للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الحرب العثمانية البلقانية)
ذكرنا في الجزء الماضي أن دول البلقان الأربع - البلغار والصرب
واليونان والجبل الأسود - قد اتحدن واتفقن على قتال الدولة العثمانية إلا أن تجيبهن
إلى ما يطلبن من استقلال الولايات المقدونية في إدارتها وجعلها تحت مراقبتهن
ومراقبة الدول الكبرى. وأن الجبل الأسود أعلن الحرب على الدولة، وأن الدول
الثلاث الأخرى سيتبعنه في ذلك. وقد كان.
بعد إعلان الجبل الأسود للحرب قدم (غشوف) رئيس نظار حكومة البلغار
وناظر الخارجية والمذاهب فيها بلاغًا إلى وكيل أشغال الدولة العثمانية ليرفعه إلى
دولته وفحواه أن حكومته وحكومتي اليونان والصرب (ولم توقع البلاغ معهن
حكومة الجبل الأسود لسبقها بإعلان الحرب) ترى من الواجب عليها أن تخاطب
الحكومة العثمانية مباشرة بالرغم من مساعي الدول الست الكبرى في شأن الإصلاح
في الولايات الأوربية العثمانية - وتطلب منها تصريحًا بتنفيذ إصلاحات حقيقية
يكفل حقوق نصارى تلك الولايات، ويحفظ السلم بين السلطنة العثمانية والحكومات
البلقانية التي كثيرًا ما سلكت الحكومة العثمانية معها مسلك تحكم وغطرسة لا مسوغ
له. فهذه الحكومات تطلب من حكومة الباب العالي الاتفاق مع الدول ومعهن حالاً
على الإصلاح المشار إليه في المادة ٢٣ من معاهدة برلين بأن تمنح ولاياتها
الأوروبية الاستقلال الإداري، وأن يعين لهذه الولايات حكام عموميون من
البلجيكيين والسويسريين (أي الأوربيين الذين لا مطمع لحكوماتهم في استعمار
هذه الولايات ولا غيرها) ومجالس عمومية منتخبة وشرطة وشحنة، وأن يكون
التعليم فيها حرًّا. وأن يعهد في إنفاذ هذه المطالب إلى جماعة من المسيحيين
والمسلمين تنتخب بالمساواة تحت مراقبة الدول وسفراء حكومات البلقان الأربع في
الآستانة.
ثم إن حكومات البلغار واليونان والصرب تطلب من الدولة أن تصرح بقبول
هذه المطالب ومطالب الذيل الملحق بهذا البلاغ، وتتعهد بتنفيذها في مدة ستة أشهر
وأن تصدر أمرًا بمنع حشد الجيوش ليكون دليلاً على الرضا والقبول.
هذا ملخص البلاغ. وأما الذيل الملحق به فهذه ترجمته:
الأول - تأبيد استقلال العناصر في السلطنة مع كل ما يتبعه.
الثاني - تمثيل كل عنصر في السلطنة في مجلس النواب تمثيلاً يكون متناسبًا
مع عدده.
الثالث - قبول المسيحيين في كل المناصب في الولايات التي يسكنها
المسيحيون.
الرابع - اعتبار مدارس الطوائف المسيحية كالمدارس الأميرية نفسها في
البلاد العثمانية.
الخامس - أن تتكفل الحكومة العثمانية بعدم تغيير مركز العناصر في تلك
الولايات، وذلك بمنع نقل المهاجرين المسلمين إليها.
السادس - استخدام الجنود في ولاياتهم مدة الخدمة العسكرية وإنشاء فرق
مستقلة من المسيحيين وتوقيف التجنيد من الآن إلى أن يجاب هذا الطلب.
السابع - إنشاء الشرطة (الجندرمة) في ولايات تركية أوروبة بقيادة ضابط
من البلجيكيين أو من السويسريين.
الثامن - تعيين ولاة من البلجيكيين أو السويسريين في الولايات التي يقطنها
المسيحيون يكونون معروفين للدول يعاونهم مجلس عمومي ينتخبه أهل الأقضية.
التاسع - إنشاء لجنة عالية في الصدارة تعين من المسيحيين والمسلمين
بالتساوي يعهد إليها مراقبة هذه الاصطلاحات ويراقب السفراء ووكلاء حكومات
البلقان أعمال هذه اللجنة. انتهى.
(المنار)
يرى القارئ أن هذا البلاغ قد كتب لأجل إثارة الفتنة وإيقاد نار الحرب لا
لأجل أن يُقبل، فإنه كتب بمداد الإهانة للدولة ممن كانوا بالأمس رعية أو عبيدًا لها
فأعتقتهم لتستريح من شرورهم وانتصار دول أوربة الكبرى لهم، فإنهم لم يكتفوا
فيه بطلب انتزاع الولايات الأوروبية منها حتى جعلوا أنفسهم مسيطرين عليها في
سائر تصرفاتها وأعمالها ومن ثَمَّ اضطرت إلى ترك الجواب عن هذا البلاغ مقابلة
للإهانة والاحتقار بمثلهما مع طلب الاعتذار عنه، ثم إلى قطع الصلات السياسية
بينها وبين البلغار والصرب. وأعلنت الحرب ودخلت فيها اليونان أيضًا.
يظهر أن دولتنا أصلح الله حالها لم تبادر إلى أخذ الحذر وتعبئة الجيش، من
بدء ظهور ناجذي الشر، وكأنها كعادتها اتكلت على أوروبة ظانة أنها تمنع دول
البلقان من الحرب، أو على ما تعهد بين البلقانيين أنفسهم من المنافسة والتنازع،
ولم تعتبر بما كان من المبعوثين العثمانيين من هذه العناصر إذ اتحدوا في المجلس
على حين كان زعماء الاتحاديين يجدُّون في التفريق بين مسلمي العثمانيين،
بإهانتهم وقتالهم للعرب والألبانيين، فأخبار مواقع القتال تفيد رجحان البلقانيين على
العثمانيين في كل مكان. ولكننا إلى وقت كتابة هذه النبذة (فى العشر الأواخر من
هذا الشهر) لم نصل إلى حد اليأس.
أول أسباب ما أصابنا من الخذلان في هذه الحرب عدم الاستعداد لها كما
يجب، وهذه أكبر سيئات جمعية الاتحاد والترقي التي كانت مجهولة لنا، ومن
أسبابه العسكرية المعروفة إفسادها كثيرًا من الضباط بالسياسة، وإخراج كثيرين منه
؛ لأنهم على غير سياستها، وتولية آخرين منهم للأعمال الإدارية لتأييد سلطتها في
البلاد، وإضعاف روح الدين في الجيش، والثقة بنصارى العناصر المحاربة الذين لم
يدخلوا الجيش إلا كارهين، فهم ينافقون للدولة، ويخذلونها في وقت الشدة، وقد كتبنا
في هذا الجزء مقالة في سياسة هذه الحرب وأسبابها وعواقبها وسنبين في جزء آخر
وجوه العبرة في هذه الأمور التي أشرنا إليها هنا وغيرها من شئون هذه الحرب
إن بقي فينا من يعتبر، وبقي مجال لعمل المعتبرين إن وُجدوا. وإلى الله المَفْزع والمصير، وهو على كل شيء قدير.
* * *
(إعانة المصريين للحرب)
ما كادت تظهر الشرارة الأولى للحرب حتى هب المصريون إلى جمع
الإعانات لإعانة الدولة عليها. فاجتمعت لجنة الإعانة التي كانت أُلِّفت لأجل الحرب
الإيطالية في طرابلس الغرب وبرقة في قصر المرحوم رياض باشا (تذكارًا
لمساعيه النافعة) تحت رياسة الأمير الجليل عمر باشا طوسون وحضرها رئيس
الشرف صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق سمو الخديو المعظم، وألقى
فيها خطبة مؤثرة، فجمعت طائفة من المال. واجتمعت جمعية الهلال الأحمر أولاً
برياسة الشيخ على يوسف وخطب فيها بعده (الله بخش) الهندي السائح وصاحب
هذه المجلة في الحث على جمع المال. ثم قبل صاحب الدولة الأمير الكبير محمد
علي باشا شقيق عزيز مصر المعظم رياستها، وأعد في حديقة داره دعوة إلى
عصرية الشاي حضرها الجم الغفير من الوجهاء وتبرعوا هنالك بزهاء عشرة آلاف
جنيه منها بضعة آلاف دفعت في الحال. وقد شكرت الجماهير، كما نشكر
لهذا الأمير الجليل وللأمير عمر باشا طوسون والأمير يوسف باشا كمال رئيس اللجنة
التنفيذية لجمعية الهلال الأحمر غيرتهم وهمتهم. وعندي أن مصر قد دخلت في
طور جديد من الحياة الاجتماعية بتولي أمرائها لرياسة الأعمال والمصالح العامة
فيها.
* * *
(إعانة الحرب في بمباي الهند وغيرة العرب على الدولة)
جاءني من صديقي المحسن الشهير والسري الكبير الشيخ قاسم محمد آل
إبراهيم كبير تجار العرب وسرواتهم في بمباي ومن غيره من فضلاء العرب فيها
خبر تأثير الحرب البلقانية هنالك ووقعها الشديد من نفوس المسلمين عامة والعرب
خاصة وإقبالهم على جمع المال للإعانة الحربية.
اجتمع تجار العرب عند زعيمهم الشيخ قاسم إبراهيم واتفقوا على جمع الإعانة
فاجتمع لديهم في يومين فقط مئة وستون ألف روبية، وكان القدوة الحسنة لهم في
البذل الشيخ قاسم وابن أخيه السخي الكريم الشيخ عبد الرحمن إبراهيم. ووعدنا
بعض الكاتبين بإرسال كشف بأسماء جميع الباذلين ومقدار ما بذلوه.
وقد اجتمع مسلمو بمباي لهذه الغاية الشريفة في نادي (انجمن إسلام) فجمعوا
أولاً ثمانية آلاف روبية فقط. ثم رغبوا إلى كل من الرجلين العظيمين الشيخ قاسم
آل إبراهيم والسر كريم باي إبراهيم (وهو من سروات بمباي وزعماء فرقة
آغاخان) في رئاسة لجنة الإعانة لمسلمي الهند في بومباي فقبلا ذلك، وتبرع كل
منهما بعشرين ألف روبية وتبعهما أهل النجدة والسخاء فاجتمع لديهم مائة ألف
روبية وخمسة عشر ألف روبية وتقرر أن يجتمعوا مرة أخرى بعد أسبوع.
وجملة ما دفعه تجار العرب إلى يوم ١٣ ذي القعدة الحاضر ٠٠٠. ١٨٠
روبية، وهي تساوي اثني عشر ألف جنيه إنكليزي. وجملة ما دفعه مسلمو بومباي
من الهنديين يساوي سبعة آلاف وستمائة جنيه. وقد دفع الشيخ قاسم إبراهيم وحده
أربعين ألف روبية من ذلك، وقد كتب إلينا بعض العرب بيان ما دفعوه سيضاعف
قريبًا. ولا شك أيضًا في مضاعفة ما يدفعه إخوانهم الهنديون؛ لأن السخاء العربي
لا يناسبه إلا سخاء مسلمي الهند.
وإنا لننتظر أن نسمع ما هو أكبر من ذلك عن سخاء العرب من جهة السيد
الكريم سلطان مسقط وآله الكرام وأهل بلاده، ومن الزعيم العربي الكبير العثماني
الغيور الشيخ مبارك الصباح وأهل الكويت ومن الأمير الكبير شيخ البحرين وتجار
تلك الجزيرة الأخيار ومن غيرهم من أهل الخليج الفارسي والعراق وسائر البلاد
العربية.
* * *
(الصلح بين الدولتين العثمانية والإيطالية)
كانت وزارة سعيد باشا الاتحادية أرسلت مندوبين إلى أوربة لأجل المذاكرة
مع مندوبي إيطالية في شروط الصلح في مسألة طرابلس الغرب وبرقة. وقد
سقطت وزارة سعيد باشا وخلفتها وزارة الغازي أحمد مختار باشا قبل أن يتفق
الفريقان على شيء فكانت هذه الوزارة تصرّ على اشتراط بقاء سلطة الدولة على
ذلك القطر بالفعل حتى تحفزت دول البلقان لقتال الدولة ورأت الوزارة أن
التجهيزات العسكرية التي كان الاتحاديون يمنون بها على الأمة غير كافية لمناجزة
البلقانيين، فكيف إذا كانت معهم دولة من الدول الكبرى كإيطالية. فاضطرت إلى
عقد الصلح مع إيطالية.
فساء هذا الصلح جميع العالم الإسلامي كما نعتقد سواء منهم من عرف عذر
الدولة ومن لم يعرف , ويقال: إن السنوسيين وبعض الضباط العثمانيين مصرون
على مواصلة القتال وعدم الخضوع لإيطالية، واختلفت الرواية عن القائد الشهير
(أنور بك) في هذا الأمر. فإذا صح خبر الثبات على المقاومة يثبت عند العرب
صدق أولئك الضباط، ومن صحبوا من الخطباء لتحريض العرب على الدفاع عن
بلادهم عملاً بأحكام الدين، وغيرة على الإسلام والمسلمين، ومن نكص على عقبيه
يظهر لهم أنه منافق جاء ليشتري بدمائهم عرضًا قليلاً للدولة، وستكشف الأيام
الحقيقة. وإن لنا لعودة إلى هذه المسألة.