للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو حامد الغزالي


سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين
(تابع لما في الجزء السابع وما قبله)
قال في الإحياء: وعن أبي عمران الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد
الخلافة زاره العلماء فهنأوه بما صار إليه من أمر الخلافة؛ ففتح بيوت الأموال
وأقبل يجزيهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر
النسك والتقشف، وكان مواخيًا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديمًا فهجره
سفيان ولم يزره؛ فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ
بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هارون فكتب إليه كتابًا يقول فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان
ابن سعيد بن المنذر أما بعد، ياأخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين
المؤمنين، وجعل ذلك فيه وله، واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبك ولم
أقطع منها ودك، وأني مُنْطَوٍ لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة
التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوًا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد
الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه،
وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به
عيني، وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت إليك كتابًا شوقًا مني إليك شديدًا، وقد
علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليك
كتابي فالعجل العجل) .
فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته
فقال: علي برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني فقال: يا عباد
خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن
سفيان الثوري، فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه، وعِ بسمعك وقلبك جميع ما
يقول، فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به. فأخذ عباد الكتاب وانطلق به
حتى ورد الكوفة، فسأل عن القبيلة فأرشد إليها، ثم سأل عن سفيان فقيل له: هو في
المسجد، قال: فأقبلت إلى المسجد، فلما رآني قام قائمًا وقال: أعوذ بالله السميع
العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال عباد:
فوقعت الكلمة في قلبي فخرجت، فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن
وقت صلاة؛ فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت، فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا
رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما
رفع أحد رأسه وردوا السلام عليَّ برؤوس الأصابع، فبقيت واقفًا فما منهم أحد يعرض
عليَّ الجلوس، وقد علاني من هيبتهم الرعدة، ومددت عيني إليهم فقلت: إن
المصلي هو سفيان، فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية
عرضت له في محرابه؛ فركع وسجد وسلَّم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه
فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال يأخذه بعضكم يقرؤه؛ لأني أستغفر الله أن
أمس شيئًا مسه ظلاَّم بيده، قال عباد: فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية
تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته قال:
اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو
كتبت إليه في قرطاس نقي، فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه
من حلال فسوف يُجْزَى به وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يَصْلَى به ولا يبقى
شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا، فقيل له: ما تكتب، فقال: اكتبوا.
(بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري
إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سُلِبَ حلاوة الإيمان. أما بعد، فإني
قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك، فإنك
قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت
مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترضَ بما فعلته
وأنت ناءٍ عني حتى كتبت إليَّ تشهدني على نفسك، أما إني قد شهدت عليك أنا
وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدًا بين يدي الله تعالى،
يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة
قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟
أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام؟ أم هل رضي بذلك خلق
من رعيتك؟ فشدَّ يا هارون مئزرك وأَعِدَّ للمسألة جوابًا وللبلاء جلبابًا، واعلم أنك
ستقف بين يدي الحَكَم العَدْل فقد رُزِئْتَ في نفسك إذ سُلِبْتَ حلاوة العلم والزهد ولذيذ
القرآن ومجالسة الخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالمًا وللظالمين إمامًا. يا هارون
قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت سترًا دون بابك وتشبهت بالحجبة
برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك يظلمون الناس ولا
ينصفون، يشربون الخمور ويضربون من يشربها، ويزنون ويحُدُّون الزاني،
ويسرقون ويقطعون السارق، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها
على الناس؟ فكيف بك يا هارون غدًا إذا نادى المنادي من قِبَل الله تعالى:
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات: ٢٢) أين الظلمة وأعوان الظلمة؟
فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك،
والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هارون وقد أخذت
بضيق الخناق ووردت المشاق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات
غيرك في ميزانك زيادة على سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة. فاحتفظ
بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك
في النصح غاية، فاتق الله يا هارون واحفظ محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته،
وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك، وهو
صائر إلى غيرك، وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحدًا بعد واحدٍ، فمنهم من تزود زادًا
نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه
وآخرته، فإياك أن تكتب لي كتابًا بعد هذا فلا أجيبك عنه , والسلام) .
قال عَبَّادٌ: فألقى إليَّ الكتاب منشورًا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت
إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي، فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني،
فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله؟ فأقبلوا إليَّ بالدنانير
والدراهم فقلت: لا حاجة لي في مال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال:
فأوتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين،
وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين
هارون حافيًا راجلاً فهزأ بي من كان على باب الخليفة، ثم استؤذن لي فلما دخلت
عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائمًا وجعل يلطم رأسه ووجهه
ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسِل ما لي وللدنيا ما لي
ولملك يزول عني سريعًا، ثم ألقيت الكتاب إليه منشورًا كما دفع إلي فأقبل هارون
يقرأه ودموعه تنحدر من عينه، ويقرأ ويشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير
المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن
كنت تجعله عبرة لغيره، فقال هارون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور مَنْ
غررتموه، والشقي من أهلكتموه، وإن سفيان أمة وحده، فاتركوا سفيان وشأنه. ثم
لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرأه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله.
فرحم الله عبدًا نظر لنفسه واتقى الله في ما يقدم عليه غدًا من عمله فإنه عليه يحاسب
وبه يجازى، والله ولي التوفيق.
وعن عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أيامًا، ثم
ضرب بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج، فجلس بالكناسة
والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقبلت هوادج هارون، فكف الصبيان عن الولوع
به، فلما جاء هارون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين. فكشف هارون السجاف
بيده عن وجهه، فقال: لبيك يا بهلول، فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل
عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفًا من
عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، وتواضعك في سفرك
هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هارون حتى سقطت
دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله، قال: نعم يا أمير
المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله، وعف في جماله، كُتب في
خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار، قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة فقال:
اردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك
دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت
آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز، قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو
يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء، ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت
من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني، قال: فأسبل هارون السجاف ومضى.
(ثم قال في الإحياء بعد نصيحة للمأمون) :
وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال: كان أبو الحسن النوري رجلاً قليل
الفضول لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكرًا
غَيَّرَه ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة [١] تعرف بمشرعة الفحامين،
يتطهر للصلاة إذ رأى زورقًا فيه ثلاثون دَنًّا مكتوب عليها بالقار: (لطف) فقرأه
وأنكره؛ لأنه لم يعرف في التجارات ولا في البيوع شيئًا يعبر عنه بلطف، فقال:
للملاح: إيش في هذه الدنان؟ قال: وإيش عليك امض في شغلك. فلما سمع النوري
من الملاح القول ازداد تعطشًا إلى معرفته، فقال له: أحب أن تخبرني إيش في
هذه الدنان، قال وإيش عليك، أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد، يريد
أن يتمم به مجلسه. فقال النوري: وهذا خمر؟ قال: نعم، قال: أحب أن تعطيني
ذلك المدرى. فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه حتى أنظر ما يصنع، فلما
صارت المدرى في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دنا دنا حتى أتى على
آخرها إلا دنا واحدًا والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الجسر [٢] ، وهو يومئذ
ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد
سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس في أنه سيقتله. قال أبو الحسن: فأُدْخِلْتُ عليه
وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه، فلما رآني قال: من أنت قلت:
محتسب [٣] , قال: ومن ولاَّك الحسبة، قلت: الذي ولاَّك الإمامة ولاَّني الحسبة يا
أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليَّ، وقال: ما الذي
حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه
عنك قد قصرت عنه، قال: فأطرق مفكرًا في كلامي، ثم رفع رأسه إليَّ وقال:
كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان؟ فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير
المؤمنين إن أذن، فقال: هات أخبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقدمت على
الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك، وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف
المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحالة إلى أن صرت إلى هذا
الدن فاستشعرتْ نفسي كبرًا على أني أقدمت على مثلك. فمنعت، ولو أقدمت عليه
بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال، فقال المعتضد: اذهب فقد
أطلقنا يدك، غَيِّرْ ما أحببت أن تغيره من المنكر، قال أبو الحسن: فقلت: يا أمير
المؤمنين بَغُضَ إليَّ التغيير؛ لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن
شرطي، فقال المعتضد: ما حاجتك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالمًا،
فأمر له بذلك، وخرج إلى البصرة فكان أكثر أيامه بها خوفًا من أن يسأله أحد حاجة
يسألها المعتضد، فأقام بالبصرة إلى أن توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
فهذه كانت حالة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة
مبالاتهم بسطو السلاطين، لكنهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا
بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة. فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب
القاسية فَلَيَّنَهَا وأزال قساوتها، وأما الآن فقيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن
تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا،
ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء
حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل
فكيف على الملوك والأكابر؟ والله المستعان على كل حال اهـ.
(المنار)
هذا كلام الإمام الغزالي في ملوك عصره وعلمائه وهم الذين يفتخر أهل هذا
العصر بهم، فكيف حال ملوك عصرنا وعلمائه والذين أضاعوا الدنيا والدين،
وجعلوا المسلمين بظلمهم وفسادهم في أسفل سافلين؟ ولا نطيل هنا في وصفهم
فحسبك ما تقرأ في المقال الآتي، ولكننا نقول: إن الزمان لا يخلو من العلماء
المخلصين، وهؤلاء هم الذين ندعوهم إلى نصيحة ملوكنا وأمرائنا قبل أن يضيعوا
هذه البقية القليلة التي بقيت لنا، فالخطر قريب إن لم يتداركوه نزل، والعياذ بالله
تعالى.