عرف الناس في مصر من حضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان معلمًا فمترجمًا فصحافيًّا ففيلسوفًا لغويًّا فنسابة فروائيًّا مبتدعًا فمتفرّسًا فمؤرخًا خياليًّا قصاصًا. ثم هم يستقبلون منه الآن مؤرخًا إسلاميًّا محققًا، ولا ندري ما يعرف منه أهل سورية قبل هجرته إلى مصر، كل هذه صفات فاضلة ومواهب جليلة قلما يخلص بعضها لأفذاذ العلماء ونوابغ الرجال. وهي بخلوصها لحضرته أفادت من لا يُحصَى عددهم من قراء العربية ولا سِيَّمَا المسيحيين منهم وعلماء الشرقيات من الأوربيين وغيرهم ممن لا يحبون مطالعة الكتب العربية أو لا يستفيدون منها لو لم تشكل بالأشكال التي رسمها جرجي أفندي زيدان لمؤلفاته العديدة. كان هذا الفاضل يؤلف الكتب الروائية، ويأتي فيها بالممكن والمستحيل والمستملح والمستنكر، فكنا لا نتعرض لها بمسخ أو نسخ، لعِلْمِنا أن الذي قاده إلى هذه المواقف هو استرسال الخيال، وهو قد يفضي بصاحبه في النثر إلى مثل ما يفضي به في الشعر، فيكون أعذبه أكذبه، ولاعتقادنا أن نفعها أكبر من إثمها، وأن الكتب العربية الصحيحة لا تزال بعد منتشرة في جميع أرجاء العالم، ناطقة ببيان الغث من السمين، والصحيح من الباطل، على أنه ما من كتاب وضعه بشر إلا وكان فيه لهوى النفس والسخائم الدينية والعصبية الجنسية بله الخطأ والغفلة أثر أي أثر، إلا ما شذ وندر، فلما قرأت تقريظ حضرة الفاضل (المغربي) أحد محرري المؤيد لكتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) ، وهو آخر ما أُخرج للناس بعدُ مِنْ كُتُب مؤلفنا المذكور وجدته قد ملأ ما يقرب من صفحة من صفحات المؤيد بعبارات الإطراء والتهويل والإعجاب والإغراب مما لو قبله القارئ لم يشك أن العرب خلقت خلقًا جديدًا أو أن تاريخ جاهليتها الأولى المقبور في بطون القدم قد نبشه المؤلف من ناوُوسه، فرابني قولُه - والمبالغة تريب - ولم أَرَ الأمر يخرج عن إحدى خصال ثلاث، إما أن يكون قرظه ولم يقرأه كعادة أكثر محرري الصحف لضيق وقتهم؛ وإما أن يكون قرأه وصانع المؤلف لصداقة بينهما - وللصداقة حقوق - وإما أن يكون المؤلف قد وفق حقيقة للعثور على الضالة المنشودة والحلقة المفقودة من تاريخ جاهلية العرب، وما ذلك بعزيز على نشاط الرجل واجتهاده. ولما كنت ممن عُنِيَ بهذا الموضوع عناية شديدة، قرأت الكتاب بإلهاف، أخذ يتناقص بتناقص أوراق الكتاب، فإذا به - والحق أقول - خير مؤلفات الرجل، ولا أنكر أنه أفادني بعض فوائد ثمينة، هاجت في نفسي ميلاً إلى نقده ولا يُنْقَد إلا كل ذي قيمة. يقع كتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) في ٢٥٠ صفحة، كتب في ٣٠ صفحةً منها مقدمة طويلة، ليست من موضوع الكتاب في شيء، وإنما ذكر فيها كعادته في كتبه غموض تاريخ العرب وصعوبة التأليف فيه أو تعذره، إلا على من كان من أهل الجسارة أو الاطلاع الواسع، والمعرفة بكثير من اللغات الحية والميتة والبحث والتنقيب في آثار الأمم الخالية، ثم ذكر شبه فهرس مطول، ثم تمهيدًا في مصادر تاريخ العرب، وهي الكتب العربية وغير العربية من اليونانية والرومانية والنقوش الأثرية، وقد تحامل على العرب فيها ما شاء أن يتحامل، مما يظن معه قارئه ابتداء أن أكثر مصادر الكتاب أثرية أو يونانية قديمة أو أوربية حديثة، لكثرة أسماء الكتب والرحلات التي ذكرها، وهي نحو السبعين كتابًا، غير الموسوعات والمعاجم الكبرى التاريخية والأثرية وغيرها (كما يقول) فإذا هو قرأ الكتاب وجد أن نحو أربعة أخماسه عربي المصدر، وأن لا ذكر لهذه الكتب والمعاجم إلا نزرًا يسيرًا في ذيل الكتاب، يعرف ذلك مَنِ اطّلع على الكتاب بإمعان، ومن رأيي أن هذه المقدمة تجارية أكثر منها علمية. * * * فائدة المؤرخ من الكتاب إن الذي لا يعرف اللغات الأوربية يستفيد من الكتاب: أولاً: ما ترجمه المؤلف من آراء بعض قدماء اليونان في الجغرافية العربية غثّة كانت أو سمينة. ثانيًا: ما ترجمه من آراء بعض سياح الأوربيين قي شمال جزيرة العرب وجنوبها على قلة في ذلك. ثالثًا: بعض الصور والرسوم والخطوط والنقود التي نقلها من رحلات هؤلاء السياح، مثل رسم سد مأرب، وبعض قصور اليمن، وهيكل تدمر وبطرا. رابعًا: معرفة كيف كان يختلف اللسان النبطي والتدمري عن العربي الفصيح، وهي فوائد تشكر للمؤلف إذاعتها في كتاب مستقل. * * * الأمور التي تؤخذ على المؤلف الأمر الأول: تردده أو إنكاره بعض الحقائق التاريخية البديهية في موضع، وتشبثه بتحقيق بعض الظنون والتخرصات في موضع آخر، اعتمادًا على أوهام وتخيلات قامت بذهنه فقط. فمثال الأول: أنه عندما أراد التكلم على تقسيم عرب أواسط الجزيرة وشماليها إلى قحطانيين (يمانيين) وعدنانيين، مال إلى إنكار هذا التقسيم، ورأى رأيًا عجيبًا لا يخطر على بال مؤرخ ولا قارئ، وهو أن هؤلاء العرب كلهم عدنانيون، فعنده أن مثل طَيِّئ وكندة ولخم وجذام ومذحج وهمدان ومازن والأوس والخزرج عدنانيون. ونورد هنا ما قاله في ذلك (صفحة ١٨٢ و١٨٣) قال: وكل هذه البطون أو القبائل قد رأيت أنها ترجع بأنسابها إلى كهلان بن سبأ، أي أنهم قحطانية، ذلك ما أجمع عليه العرب، ولكن لنا رأيًا في هذا الإجماع، لا يخلو ذكره من فائدة. قد رأيت في ما ذكرناه عن الفروق بين القحطانية والعدنانية، أن لكل منهما خصائص في اللغة والاجتماع والعادات والدين وأسماء الأعلام. وإذا تدبرت أحوال هذه الدول من غسان ولخم وكندة رأيتها تنطبق على العدنانية أكثر مما (كذا) على القحطانية، مِن حيثُ اللغةُ، فإننا لم نَرَ في كلامهم وأقوالهم ما يدل على أنهم كانوا يتكلمون لغة حِمْيَر، بل لغة العدنانية أو عرب الشمال في الطور الثاني. وقد يقال: إنهم اقتبسوا لغة الوسط الذي انتقلوا إليه، ولكنا نستبعد ذلك، لأن الغالب في اقتباس لغة الآخرين أن يقع من الضعيف نحو القوي - فلو كان أولئك القوم قادمين من بلاد اليمن لَحافظوا على لسانهم وسائر عاداتهم، لأنهم كانوا يومئذ أرفع منزلة من بدو الشمال، وكان هؤلاء ينظرون إلى اليمنية نظرهم إلى أهل الدولة ويعدونهم الملوك، كما ينظر البدوي الأمي إلى المتمدنين أصحاب الصولة والعلم. وزد على ذلك أن اليمنية كانوا يكتبون بالحرف المسند ولا نرى لهذا الحرف ذكرًا في أخبارهم، ولا أثرًا في أطلالهم. وقد علمت أن الكهلانيين أهل حضارة كما رأيت في ما ذكرناه من حديث سيل العرم، وكيف أن الكهلانيين كانوا أهل حدائق وقصور باعوها وانتقلوا. فلو صح ذلك لاختاروا الإقامة في بلد آخر من اليمن غير مأرب وما جاورها؛ لأن السيل لم يخرب إلا جزءًا صغيرًا من اليمن. فلم يكونوا يعدمون مكانًا يقيمون فيه، كما كان يقيم سواهم من قبائل الحضر، وإخوانهم الحميريون مازالوا أهل دولة وعمران وظلوا في رغد ورخاء وسَعَة من العيش إلى ظهور الإسلام. فما كان أغنى الكهلانيين عن الرحلة إلى بادية الشام أو العراق والرجوع إلى البداوة، وهي شاقة على من تعود الحضارة والرخاء. واعتبر ذلك في معبوداتهم، فإنها من معبودات عرب الشمال أو العدنانية، ولم نجد عندهم ما يميزهم عن هؤلاء من هذا القبيل. ولو كانوا من عرب اليمن، لوجدنا بين معبوداتهم اسم عشتار أو إيل أو نحوها. وهكذا يقال في أسمائهم وليس فيها رائحة الأعلام السَّبَئِيَّة أو المعينية، بل هي مثل أسماء سائر عرب الشمال، ولا سِيَّمَا الذين سكنوا مشارف الشام قبلهم كالأنباط ونحوهم، ومنها الحارث وثعلبة وجبلة والنعمان وغيرها. ولا يعترض بما ذكره العرب بين أسماء ملوك حمير من أمثال هذه، فإن أكثرها مبدل بأسماء شمالية، وإنما عمدتنا في ما ذكرناه على الأسماء التي وقفوا عليها في الآثار المنقوشة. فلا دليل على قحطانية هذه الأمم إلا أقوال النسابين، وهي أضعف من أن يعول عليها في هذا الشأن، لاحتمال أن تكون تلك الأمم قد انتحلت الانتساب إلى عرب اليمن التماسًا للفخر بين قوم لا يعرفونهم، ولا سِيَّمَا بعد أن تقربوا من الروم أو الفرس وصاروا من عمالهم اهـ. * * * ونقول في دحض هذه الأقوال: (١) أما عدم الاختلاف في اللغة، فإن الاختلاف فيها إما أن يكون في الأصول، وإما في الفروع، أما الأصول فلم يكن بينها خلاف جوهري؛ لأن لغات العرب كلها من أصل واحد، كما اعترفت به حضرته، وأما الفروع فلم ينكر أحد سواه وقوع الاختلاف فيها حتى في لغات القبائل التي لم تخرج من اليمن، فالاختلاف في الإعراب والتصريف والقلب والإعلال والإبدال مملوء به كتب النحو والصرف والاختلافات في معاني الكلمات المفردة لم تهملها كتب اللغة والأدب، ولذلك وقائعُ وحكايات جر الخطأ في التفاهم بسببها إلى إزهاق الأرواح، كما في حكاية قتل مالك بن نويرة وقومه، وكلنا يعرف ما هي العجعجة والشنشنة والاستنطاء في لغات اليمانية. ولو كان بعض الاتفاق في اللغات بين القبائل المختلفة يجعلها من أصل واحد، لقد كان المحتم على حضرة المؤرخ أن تقول: إن قبائل حمير التي لم تخرج من اليمن عدنانية أيضًا، لاتحادها مع العدنانيين في الأصول واختلافها عنها في بعض الفروع إبّانَ ظهور الإسلام، وقد حفظ لنا التاريخ الصحيح وكتب السنة الصحيحة كثيرًا من مقالات وفود الحميريين على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لا تختلف عن العدنانية إلا في معاني بعض المفردات. وإنما حدث هذا التقارب في اللهجة واللغة لتقاربهم في البيئة (الوسط) وللمجامع والأسواق التي كانوا يقيمونها، وأما أن الضعيف يقتبس لغة القوي، وزعمه أن اليمانيين كانوا هم الأقوياء الغالبين، فذلك على فرض تسليمه، لا ينهض حجة على إثبات دعواه، لما كانت عليه العرب في القرون القريبة من ظهور الإسلام من التقارب في جميع الأحوال، حتى قبائل حمير نفسها بعد غلبة الحبشة والفرس عليها. (٢) وأمّا إنه لم يوجد أثر للحرف المسند من جهات الشمال، فذلك قد كذبه بنفسه في موضع آخر عند تكلمه على عرب الصفا، حيث أتى بهذا العنوان لأمم سبئية في الشمال، وذكر تحت هذا العنوان كلامًا كثيرًا عن أن أمم حمير انتقلت إلى الشمال ووجد لها أنواع من الخط المسند، كالقلم الصفوي والثمودي واللحياني، وقال: إن الباحثين لا يزالون في أول البحث. (٣) أمّا إنه لا حامل للقحطانيين على الهجرة من بلادهم وجناتهم وقصورهم إلى الصحاري المجدبة بلا سبب عظيم، وأن سيل العرم لا يكفي لتفرقهم أيادي سبأ، فإن الأسباب الحقيقية لهذه الهجرة لا تزال مجهولةً، كأسباب هجرة أكثر الأمم القديمة، وإنما كان من أهمها حادثة سيل العَرِم، مضافة إلى منازعات وحروب أهلية أو مجاعات أو أن الأرض قد ضاقت عليهم، فالتمسوا غيرها من بلاد الله، ولم تكن وجهتهم في رحلتهم هذه القفار، بل كانت ريف العراق ومشارف الشام، ولا تنكر حضرة المؤرخ عظم دولتهم في الحيرة والأنبار وفي سوريا وفلسطين، فلقد احتلوا في الأولى جميع الأراضي التي بين دجلة والفرات، حتى سميت العراق العربي، وفي الثانية أكثر بلاد فلسطين وسورية وحلب، ولا شَكّ أن هذه كانت أخصب من بلادهم، وبقية اليمانيين الذين سكنوا البدو منهم، فإنما تراجعوا إليه بعد منافسات مع بني عمهم في الشمال مع بُعْد عهدهم باليمن وخصبه، وأما اكتفاء المؤرخين بذكر حادثة سيل العَرِم، فذلك وَهْم سرى إليهم من تعقيب ذكر قصة السيل في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (سبأ: ١٩) , فإن الظاهر من الآية أن التمزيق سببه ظلم أنفسهم، والظلم يأتي بأسباب كثيرة اعتدائية، لا بسبب خارجي فجائي لا دخل لهم فيه، مثل انفجار السد. (٤) وأما دعوى اتحادهم في المعبودات، فلا نسلم أنها كلها كانت عدنانية، بل كانت خليطًا من كل الأديان، فقد عبد كثير من العدنانيين الشمس والقمر والكواكب، وهي من معبودات أهل الجنوب، كما تهود وتنصر أهل الجنوب، واليهودية والنصرانية من أديان أهل الشمال. (٥) وأما توافق أسمائهم، فذلك إرث من طبيعة الجوار والبيئة وتمازجهم في كل شيء، كما يسمي الأقباط الآن أنفسهم بأسماء عربية وتركية بعدما زالت سيطرة العرب والترك، وكما يسمي الترك أنفسهم بأسماء عربية مع أنهم هم الغالبون للعرب، وكما يسمي السوريون أنفسهم بأسماء إنجليزية وفرنسية، على أن هذا المؤرخ الذي أنكر في غير موضع من كتابه وجود أسماء عدنانية بين أسماء الحميربين نقض كلامه في صفحة (١٥٩) حيث نقل عن غلازر الألماني، أحد الأثرين اللذين وجدهما في أطلال السد، وهذا كتبه أبرهة قبيل ظهور الإسلام، وفيه يذكر الأقيال الذين قهرهم أو ولاهم عنه، مثل يزيد بن كبش ومرة وثمامة وحنش ومرثد، وكل هذه أسماء عدنانية، كما أن معد يكرب الزبيدي اسمه حميري، وهو من القبائل التي ينكر المؤرخ حميريتها. وأما الأدلة الوجودية على أن القبائل المذكورة قحطانية، فأكثر من أن نأتي بها جميعها في هذه المقالة، وهي بالغة بصراحتها إلى أفق البديهيات. فمنها اعتراف جميع هذه القبائل بأنها يمانية، حتى بعد أن ظهرت مضر عليهم في وقائع عديدة، وبعد أن خضعوا للمضريين بعد الإسلام وتعصب المضرية واليمانية في الفتن التي وقعت في الصدر الأول غصت به كتب التاريخ والأدب. ومنها إجماع النسابين والمؤرخين باعتراف حضرته على أن القبائل المذكورة قحطانية. ومنها ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مما يشير إلى هذه التفرقة. ولو أردنا ذكر الشواهد التاريخية من الوقائع والمفاخرات وقصائد الشعر من الحماسة والمدح والهجاء وجميع الأحاديث النبوية لإثبات أن هذه القبائل قحطانية، لوضعنا في ذلك كتابًا يزيد عن كتاب جرجي أفندي زيدان أضعافًا. ((يتبع بمقال تالٍ))