوتنا كما هو الحق فلماذا لا نقتدي بسيرتهم
وننبذ وساوس المبطلين، وهذيان العُمْي والمغفلين، والله تعالى قد دعانا إلى طريق
الحق والتواصي بالحق والصبر وحملنا على ذلك: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر:
٢-٣) ، فالذين فقدوا التواصي بالحق والصبر هم - بلا شك - خاسرون.
الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين. وقد جاء الكتاب الكريم
بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه. وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو: {لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ١٤٨) ، فلا يسوغ
لأحد منا وهو يدّعي أنه مؤمن بالقرآن أن يحتج بما كان يحتج به المشركون.
مَن يزعم أنه متوكل من المتظاهرين بالصلاح فهو كاذب زِنديق؛ لأنه إنما
يدّعي التوكل، إذا طولب بأمر فيه مشقة عليه أو يجد في نفسه عجزًا عنه، لا
سيّما إذا كان في مصلحة عامة فهو يرضى بما يجد، فإذا رجع أولئك المتبتلون إلى
منافعهم الخاصة لم تجد للتوكل في نفوسهم أثرًا فهم يغشّون ويخادعون ويحتالون
لتحصيل ما به يعيشون، أو ما به على الناس يظهرون، وحينئذٍ لا يرجعون إلى
التوكل فهم كَذَبة لا يصح الاقتداء بهم. وكفانا قدوة وخير أسوة سيد المتوكلين صلى
الله عليه وسلم؛ فإنه كان على شدة توكله واعتصامه بالاستعانة بالله جل شأنه لا يفتر
عن العمل في الدعوة إلى الحق وحمل الناس عليه.
يحتج بعض الناس على كسلهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا) [١]
ويفسرون ذلك بأننا لو ألقينا أثقالنا على الله وتركنا أسباب عيشنا في كسبنا ومأكلنا
ومطبخنا ومرقدنا لرزقنا كما تُرزق الطير ولكن هذا الفهم خطأ بعيد عن المعنى
المراد ولولا ذلك لقال صلى الله عليه وسلم: (لرزقكم كما ترزق الطير تلبث في
أعشاشها وتفتح أفواهها فتصبح خماصًا وتمسي بطانًا) . يظنون أن هذا الحديث حث
على البطالة وترك العمل مع أنه جاء للحث على العمل. والكلام في معنى حق
التوكل ظنوه ترك السعي بالمرة وهو خطأ محض فالمراد من حق التوكل أن يعتمد
الإنسان على الله سبحانه وتعالى مع اتباع سنته التي سنها في الطلب فيحصل الطالب
من أسباب مطلوبه ما جعله الله سببًا ويدقق النظر في ذلك ما شاء حسبما طالبه الله
تعالى به. ثم بعد أن يستعمل الأٍسباب يناجي ربه بسره: أن قد أتيت بما في
استطاعتي على مقدار ما وهبتني وما بقي مما لا أعلم ولا أملك فهو في يدك فأغنني
بقدرتك ولا تحرمني معونتك، ثم يمضي في عمله. هذا هو حق التوكل. وقد أشار
إليه صلى الله عليه وسلم في قوله: (تغدو خماصًا وتروح بطانًا) . فإنه أراد بذلك
أن الطير إنما تسير في تحصيل معاشها على الإلهام الذي أودعه الله فيها، ألهمها
معرفة الأماكن التي فيها أقواتها كما ألهمها الغدو إلى تلك الأماكن لتصيب أقواتها منها
فهي تعمل بإرادتها على ذلك الشعور الذي منحه الله إياها.
فحق التوكل لا يتم لنا إلا بأن نجري في أعمالنا على ما يقوم عندنا مقام الإلهام
عند الطير. والذي يقوم عندنا مقام الإلهام هو العقل. فلا نكون متوكلين حقَّ التوكل
حتى نستعمل نفوسنا في الوسائل التي توصلنا إلى بلوغ الغاية من أعمالنا وأن نجيد
الاستعمال؛ حتى لا يقع لنا ضلال في طرق الوصول إلى المقصود، فالاعتماد على
الله بهذه الطريقة كافل نجاح الأعمال.
(الخاتمة) وبهذه الوسائل يسهل علينا التوفيق بين السعي والتوكل لا سيما
في تحصيل العلوم وهي كثيرة: وأَوْلاها بالتقدم فيما أعتقد علوم لساننا العربي فإن
إصلاح لساننا هو الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا، وجهل المسلمين بلسانهم هو
الذي صدهم عن فهم ما جاء في كتب دينهم وأقوال أسلافهم؛ ففي اللغة العربية
الفصحى من ذخائر العلم وكنوز الأدب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بتحصيل ملكة
اللسان، ولا تحصل هذه الملكة إلا بالعناية بتحصيل علومه على الوجه الذي سبق
بيانه من الجمع بين معرفة القواعد من أسهل طرقها بدون التفات إلى عبارات
المعبرين وبين العمل بالقول والقلم؛ حتى يملك الطالب من اللسان ما كان يملكه
العربي بسليقته وبدون ذلك لا نصل إلى فهم أسرار شريعتنا؛ بل تُسَدُّ في وجوهنا
طرقُ الوصول إلى الحقيقة منها.
فعلى كل مَن له غيرة على ملته أن يبذل ما في وسعه لتسهيل طرق تعليم اللغة
وتحصيل الملكة فيها قولاً وكتابةً؛ حتى يتكلم بها غالب أهلها ويكتبوا بها بالطريقة
الصحيحة؛ لأن في انحطاط لغتنا انحطاطًا لنا ولديننا وعقائدنا وأخلاقنا وانحطاط
ذلك مفسد لجميع أمورنا.
أقول قولي هذا ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله وإلا خالفت ما أدعو إليه من
استقلال الفكر، أعرضه على مسامعهم فإن وجده السامع صوابًا أخذ به وإلا فإنه لم
يخشَ شيئًا سوى احتماله مشقة الحر في هذا المجلس وهو قدر مشترك بيني وبينه.
والله يوفقنا إلى إصلاح أحوالنا في معاشنا ومعادنا وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.