للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: الجاحظ


الحنين إلى الأوطان
كتاب مختصر من أحسن كتب الأدب طلاوة، وأشدها حلاوة، وأرشقها
عبارة، وأجودها اختيارًا للآلئ الكلام المنثورة والمنظومة، وأطبعها لملكة البيان
في نفس الطالب، وذوق البلاغة من الشاعر والكاتب، وحسبك أنه لإمام أئمة
الأدب أبي عثمان الجاحظ، الذي نوه الزمخشري بمكانته العليا من البيان في
خطبتي كتابيه أساس البلاغة، والكشَّاف، وهاك هذا النموذج من أوله، قال بعد
البسملة:
إن لكل شيء من العلم، ونوع من الحكمة، وصنف من الأدب - سببًا يدعو إلى
تأليف ما كان فيه مشتتًا، ومعنى يحدو [١] على جمع ما كان متفرقًا، ومتى أغفل
حَمَلَة الأدب، وأهل المعرفة تمييز الأخبار، واستنباط الآثار، وضم كل جوهر
نفيس إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله، بطلت الحكمة، وضاع
العلم، وأُمِيت الأدب، ودَرَس مستور كل نادر، ولولا تقييد العلماء خواطرهم على
الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم، وضاع آخره، ولذلك
قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الآخر.
وإن السبب على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها،
وشوقها إلى تربها، وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقدَ النار في أكبادها أني
فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع [٢] إلى الأوطان،
فسمعته يذكر أنه اغترب من بلد إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه،
وأخصب من جنابه، ولم يزل عظيم الشأن، جليل السلطان، تدين له من عشائر
العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها [٣] وشجعانها، يقود الجيوش
ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه، أو راهب منه، فكان إذا ذُكِر
التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها [٤] ، وكان كما قال الشاعر:
إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نهبة للهماهم [٥]
حنينًا إلى أرض بها اخضر شاربي ... وحُلت بها عني عقودُ التمائم [٦]
وألطف قوم بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حق التقادم
وكما الآخر:
يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود [٧]
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقدمل السُّرى كل واخد [٨]
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطًا بسم الأساود [٩]
فقلت: لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى
مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة [١٠] ، وقالت الهند: حرمة بلدك عليك
كحرمة أبويك، لأن غذاءك منهما وأنت جنين - وغذاءهما منه، وقال آخر:
احفظ بلدًا رشحك غذاؤه، وارع حمى أكنك فناؤه، وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد
رضعت ماءه، وطعمت غذاءه، وكان يقال: أرض الرجل ظئره [١١] ، وداره
مهده، والغريب النائي عن بلده، المنتحي عن أهله، كالثور النادّ [١٢] عن وطنه،
الذي هو لكل رامٍ قنيصه، وقال آخر: الكريم يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى
غابه، وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه، ومحل رضاعه، كالعير [١٣] الناشط [١٤]
عن بلده، الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رامٍ دريئة [١٥] ، وقال آخر: تربة
الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة
وحفاوة [١٦] ، وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أمصك حلب رضاعه.
وقال آخر: إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى
أوطانه، وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية،
والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة
الرشدة [١٧] ، وطهارة الرشدة من كرم المحتد [١٨] ، وقال آخر: ميلك إلى مولدك، من
كرم محتدك، وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك،
وأنشد:
لقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسع في اغتراب [١٩]
وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاوٍ [٢٠] لا
يثمر، وذابل لا ينضر، وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب
الوطن - ولذلك قال أبقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع
لهوائها، وتنزع إلى عذائها، وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها، وقال
جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه - كما تتروح الأرض الجدبة ببلل
القطر.
والقول في حب الناس الوطن، وافتخارهم بالمحال قد سبق، فوجدنا الناس
بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم، ولذلك قال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم،
قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزقَ، وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب،
والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم [٢١] الريف حتى قال بعضهم:
أَتَجْلِينَ في الجالين أم تتصبري ... على ضيق عيش والكريم صبور
فبالمصر برغوث وحمى وحصبة ... وموم وطاعون وكل شرور [٢٣]
وبالبيد جوع لا يزال كأنه ... ركام بأطراف الأكام تمور [٢٤]
وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد
أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى حن إلى وطنه ومستقره
ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصه، ولكن
توخينا تدوين أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعارهم، وبالله التوفيق.
ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان قول الله - عز وجل - حين ذكر الديار
يخبر عن مواقعها من قلوب عباده فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} (النساء: ٦٦) ، فسوى بين قتل أنفسهم
وبين الخروج من ديارهم، وقال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة: ٢٤٦) وقال الأول: عَمَّر الله البلدان بحب
الأوطان، وكان يقال لولا حب الناس الأوطان لخربت البلدان، وقال عبد الحميد
الكاتب: وذكر الدنيا: نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان، وقالت الحكماء:
أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أبغضهم للكتاب، وأكرم الصفايا
أشدها ولهًا إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنينًا إلى أوطانها، وأكرم المهارى
أشدها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس.
وقال آخر: من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته
لأهل زمانه، واعتل أعرابي في أرض غربة فقيل له: ما تشتهي؟ فقال حِسل [٢٥]
فلاة وحسو [٢٦] قلات [٢٧] . وسئل آخر فقال: مخضًا [٢٨] رويًّا، وضبًّا مشويًّا،
وسئل آخر فقال: ضبًّا عنينًا أعور، وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك
أحفى بك، وقيل الغربة كربة، والقلة ذلة، وقال:
لا ترغبوا إخوتي في غربة أبدا ... إن الغريب ذليل حيثما كانا
وقال آخر: لا تنهض عن وكرك فتنغصك الغربة، وتضيمك الوحدة، وقال
آخر: لا تجف أرضًا بها قوابلك [٢٩] ، ولا تشك بلدًا فيه قبائلك، وقال أصحاب
القيافة [٣٠] في الاسترواح: إذا أحست النفس بمولدها؛ تفتحت مسامها فعرفت
النسيم.
وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه، كما يحن النجيب [٣١] إلى عطنه، وقال:
كما أن لحاضنتك حق لبنها، كذلك لأرضك حق وطنها، وذكر أعرابي بلده فقال:
رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني
أحساؤها [٣٢] ، وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم [٣٣] الذي ثكل [٣٤] أبويه، فلا أم
ترأمه [٣٥] ، ولا أب يحدب عليه [٣٦] ، وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك؛ فلا
تنس نصيبك من الذل، قال الشاعر:
لعمري لَرهط المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كل مركب
إذا كنت في قوم عِدًا لست منهم ... فكل ما عُلفت من خبيث وطيب [٣٧]
وفي المثل أوضح من مرآة الغريبة - وذلك أن المرأة إذا كانت هديًا في غير
أهلها تتفقد من وجهها وهيئتها ما لا تتفقده وهي في قومها وأقاربها - فتكون مرآتها
مجلوة تتعهد بها أمر نفسها وقال ذو الرمة:
لها أذن حشر وذفرى أسيلة ... وخد كمرآة الغريبة أسجح [٣٨]