للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ما يسمى النهضة النسائية بمصر

وعدنا بأن نكتب شيئا في هذا الموضوع , فإن فساد النساء الذي يسميه دعاة
الإلحاد والإباحة نهضة تجديد قد تفاقم , واستشرى في هذه السنين حتى صار
العقلاء من أهل الدين , والصيانة يخشون أن يفضي في أقرب وقت إلى هدم بناء
الأسر والفصائل (العائلات) التي تتألف منها وحدة من الشعب المصري , وذهاب
ما بقي من مقوماته القومية والملية وذهاب الثروة والصحة في أثرها , وقد كنت
أتربص فرصة فراغ أبين فيها هذه الحقائق بعبارة لا تهيج عليَّ زنابير السفهاء
حماة هذا التجديد حتى رأيت المقالة الرابعة من سلسلة مقالات تنشرها في جريدة
السياسة نفسها امرأة أوربية فاضلة اهتدت إلى الإسلام، فإذا هي قد وصفت المرأة
المصرية بعد الاختبار وصفًا لم ينكر أحد عليها شيئًا منه للطفه واعتداله , فرأيت
أن أنشره بنصه , وهو:
المرأة المصرية
أتيت في مقالي السابق على ما كان للمرأة المسلمة من الشأن , وتنقلت بها في
جميع الأدوار التي مرت بالإسلام منذ بدئه إلى هذا العهد.
إلا أن لي كلمتين أقولهما عن المرأة المصرية في هذا العصر، وأختم كلامي
عن المرأة.
ولكي أقوم بهذا التحليل الذي أرجو أن يكون من ورائه فائدة لكل أخت
مصرية مسلمة؛ أرجو أن يقابل كلامي بشيء من روح التسامح، وأن ينظر إليه
نظرة ودية إصلاحية لا انتقادية عدائية.
فلتعذرني إذن القارئة إذا كنت أجرؤ على القول بأني لم أجد في المرأة
العصرية في مصر ما أستطيع أن أشيد بذكره , أو أتغنى بمحاسنه.
فكم كنت أتمنى أن أراها آخذة في دور الرقي الحقيقي , والحضارة الصحيحة
المؤسسة على روح الدين , وحب الفضائل والآداب الإسلامية التي لم أجد فيها ما
يحول دون التقدم المنشود , والتمشي مع التطور الاجتماعي كما أقمت الدليل على
ذلك فيما أسلفت من مقال , وقبل أن أبدأ في شرح وجوه النقص في التربية
الأخلاقية الحاضرة، أرى أن أقسم المرأة في مصر إلى ثلاث طبقات، أتكلم عن
كل طبقة بما استطعت أن أراه وأشهده، فإن رأى القارئ مني خطأ؛ فليتراكم
بتصحيحه , أو شططًا فليعذرني , وينبهني.
***
طبقة العامة
أستطيع أن أقول بوجه عام: إن هذه الطبقة من النساء لم تمتد إلى رؤوسهن
بعد يد العلم والتهذيب , ولا ما عداها من الفنون العادية أو الجميلة , وقليل منهن من
تفهم , أو تدرك معنى من معاني الرابطة الزوجية , أو التربية العائلية يخيم على ربوع
تلك الفئة الجهل المطبق بأبسط شؤون الحياة.
كما أنهن بعيدات كل البعد عن معرفة أمور دينهن حتى أكثرها بساطة
وسهولة! ! وتكاد نساء هذه الطبقة لا يفهمن من العيش أكثر من التمتع باللذتين على
نحو ما تعيش العجماوات في الغابات!
وما كانت كذلك البدوية الساذجة؛ فقد كان من بينهن من تقرض الشعر ,
وتستظهر القرآن , أو بعضًا منه , ولو كانت أمية، وكن على تمام التمسك بالدين
وآدابه , وتأدية فرائضه.
وما هكذا نساء هذه الطبقة في أوربا , فجلهن - إن لم أقل كلهن - يعلمن
القراءة , والكتابة ومبادئ الحساب والتاريخ والجغرافيا وغيرها.
حتى لتراهن يزاحمن الرجال في ميادين الخدمة , والأعمال الكتابية البسيطة.
فأين أختنا المصرية في هذه الطبقة من ربيبتيها العربية والأوربية!
***
(الطبقة المتوسطة)
أخذ أكثر فتيات هذه الطبقة بقسط من الثقافة والتهذيب , وكثيرات منهن
الآن يعرفن القليل من الموسيقى , وغيرها من الفنون الجميلة، وأرى أن هذا القدر
من التعليم يكفي لأن يجعل من الفتاة زوجة تعرف كيف ترضي بعلها، وأُمًّا
صالحة لتربية طفلها , وأغلب نساء هذه الطبقة يفهمن من آداب المجالس واختيار
الأحاديث , وإن كان لا يزال من بينهن من قد يحملك مجلسها على الملل في
بعض الأحيان خصوصًا إذا كانت من عشاق (المودة) والأزياء!
وفتاة هذه الطبقة لا تخلو من العلم بالمبادئ الدينية , وإن كانت الأغلبية قد
انصرفت عنها , وأخذت في التهاون والتفريط! ...
إني لأقنع من المرأة الشرقية بهذا النصيب من الثقافة , وإن تفوقت عليها
الغربية في هذا المضمار، وأرى أن المسلمة في القرون الأولى لم تكن تفوق فتاة
هذه الطبقة علمًا وتهذيبًا , وإن سبقتها إلى الفضيلة والدين.
***
(الطبقة الراقية)
يجب أن أكون شجاعة إلى حد ما حتى أستطيع أن أخاطب صراحة نساء هذه الطبقة.
لا أنكر على الفتاة الراقية في مصر ما أحرزته من العلم والتهذيب , ولا كيف
تستطيع أن تنقل أناملها الرقيقة فوق (بلابل) البيانو , وأوتار العود! ... ولا
يستطيع بصري أن يأخذ به بريق لآلئها البحرية، التي تخشع أمام در ثناياها اللؤلؤية,
ولا يمكنني أن أنكر عليها رشاقتها , وخفة حركاتها، ولا رطانتها بالفرنسية
والطليانية كأنها إحدى بنات روما والسين، ولا أقوى على مباراتها في تموجاتها فوق
مراقص (هليوبليس) ، و (جروبي) على نغمات (التانجو والشالستون) .
كل ذلك يا سيدتي العظيمة لا قبل لي على إنكاره والمكابرة فيه , فأنت قد
أصبحت أوربية؛ أوربية قلبًا وقالبًا، عادة ولسانًا، رشاقة وفتنة؛ ولكن اسمحي لي
كمسلمة أن أسألك بالله , ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أين إلى جانبك هذا
كله.. التمسك بالدين وتعاليمه! ..
قد انتهيت من التقسيم , ولكن بقي لي كلمة إجمالية أقولها بصراحة، وأرجو
أن أرى لي بعدها مشجعات لا ناقمات.
ها أنا (ذا) قد استعرضت أمامك يا سيدتي المصرية صورتك في طبقاتك
الثلاث؛ فلم أر الدين , ولا لآدابه في أخلاقكن أثرًا، وكأنه الكابوس على النفوس،
وكأني بكن تتمثلنه شبحًا مخيفًا مزعجًا يريد أن يهوي بكن إلى الظلمات , أو يرجع
بكن إلى عهد البرابرة والوحوش.
وإلا فأين تلك المرأة التي كانت لا تخرج من خدرها إلا نادرًا، ولا تزور
غيرها إلا غبًّا، وإن برزت في الأسواق فعلى صورة , وفي زي يخشع له نظر
الفاجر، ويرق له قلب العابد، ويكبره ويجله شباب الرجال قبل شيبهم؟؟
أين ذلك العصر الذي كانت فيه المساجد عامرة زاخرة بالمصليات الخاشعات
في مقاصير أفردت لهن خاصة في بيوت الله؟
أين تلك المرأة التي كانت إذا جلست من الرجل مجلسًا ملأت قلبه خشوعًا ,
وإجلالاً، وألقت عليها بنظراتها الطاهرة البريئة دروسًا بالغة في العفة.
بيض غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
دالت دولة تلك المرأة المتعففة الفاضلة، وأصبحت لا ترى في الأسواق إلا
كل بارزة النهدين، مزججة الحاجبين، مكحولة العينين، دامية الشفتين، عارية
السواعد والسيقان، متمايلة في مشيتها، مداعبة في نظرتها، متراخية متكاسلة،
حركتها تطمع، ونظراتها توقع، ثم دعك قليلاً من الطريق، وادخل معي دكانًا من
الدكاكين (الكبيرة) , وانظر هل ترى إلا بحرًا زاخرًا من الأجسام النسائية،
وسواعدَ ونهودًا وصدورًا عارية وضحكات كأنها نغمات الموسيقى أو أحلى، تستوي
في ذلك كله الثلاث الطبقات.
وأسمع أن هناك جمعيات نسائية، غير أني لم أر مع الأسف أثرًا جديًّا في
سبيل نهضة المرأة المصرية , والرجوع بها إلى حظيرة الفضيلة والدين، وصونها
عن التبذل والخلاعة، وإلا فمن من الرجال لا يشكو اليوم إسراف زوجه , وبناته في
الملبس والمسكن واقتناء الحشم، ومن منهم لا يشكو كثرة الخروج , والزيارات
وإنفاق الأموال في الملاهي والسياحات؟
وأين الفتاة أو والد الفتاة اللذان لا يشكوان إعراض الشبان عن الزواج
ورغبتهم عن البنات؟ وأين الكتَّابُ والأُدَبَاءُ والشعراء الذين يحضون بكتاباتهم
وخيالهم وأشعارهم على حب الفضيلة والعفة والتمسك بآداب الدين؟ ثم أين
المجتمع والخطباء الذين يبينون مواضع الضعف الأخلاقي وعلاجه ويرشدون
إلى مواطن الفضيلة والشرف؟
إني لا أرى الغرب يكتسح بمدنيته الخداعة كل ما بقي في هذه الديار من آثار
التقى , وآداب القرآن، وأرى النفوس تستعذب هذا الطريق , وتستمرئه، وتصبو
إلى المزيد منه , والتمادي فيه!
لم تتعلم المصرية من الغربية حب الاقتصاد , والتدبير في المنزل، ونظافة
الداخل، وتربية الأطفال؟
لم تقلدها في القبيح، وتقف جامدة أمام الحسن المليح؟
لِمَ لَمْ تنقل عنها خروجها يوم الأعياد والآحاد إلى المعابد والهياكل تصلي
وتذكر ربها قبل أن تنصرف إلى أماكن اللهو والنزهة.
وما لنا لا نبتدع إن كنا قد شغفنا بحب تقليد الغربيين إلى هذا الحد أناشيد
دينية , وألحانًا أخلاقية مستعيضين بها عن تلك (الطقاطيق) السخيفة المبتذلة تثير
في القلوب نشوة الدين، وتحث على التمسك بالفضيلة، وتزجر عن التمادي في
التبذل والغواية؟
ثم ما لنا لا نعمر بيوت الله بذوي الأصوات الشجية يرسلون مثل تلك الأناشيد
الدينية والأخلاقية على مسامع الشبان والفتيات قبل أو بعد الصلاة [١] ؟ وليس فينا من
يجهل تأثير النغمات على النفوس، ولعب الصوت الحسن بالقلوب , والعقول؛ فتنمو
فينا بذلك روح الطهر , وتزكو النفس، وتتهذب بالأخلاق، وتسمو بالرجل والمرأة
إلى أعلى مراتب الفضيلة!
سيدتي! الأخلاق الأخلاق، الفضيلة، العفة، كل أولئك لا تجدينه إلا في
دينك، ولا يمكن أن تري لك منزلة عالية في القلوب قبل المكانة التي تنشدينها في
المجتمع إلا بعد أن تتفهمي ما انطوى عليه دينك من حكمة عالية، وآداب سامية.
سيدتي؛ اعملي على تقويم الأخلاق، وأحبي الدين , والشريعة، وحضي
على التمسك بهما، ثم دعي بعد ذلك المرأة تخرج سافرة , أو مقنعة، تخالط الرجال ,
وتمشي في الأسواق، فلن تقع عيناك إلا على كل فاضلة عفيفة، ثم انظري هل
ترين رجلاً يبغي الزواج من اثنتين، أو شابًّا راقيًا يفضل عيش العزوبة على
الزواج من فتاة طاهرة نقية، أو حياة زوجية لا تسودها السعادة , ولا الهناء؟ ثم
انظري وانظري! ..
ألا إنما المرأة كشجرة، فاسقوها بماء الفضيلة وغذوها ببذور العفة واجتثوا
منها - وهي ناشئة - جراثيم التبذل والرذيلة، وأنموها على التقوى ومبادئ الدين،
فالمرأة إن سَمَتْ كانت مخلوقًا سماويًّا يوحي إلى الرجل كل عزيمة، ويبث في قلبه
روح التضحية وغيرة الرجولة وعبقرية العظماء.
فإن أحبت - ولست أجهل ما في الحب من سر قدسي - فهو عذري طاهر
كحب ليلى وقيس، وحب معنى لا مبنى، وهيام روح طاهرة إلى روح طاهرة
تجانسها , وتكمل ما فيها من نقص , لا حب بهيمي إرضاء لغريزة الحيوان.
فإن تزوجت فزوجة كخديجة تناصر زوجها وتؤازره، وإن أنجبت فبأمثال
عمر وعلي، وإن جلست من الرجال؛ فمجلسًا كمجلس عائشة.
وإن عملت فعلى طراز خالدة أديب التي قدم لها رجال تركيا كرسي وزارة
المعارف اعترافًا منهم لها بفضلها ويدها على النهضة التركية.
لا أريد لمصر امرأة كالتي قيل فيها: إنها أحبولة الشيطان , أو واحدة من
ثلاث من تجارة إبليس.
إنما أريد المرأة الطاهرة السماوية التي يخشع أمامها قلب الرجل كأنه يرى
فيها صورة الرحمن..!
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
... ... ... ... ... ... ... ... ... مدام رئيفة كامل
(المنار)
لا يوجد في أوربة كلها شعب أهمل التربية الدينية للإناث كإهمال مصر
شعبًا وحكومة وهي مع ذلك تبيح حرية الكفر والفسق كالرقص والسباحة مع
الرجال والزنا في بعض الأحوال فكيف يكون المآل؟