للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة مجموعة مقالات
الوهابيون والحجاز

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،
والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، الذي أكمل الله تعالى
ببعثه الدين، وما أرسله إلا رحمة للعالمين، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على
الكافرين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، ومن
تبعهم في هُدى الله وهدي رسوله إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد علم من سنة الله تعالى في خلقه، مصداقًا لما بينه الله تعالى في
كتابه أن هداية الرسل للأمم تكون على أكملها فيمن اتبعهم في عصرهم والأعصر
التالية له، وكلما تراخى الزمان ظهر الفسق والعصيان، ونجمت قرون البدع،
وفشا التحريف والتأويل، وكثر ما يكرهه الله سبحانه من القال والقيل.
وقد قصّ الله علينا في كتابه من أخبار الأمم مع رسلهم عامة وأخبار أقربهم
منا في الزمن وهم اليهود والنصارى خاصة ما فيه العبرة والذكرى لنتقي التهوك [١]
فيما تهوكوا فيه قبل أن يقع، ولنكون على بصيرة من ديننا فيه إذا وقع، وقد
علم سبحانه وأعلم رسوله أنه واقع لا محالة؛ لأن سنن الله تعالى مطردة لا تبديل لها
ولا تحويل، وهو صلوات الله وسلامة عليه قد أعلمنا بذلك لنكون على بصيرة من
أمرنا فيه، ولا يلتبس علينا الحق بالباطل كما التبس عليهم، فقال: (لتتبعن سنن من
قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول
الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ متقاربة.
وقع ذلك كله حتى عم البلاد الإسلامية، والأكثرون من المسلمين يجهلون ذلك
فهم لا يشعرون أنهم غيروا وبدلوا، وحرفوا وأولوا، وأحدثوا وابتدعوا، وفسقوا
عن أمر ربهم، وأن ما نزل بهم من الذل وضياع الملك، واستيلاء الأجانب على
أكثر بلادهم، عقوبة من الله تعالى على ابتداعهم وفسقهم، كسنته فيمن قبلهم، قال
الله تعالى في أوائل سورة الإسراء {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ
فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا
أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ
وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ
أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: ٤-٨) .
وإن كثيراً منهم ليعلمون هذا بالإجمال حتى إن خطباء مساجدهم ليقولون من
أعلى منابرهم: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
وأمثال هذا القول - ثم لا يحمل هذا العلم ولا هذا التصريح به على عمل،
ولا على ترك زلل، بل هم يعادون كل من دعا إلى السنة، ويصرون على ما ألفوا
من البدع الدينية؛ لأنها دخلت عليهم من باب الدين، وفتنوا بمن عمل بها ممن
يلبسون لباس الصالحين، حتى إنهم إذا اعترفوا بأنها بدع قالوا: إنها بدعة حسنة،
خلافًا لقول رسولهم الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثة بدعة، وكل
بدعة ضلالة) .
وخلافًا لقول الله عز وجل: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) وجهلاً
بكون البدعة التي تنقسم إلى حسنة وسيئة لا تكون في التشريع الديني
والزيادة في العبادات أو التصرف فيها بجعل ما ليس بشعار شعارًا، وإنما تكون
فيما وراء ذلك من الأمور الموكولة إلى اجتهاد الناس من الأعمال والمصالح الدينية
والدنيوية كابتداع آلات للقتال تزيد في قوة الأمة على حفظ دينها ودنياها، الذي يدخل
في عموم قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:٦٠) وكتعبيد
الطرق وتسهيل سبل المواصلات للمنافع الدينية والدنيوية المشروعة ولا سيما
طريق الحج بإنشاء السكك الحديدية وأمثالها، وكتأليف الكتب المفيدة في ضبط
لغة الدين (العربية) وغيرها من العلوم الشرعية أو الفنون العلمية النافعة.
ومما خص الله تعالى به هذه الأمة المحمدية أن الكتاب المنزل لهدايتهم من
عند الله تعالى قد نقل بالتواتر القطعي حفظًا في الصدور وكتابة في المصاحف، فلم
يضع ولن يضيع منه كلمة ولا حرف واحد، ولم يتغير ولن يتغير منه لفظ واحد،
وأن السنة المحمدية وسيرة سلف الأمة الصالح قد رويتا بالأسانيد ودونا في الكتب
بعناية يسهل معها التمييز بين الصحيح وغيره متنًا وسندًا، ولولا هذا وذاك لضاع
ديننا كما ضاعت أديان من قبلنا، حتى أقرب الناس منا تاريخًا، فقد طرأ على
كتبهم التحريف بالزيادة والنقصان والتغيير، وفقدت أصولها التي كتبت في عهد من
أوحيت إليهم وليس لشيء منها أسانيد متصلة بهم.
ومما خص الله به هذه الأمة أيضًا أنها لا تجتمع على ضلالة وأنه لا يزال
طائفة منها ظاهرين على الحق، وأن الله تعالى يبعث منها مجددين لأمر الدين، كما
ورد في الأخبار المرفوعة من صحيحة وحسنة ثبتت صحة معانيها بالفعل. وقد
كان انتفاع جماهير المسلمين بهؤلاء المجددين المصلحين يختلف باختلاف أحوالهم
وأحوال أهل عصورهم في العلم والعمل والقوة والضعف في رسوخ التقاليد
والبدع.
وكان من أجِلّتهم في القرون الوسطى قدرًا، وأنبههم ذكرًا، شيخ الإسلام أحمد
تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى فقد آتاه الله من المواهب ما يندر أن يجتمع
لأحد من البشر: سرعة الحفظ وعدم النسيان وقوة الاستحضار، وقوة الاستنباط
وقوة الاستدلال، حفظ القرآن وما روي من تفسيره من الأحاديث المرفوعة وأقوال
الصحابة والتابعين، حفظ كتب السنة وأقوال رجال الجرح والتعديل في أسانيدها،
حفظ ما يروى عن الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار من الآثار في العقائد
والآداب الدينية والأحكام الشرعية، نظر في كتب المذاهب المدونة وأدلتها، فكان
يستحضر ذلك كله عند التأليف أو الإفتاء، قرأ كتب الملل والنحل، ومقالات فرق
الإسلام وكتب المنطق والفلسفة والكلام والتصوف، ثم تصدى بذلك كله للرد على
النصارى وأهل البدع، وألف في ذلك المصنفات الدالة على سعة اطلاعه وقوة
حجته، ووجه جل عنايته لنصر السنة وترجيح مذهب السلف على كل ما خالفه من
أقوال المتكلمين والمتصوفة حتى المنسوبين إلى السنة منهم فلم يدع بدعة ولا قوة
تخالف الكتاب والسنة، ولا سيرة سلف الصالح إلا وبين بطلانها وضلال أهلها،
مميزًا بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهداية والضلالة، والطاعة
والمعصية، ولم يقتصر في ذلك على تصنيف الرسائل والكتب الممتعة، والفتاوى
المفصلة، بل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويناظر المخالفين،
ويستتيب المبتدعة والفاسقين، لا يحابي حيًّا ولا ميتًا لكبر شهرته، ولا لكثرة
أتباعه، ولا لضخامة ألقابه، وكان مع هذا كله من أعبد العباد، وأفراد الزهاد،
وقد حل من المشكلات، وكشف من المشبهات وفند من التأويلات، ما عجز عن
مثله فحول العلماء، وضل به كثير من المتكلمين والصوفية والفقهاء.
وقد تلقى عنه وتخرج به كثير من العلماء المحققين في علوم الشرع كلها
أشهرهم وأقربهم منه العلامة ابن القيم صاحب التصانيف التي نالت من القبول فوق
ما ناله كتاب عند الجمهور لأسباب أهمها لين عبارته، وخفة وطأته على المخالفين
ولا سيما بعض أكابر المتكلمين والصوفية.
هذا وقد شهد لشيخ الإسلام أكابر العلماء المنصفين ولا سيما حفاظ الحديث بما
لم يشهدوا به لغيره من أهل عصره حتى اعترفوا له بالاجتهاد المطلق، وتصدى
لعداوته وإيذائه وصده عن نصر السنة وإحياء مذهب السلف الصالح بعض كبار
العلماء الرسميين، المقربين من الملوك والسلاطين، المفتونين بتأويلات المتكلمين
والجامدين على أقوال أمثالهم من مفقهة المقلدين، حتى كان أقوى ما آخذوه به
تفسير الآيات والأحاديث الصحيحة الواردة في صفات الله تعالى وعلوه على خلقه
بما فسرها به علماء السلف حتى أئمة المذاهب المتبعة، وطلبوا من السلطان
استتابته من قراءة هذه الآيات والأحاديث على الناس! ! فأوذي وحبس في هذه
السبيل بما هو معروف في كتب التاريخ، وظل أخلاف أولئك المقلدين الجامدين
يصدون الناس عن كتبه إلى أن أحياها الله تعالى في بلاد نجد بظهور المجدد الداعي
إلى الله تعالى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأحفاده وأنصارهم من آل سعود
أمراء نجد في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، ثم في نهضة
الإصلاح الجديدة بمصر والهند وغيرهما من البلاد الإسلامية في عهدنا هذا من
القرن الرابع عشر، فإن كتبه صارت تطبع وتلاقي من الرواج والانتشار عند أولي
الاستقلال في الفهم، والاهتداء بالعلم ما لا يلاقي غيرها في موضوعها إلا كتب
تلميذه ووارث هديه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
وكان الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله مجددًا للإسلام في بلاد نجد بإرجاع
أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة على طريقة شيخ
الإسلام ابن تيمية، وإنما كان نجاحه سريعًا بتأييد آل سعود له ومنعهم إياه ممن
يريده بسوء، وما كان آل سعود أقوى شيوخ عشائر نجد وأمرائها، ولكن الله
نصرهم بنصر دينه، فكان من أمرهم ما كان من فوز وفلاح، ثم من بلاء وامتحان
ثم ما كان من رد الله الكرة لهم في هذه الأيام، ذلك بأن أمراء مكة المفسدين في
الأرض، الملحدين في الحرم، قد تصدوا لمقاومة دعوة الإصلاح والتجديد الوهابية
من بدء ظهورها، فأذاعوا في العالم الإسلامي كله أنها دعوة كفر وابتداع وعداوة
للمسلمين والإسلام، كان مقامهم بمكة المكرمة مسهلاً لهم ذلك وصدقهم أكثر الناس
الذين هم أتباع كل ناعق، وسعوا لحمل الدولة العثمانية على قتال آل سعود وهي
استعانت على ذلك بالدولة المصرية العلوية الجديدة، ولسنا بصدد بيان الماضي هنا
وإنما نحن بصدد بيان عاقبة أمرهم وأمر أمراء مكة المعروفين بالشرفاء.
أما الدولة العثمانية فقد استمرت على معاداة آل سعود زهاء قرن كامل
لاعتقادها أنهم يريدون تأسيس دولة عربية قوية تزيل ما لهم من السلطان في جزيرة
العرب ويتبع ذلك هدم الخلافة التركية، ثم ظهر لها أن مصلحتها تقضي بالاتفاق مع
آل السعود والاعتراف لهم بسيادتهم على نجد وملحقاتها حتى ما كان بيد الدولة منها
ففعلت ذلك، وعلم بذلك أنها لم تكن تعاديهم لسبب ديني كما كان يظن الجاهلون.
وأما أمراء مكة المعروفون بالشرفاء فظلوا على ضلالهم في الطعن على دين
الوهابية وافتراء الأكاذيب عليهم، وكان أشدهم إسرافًا في الطعن وفي عداوة آل
سعود الأمير حسين بن علي، ولما خلص أمر الحكم في الحجاز له وحده بتقلص
ظل الدولة العثمانية عنه واعتراف الإنكليز وأحلافهم بالملك له عليه ظن أن الفرصة
قد سمحت له ومكنته من الاستيلاء على نجد وجعلها تابعة لملكه الوهمي، فما زال
يكيد ويدس الدسائس لآل سعود حتى آل تحرشه بهم وإلحاده في الحرم إلى زحف
السلطان عبد العزيز آل سعود على الحجاز وإنقاذه من هذا الطاغوت الذي لقب
نفسه بالمنقذ ومن أولاده المفسدين.
كان هذا الزحف مغريًا لدعاة الملك حسين في مصر بتجديد الطعن في الوهابية
ومنبهًا لأذهان الناس، ومرغبًا لها في البحث عنهم، ومعرفة كنه حالهم وحال
حسين معهم، فرأينا أن من الواجب علينا أن نبين لهم ما عندنا من العلم بذلك في
جريدة يومية واسعة الانتشار، فأنشأنا بضع مقالات نشرناها في جريدة الأهرام
اليومية وفي مجلة المنار، كان لها من حسن الوقع والتأثير، ووقوف الجماهير على
حقيقة أمر الوهابية فوق ما كان ينتظر، فعلموا أن هؤلاء النجديين المنبوذين بلقب
الوهابية سُنِّيُّون مستمسكون بمذهب السلف في العقائد، وبمذهب الإمام أحمد بن
حنبل في الفروع، وأنهم أشد شعوب المسلمين في هذا العصر اتباعًا، وأبعدهم عن
الابتداع وارتكاب المعاصي، ولهذا كان نصر الله تعالى لسلطانهم على الشرفاء
عظيمًا، ولولا معرفة حالهم لكان استيلاؤهم على الحرمين الشريفين خطبًا أليمًا.
ولقد كان هذا النصر المبين مصداقًا لقول الله تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: ١٢٨) ولقوله {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧)
كما كان سرور المسلمين المستنيرين به دليلاً على أن الاستعداد للإصلاح الإسلامي
الحق بالتوحيد الخالص وترك البدع والخرافات والتقاليد الوراثية الباطلة قد صار
الآن أقوى مما كان في عهد النهضة الأولى للوهابية.
على أنه لا يزال للوهابية خصوم من أهل البدع والخرافات، ومن المنهمكين
في المعاصي والشهوات في مدن الحجاز، لأن حكومتهم منعت النوعين كليهما.
ولم يكن لهؤلاء حجج فيما مضى إلا الافتراء عليهم، وكان كثير من الناس
يصدقونهم فيهم لأنهم لم يعرفوا حقيقة حالهم، لأنهم يعيشون بمعزل، وقل أن يسافر
أحد إلى بلادهم، أما وقد أصبحوا في الحجاز فسيراهم الألوف من جميع الشعوب
الإسلامية في كل عام، ويستغنون عن التعريف بهم، وعن الشهادة لهم.
وقد رأيت أن أطبع طائفة من مقالات (الوهابيون والحجاز) في رسالة
مستقلة لأنها تعد فصلاً من فصول هذا الانقلاب التاريخي في الحجاز بل في الإسلام
ليطلع عليها بعض من لم يقرأها في الأهرام ولا في المنار، ففعلت وعلى الله
توكلت، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً} (الطلاق: ٣) .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار