للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرد على الشيخ بخيت
تابع لما في الجزء التاسع

الاستدلال بحديث جابر ومعناه
قد عُلم مما تقدم في الجزء التاسع أن حديث جابر الذي استنبط منه الشيخ
بخيت جواز أن يكون إمام المسلمين وخليفتهم كافرًا لم يروَ إلا من طريق محمد بن
عبد الله العدوي التميمي وأن هذا الراوي قد طُعن فيه أشد الطعن فحكم البخاري بأنه
لا يجوز الرواية عنه وقال وكيع: إنه كان يضع الحديث، أي يختلقه وينسبه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا إنه لا يتابع على حديثه فمتابعة عبد الملك بن
حبيب له لا يعتد بها على أن عبد الملك هذا مجروح وكان يعتمد على الإجازة لما
كتب، فإذا نحن اعتبرنا متابعته فإننا لا نحكم بأن الحديث يرتقي بها إلى درجة
الصحة أو الحسن، فالحديث لا يحتج به.
أما ما أكثر الكلام فيه الشيخ بخيت من كون ضعف الراوي أو نكارته أو
وضعه للحديث لا يقتضي أن يكون كل ما يرويه ضعيفًا أو منكرًا أو موضوعًا في
نفسه - فهو على ما فيه من التفصيل غير مفيد هنا. وإن كان فيما نقله عن المتأخرين
كالمناوي والزبيدي، بل والفاسي - ما يوهم الجاهل بالحديث ما يوهم.
والحق أن ما ينفرد به الراوي المعروف بالوضع موضوع لا تجوز روايته إلا
للتنبيه على كونه موضوعًا وما ينفرد به الضعيف ضعيف ولا يحتج به في إثبات
الأحكام وتقرير الشريعة وما ينفرد به منكر الحديث في اصطلاح البخاري لا تجوز
روايته عنه إلا للبيان حتى لا يغتر به أحد، وراوي هذا الحديث كذلك، وقد علم حكمه
عند غيره مما سبق، نعم إنه يجوز عقلاً أن يكون الحديث الذي يرويه أشد الناس
ضعفًا بل أكثرهم كذبًا ووضعًا مما له أصل في الواقع وهذا الجواز العقلي لا يبيح
لمؤمن أن يقبل رواية من لا يوثق به ويحتج بها لاحتمال صدقه عقلاً. وإذا ظهر أن
بعض ما رواه قد رواه غيره من الثقات فإنما يكون الاحتجاج بالرواية
الأخرى.
فخلاصة القول - في استدلال الشيخ بخيت بحديث جابر عند ابن ماجه - إن
الشيخ بخيتًا لا يعرف له سندًا يبيح له الاستدلال به والاستنباط منه ولا حجة له في
احتجاج بعض الفقهاء به في غير مسألتنا؛ لأنه هو في هذه المسألة مجتهد مستنبط
لا مقلد، فيجب أن يكون على بينة في استنباطه وإلا فليقف عند ما قاله الفقهاء ولم
يقل إن أحدًا منهم قال: إن الحديث يدل على جواز أن يكون إمام المسلمين كافرًا
وأنه قلده في ذلك.
قال الشيخ بخيت (في ص ٤٦) بعد ما نقل عن صاحبه الفاسي الذي جعله
من الحفاظ ما نقله - أي الفاسي - من الاحتجاج بالحديث الذي تلقاه العلماء بالقبول
وإن طعن فيه أهل الحديث ما نصه: (وقد علمت أن حديث جابر الذي نحن
بصدده قد تعددت طرقه وروي عن اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبي سعيد وجابر - رضي الله عنهما - وذكر في كثير من السنن وكتب
الحديث كما مر وله شواهد تصحح معناه من الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع الأمة
وأصول الشريعة) اهـ.
أقول بعد الاستعاذة بالله من مثل هذه الجرأة: قد علمت مما ذكرناه في الجزء
التاسع أن الحديث لم تتعدد طرقه بل هي طريق واحدة - وأنه لم يروَ عن أبي سعيد
وإنما روي عنه حديث آخر يوافق حديث جابر في غير موضع النزاع فهو لا يعد
تقوية له فيه وإنما تقوِّي الروايات بعضها بعضًا فيما تشترك فيه وليس في حديث
أبي سعيد النهي عن إمامة الفاجر للمؤمن إلا عند الخوف وأنه لم يرو في كثير من
كتب السنن كما قال وإنما ذكر في سنن ابن ماجه والبيهقي، أما البيهقي فقد ذكره
ليبين أنه لا يحتج به، وأما ابن ماجه فقد قال السندي في حاشيته على كتاب السنن
له ما نصه:
(وقد اشتمل هذا الكتاب من بين الكتب الستة على شؤون كثيرة انفرد بها
عن غيره، والمشهور أن ما انفرد به يكون ضعيفًا وليس بكلي لكن الغالب كذلك)
ثم نقل أن السيوطي قال في حاشية النسائي نقلاً عن غيره: (إن ابن ماجه قد انفرد
بإخراج أحاديث عن رجال متَّهمين بالكذب ووضع الأحاديث، وبعض تلك
الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك والعلاء بن
زيد وداود بن المنجم وعبد الوهاب بن الضحاك وإسماعيل بن زياد السكوني
وغيرهم) ، ثم قال: (وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو
ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم) انتهى.
قلت: وبالجملة فهو دون الكتب الخمسة في المرتبة، فلذلك أخرجه كثير من
عدَّة جملة الصحاح الستة، لكن غالب المتأخرين على أنه سادس الستة.
أقول: وحديث جابر الذي هو موضوع مناظرتنا يُعد مما انفرد به دون سائر
الكتب الستة التي هي: صحيحا البخاري ومسلم وسنن أبى داود والترمذي
والنسائي، وأما البيهقي فهو بعده وطريقه عين طريقه فيه فعلم بهذا سقوط إيهامه قوة
الحديث بإخراج أهل السنن له من طرق متعددة تنتهي إلى اثنين من الصحابة.
وأما قوله: إن له شواهد تصحح معناه من الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع،
فقد احتجَّ عليه باشتماله على ستة أمور مؤيدة بما ذكر:
(١) الأمر بالتوبة.
(٢) الدلالة على اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة.
(٣) وجوب الجمعة والحض على فعلها والمواظبة عليها وعدم تركها
وارتداد من تركها استخفافًا بها وتهاونًا أو جحدًا لها.
(٤) النهي عن إمامة المرأة في كل من الإمامة الكبرى والإمامة في الصلاة.
(٥) النهي عن إمامة الأعرابي كذلك.
(٦) النهي عن إمامة الفاجر للمؤمن كذلك.
أقول: إن التدليس أو الإيهام في هذا الكلام لا يقل عن مثله فيما قبله، وبيانه
يعلم مما سبق لمن تأمل وهو أن موافقة الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع
لحديث ضعيف أو موضوع لا تُعد تأييدًا له فيما انفرد هو به في المعنى كما أنها لا
تدل على صحة إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من الأحاديث الموضوعة
باتفاق المحدثين ما هو صحيح المعنى لموافقة معناه كله للكتاب أو السنة الصحيحة أو
الواقع، ومع ذلك لا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا روايته إلا
لبيان وضعه وكذلك الحديث الضعيف.
هذا هو الحكم فيهما إذا كان معناهما كله صحيحًا مؤيدًا بما ذكروا، وأما إذا
كان فيه معنى صحيح مؤيد، ومعنى انفرد به لا يؤيده شيء فلا يجوز أن يقال: إن
هذا الحديث مؤيد بما يقوي المعنى الذي انفرد به بموافقة الكتاب أو السنة أو
الإجماع لمعنى آخر فيه. مثاله أن يقول قائل: يا أيها الناس اتقوا الله وإياكم
وشرب القهوة، وادّعى أن هذا حديث، فهل يباح لنا أن نقول إذا لم يصح هذا
الحديث رواية فهو صحيح معنى لأنه مؤيَّد بالكتاب والسنة والإجماع باشتماله على
الأمر بالتقوى؟ لا يباح ذلك فإن موافقته لما ذكر بالأمر بالتقوى لا تثبت كونه حديثًا
ولا تؤيده في التحذير من شرب القهوة. المثال ينطبق على دعوى الشيخ بخيت
تأييد حديث جابر بما ذكر وكونه صالحًا بذلك لأن يحتج به على جواز كون السلطان
الذي يأذن بالجمعة ويولي القضاء غير مسلم. وهذا على فرض اشتمال حديث جابر
على هذا المعنى كما ادعى، فإذا لم يكن مشتملاً عليه كما هو الواقع فما هي فائدة
موافقته للكتاب والسنة في مثل الأمر بالتوبة ووجوب الجمعة؟
ولسنا في حاجة إلى مناقشته فيما ادعاه من تصحيح كل أمر من تلك الأمور
بتأييده بالكتاب والسنة فإنه يخرج بنا إلى تطويل لا حاجة إليه في موضع النزاع ولا
غرض لنا ببيان كل خطأ وغلط في رسالته، وإنما نذكر من ذلك ما له علاقة
بموضوعنا.
أما قوله (في ص ٤٧) : إن الكتاب والآثار الصحيحة تؤيد ما يدل عليه
الحديث من اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة - أي ولو كان كافرًا على حسب
استنباطه - فعزاه إلى الحنفية وذكر أنهم أخذوا الشرط من قوله تعالى: {إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ} (الجمعة: ٩) ؛ إذ لابد في الذكر من ذاكر وهو مَن له ولاية الإقامة.
ونقول: إذا كان الشيخ بخيت مقلدًا بحتًا لهؤلاء الحنفية وإن لم يظهر له صحة
دليلهم فما له وما للاستنباط، وإن كان يرى هذا الدليل موصلاً إلى إثبات اشتراط
إذن السلطان وإن كان كافرًا في إقامة الجمعة فنقول له: إن الذكر هنا هو الصلاة
والذاكر هو المصلي، فمن أين أخذت اشتراط أن يكون المصلي واحدًا وأن الصلاة
لابد فيها من ولاية ولو لكافر يأذن بها وأنه يجب أن يكون المصلي الذي يسعى إليه
هو صاحب الولاية أو من أذن له صاحب هذه الولاية!
أليس المتبادر من الآية فاسعوا إلى أداء هذه الصلاة التي نوديتم لها؟ هل
يقول الشيخ بخيت: إن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} (الأعراف: ٢٠٤) يدل على أنه يشترط في قراءة القرآن إذن السلطان إذ لا بد في
القراءة من قارئ ولابد أن يكون القارئ من له ولاية القراءة؟ وإلا فما الفرق بين
هذا وبين قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: ٩) وكل منهما شرط وجزاء؟ فإن كان يدعي أن هناك دليلاً آخر من
غير الكتاب يدل على أن المصلي للجمعة لابد له من إذن فلماذا يدعي أن الكتاب
نفسه هو الذي يدل على ذلك؟ ألا يعرف ما هو وصف من ينسب إلى القرآن ما
ليس فيه وما هو جزاؤه؟ ولعل الشيخ بخيتًا يذكر لنا من سبقه إلى هذا الاستنباط
من الحنفية لنعلم هل هو من طبقة مجتهديهم أم لا، وإنني أخشى أن يكون عزوه
ذلك إلى الحنفية كعزوه الحديث إلى كتب السنن أو ...
ثم قال في بيان تأييد هذا الحكم بالآثار الصحيحة ما نصه: (وأما الآثار فما
روى الحسن البصري موقوفًا: أربع إلى السلطان، وذكر منها الجمعة والعيدين
والموقوف في هذا له حكم المرفوع لكونه مما لا دخل للرأي فيه) اهـ.
أقول: في فتح القدير: إن هذا الأثر من قول الحسن البصري. والشيخ بخيت
جعله رواية عنه موقوفة على بعض الصحابة، ولم يذكر الصحابي الموقوف عليه،
فهل جهل صاحب الفتح وغيره من شُرّاح الهداية ومحشيها هذا الصحابي وعرفه
الشيخ بخيت؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يذكر هو الصحابي أليس ذكره أقوى
في الحجة من ذكر الحسن البصري؟ أم ظن الشيخ بخيت أن قول التابعي فيما لا
دخل للرأي فيه - كقول الصحابي يسمي حديثًا موقوفًا وله حكم المرفوع، وإذًا لماذا
أسماه أثرًا؟ أم تعمد تسمية قول الحسن (رواية لحديث موقوف) غشًّا للقارئين
لرسالته؟ ولماذا لم يذكر من خرج هذا الأثر من المحدثين ليرجع إلى سنده فينظر
هل هو سند صحيح أم لا؟
لعله يبين لنا حقيقة الأمر في ذلك برسالة أخرى ولو بالنقل عن البرق
الوميض أو التلقي عن صاحبه الحافظ الكتاني الفاسي أو عن كتبه! ! ! ولنا أن
نقول بعد ذلك إذا صح أن ما ذكر حديث موقوف أو مرفوع يحتج به فإن قصارى ما
يدل عليه أن السلطان أولى بإقامة الجمعة من غيره إن وجد لا أن صحة صلاة
الجمعة مشروطة بإذن السلاطين لا تنعقد ولا يقبلها الله تعالى إلا إذا أذن بها السلطان
وإن كان كافرًا.
ثم قال الشيخ بخيت بعد ما تقدم: (وما قبله ابن المنذر مضت به السنة أن الذي
يقيم الجمعة هو السلطان أو من أمره وقال في التلويح: إذا قال الراوي من السنة
كذا يحمل عند الشافعي وكثير من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى على سنة
النبي عليه السلام) اهـ.
أقول: السنة في الأصل: الطريقة والعادة والسيرة، ولأهل الأصول
والحديث والفقهاء فيها اصطلاحات معروفة. واختلف أهل الأصول في قول
الصحابي:من السنة كذا، هل يحتج به أم لا؟ قيل يحتج به لأن الظاهر أنه يريد
سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لا؛ لجواز أن يريد سنة الناس وعادتهم كما
في جمع الجوامع وشرحه، وأما قول آحاد العلماء: مضت السنة بكذا، فليس
بحجة عند أحد وإن كان العالم محدثًا وصرح بأنه يريد السنة النبوية لأن العبرة بما
يرويه لا بما يقوله، فكيف إذا قامت القرينة على أنه يريد بالسنة معناها اللغوي
وهو العادة كقول ابن المنذر: مضت السنة بأن الذي يقيم الجمعة هو السلطان أو
من أمره؛ لأنه لم يكن في زمن النبي سلاطين!
ثم إنه لا يخفى على عاقل أن مضي السُنة بأن السلطان هو الذي يقيم الجمعة
أو كون ذلك للسلطان كما قال الحسن لا يدل على كون إذنه شرطًا لصحتها أو
لقبولها عند الله لا سيما إذا كان كافرًا على مذهب الشيخ بخيت، بل قصارى ما يدل
عليه أنه الأولى بالإمامة والخطابة فيها إذا وجد , وقد أقام الجمعة علي عندما كان
عثمان محصورًا ولم يروَ عن أحد أن عثمان أذن له بذلك ولا سأل أحد من الصحابة
الذين صلوا مع علي هل أذن عثمان بالجمعة أم لم يأذن؟ وقول الحنفية: إن هذه
واقعة حال يحتمل أنها كانت بإذن وإن لم ينقل لا يفيد إلا إذا كان هناك دليل على
اشتراط إذن الخليفة أو السلطان، فعند ذلك يقال: إن الواقعة لا تصلح معارضة
للدليل لما يعتورها من الاحتمال وحديث ابن ماجه الذي هو موضوع بحثنا لا يحتج
به لما علمت على أنه لا يدل على الاشتراط لأن قيد (وله إمام عادل أو جائر) إنما
هو مع سائر القيود لاستحقاق ذلك الوعيد كأنه إذا ترك الجمعة وهو ليس له إمام بأن
كان تحت سلطة الحربيين الذين يمنعون المسلمين من إقامة الشعائر يكون له عذر.
وهنا بحث في قوله: (فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عدل أو
جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها فلا جمع الله شمله..) إلخ، وهو هل الوعيد بقوله:
فلا جمع الله شمله مقيد بوجود الإمام مع الاستخفاف أو الجحود؟ أم هو مقيد
بكل منهما؟ الظاهر الأول، وعليه فمن ترك الجمعة غير مستخف بها ولا جاحد فلا
يستحق هذا الوعيد كله وإن كان له إمام.
ثم استدل بعد ذلك على اشتراط إذن السلطان بالعقل وملخص دليله أن الجمعة
تؤدَّى بجمع عظيم، والتقدم على الجمع يعد شرفًا ولذلك يسارع إليه طلاب الجاه
فتقع الفتنة بالتنازع عليه فشرط أن يكون التقدم لذى سلطان يعتقدون طاعته أو
يخافون عقوبته قطعًا للفتنة وتتميمًا لأمر الجمعة ولنا أن نبطل هذه الشبهة التي
جعلها دليلاً معقولاً بأمور (منها) :
أنه يأتى مثل هذا المعني في صلاة الجماعة لا سيما إذا كان المصلون كثيرين
كما يقع كثيرًا وكما هو المطلوب شرعًا لا سيما على القول بفرضية صلاة الجماعة،
فلماذا لم يقولوا باشتراط إذن السلطان في صلاة الجماعة إذا لم يكن هو الذي
يقيمها.
(ومنها) أن دعوى خوف الفتنة التي ذكرها ممنوعة، وسند المنع المشاهدة
كما ترى في صلاة الجماعة الكثيرة وفي صلاة الجمعة في البلاد التي ليس فيها
سلطان.
(ومنها) أن هذا المعنى لو كان صحيحًا لتلافاه الشارع بالنص الصريح، ولو
ورد نص بذلك لتواتر أو اشتهر واستفاض، ولم تنحصر روايته في رجل لا
تحل الرواية عنه.
(ومنها) أن هذا الشرط الذي جعله رِدءًا دون صلاة الجمعة مانعًا من تركها
هو الآن كما كان قبل الآن سببًا في تركها عند من اعتقده إذ يتعسر أو يتعذر على
كثير من مسلمي روسيا مثلاً الوصول إلى إذن من القيصر بإقامة الجمعة، فأي فتنة
تحذر من اتفاقهم على إقامة الجمعة وأن يكون الإمام فيها هو الإمام في
سائر الصلوات؟ ! أليس هذا أقرب إلى العقل وأحفظ للدين مما ذكره.
وأما الأمر الثالث مما اشتمل عليه الحديث وهو وجوب الجمعة والحض على
فعلها والمواظبة عليها وعدم تركها وارتداد من تركها استخفافًا بها أو تهاونًا أو جحدًا
لها فلا نبحث فيه وإن كان فيما قاله بحث؛ لأنه ليس موضوعنا في شيء.
وأما الأمر الرابع وهو النهي عن إمامة المرأة فقد ذكر الشيخ بخيت فيه خلاف
أبي ثور والمزني وابن جرير الطبري، وحديث أم ورقة التي أذن لها النبي صلى
الله عليه وسلم أن تؤم أهل دارها وهو أصح من حديث جابر الذي هو موضوع
كلامنا، وقد اعترف بأنه لا دليل في الباب سواه، أي على منع إمامة المرأة فنقول
له: كيف كان إذًا مؤيدًا بالكتاب والسنة والإجماع؟ !
وأما الأمر الخامس وهو إمامة الأعرابي فقد قال الشيخ بخيت (في ص ٥٠)
فيه: (والمراد بالأعرابي الجاهل بدليل مقابلته بالمهاجر والجاهل فاسق بجهله) ثم
أورد فيه احتمالين فقال: (يجوز أن المراد به الكافر وبالمهاجر المؤمن مطلقًا
ويحتمل أن يراد به ما هو أعم ويكون المراد بالمهاجر المؤمن الكامل) واستدل على
الأول بحديث: (أيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى) ، وعلى
الثاني بحديث: (لا يؤمكم ذو جرأة في دينه) ، وحديث (اجعلوا أئمتكم خياركم)
وهو استدلال بديهي البطلان فلا نطيل فيه ولا نتكلم عن هذه الأحاديث.
ثم قال (ص٥١) : (وليس المراد بالأعرابي من يسكن البوادي وإن كان
ورعًا زاهدًا عدلاً فقيهًا فإن هذا لا يدخل بالضرورة تحت النهي في الحديث) ثم
ذكر الآيات الواردة في سورة التوبة في الأعراب، ككون كفارهم ومنافقيهم أشد
كفرًا ونفاقًا، وكون فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر وتوسل بذلك إلى قوله:
(ولكن المعترض قد أبى إلا أن يكون جميع الأعراب قسمًا واحدًا وهم المقيمون
بالبادية وراء أنعامهم مخالفًا في ذلك كتاب ربه سبحانه، فهي مسألة خلافية بين الله
تعالى وبين هذا المعترض المخالف لكتاب الله) اهـ! !
أقول: لينظر علماء تونس وسائر المغرب والهند وسائر أهل المشرق
والحجاز وسائر بلاد العرب والترك والتتار والعجم وسائر بلاد المسلمين إلى مقال
هذا الرجل الذي يعد من أذكى علماء الدرجة الأولى في الأزهر كيف يفهم اللغة
والدين وكيف يجادل في العلم لعلهم ينصحون لأهل بلادهم بأن الرحلة إلى الأزهر
لأجل طلب العلم مضيعة للمال والوقت؛ لأن منتهى العلم فيه إيراد الاحتمالات في
الضروريات والبديهات! .
اتفقت كتب اللغة والتفسير والحديث والفقه على أن الأعراب هم سكان البادية
من العرب ومواليهم منهم والأعرابي منسوب إليهم، فجاء الشيخ بخيت المستنبط
الأزهري الجديد يورد احتمالات في تفسير الأعرابي ويدعي أن من يقول: إن
الأعرابي هو المقيم في البادية مخالف لكتاب الله تعالى، أليس هذا العلم أو الجهل
مما يصدق عليه قول الجاحظ: إنه لا يصل إليه أحد إلا بخذلان من الله! !
قال في القاموس: (العرب بالضم وبالتحريك خلاف العجم مؤنث وهم سكان
الأمصار أو عام والأعراب منهم سكان البادية لا واحد له ويجمع على أعاريب)
وقال شارحه عند قوله (والأعراب منهم سكان البادية) : خاصة والنسبة إليه
أعرابي؛ لأنه (لا واحد له) كما في الصحاح وهو نص كلام سيبويه والأعرابي
البدوي وهم الأعراب. (ثم قال) : وحكى الأزهري رجل عربي إذا كان نسبه في
العرب ثابتًا وإن لم يكن فصيحًا، وإن كان عجمي النسب، ورجل أعرابي بالألف
إذا كان بدويًّا صاحب نجعة وانتواء وارتياد الكلأ وتتبع مساقط الغيث، وسواء كان
من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب،
والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي
غضب، فمن نزل البادية أو جاور البادين فظعن بظعنهم وانتوى بانتوائهم فهم
أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي
إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء , وقول الله عز وجل: {قَالَتِ
الأَعْرَابُ آمَنَّا} (الحجرات: ١٤) هؤلاء قوم من بوادي العرب قدموا على النبي
صلى الله عليه وسلم المدينة طمعًا في الصدقات لا رغبة في الإسلام فسماهم الله
الأعراب فقال: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا..} (التوبة: ٩٧) الآيات. قال
الأزهري: والذي لا يفرق بين العرب والأعراب والعربي ربما تحامل على العرب
بما يتأوله في هذه الآية وهو لا يميز بين العرب والأعراب. ولا يجوز أن يقال
للمهاجرين والأنصار أعراب إنما هم عرب؛ لأنهم استوطنوا القرى العربية وسكنوا
المدن سواء منهم الناشئ بالبدو ثم استوطن القرى، والناشئ بمكة ثم هاجر إلى
المدينة فإن لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نَعَمًا ورعوا مساقط
الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجرة قيل: قد تعربوا، أي صاروا أعرابًا بعد ما
كانوا عربًا، وفي الحديث: تمثل في خطبته مهاجر ليس بأعرابي: جعل المهاجر
ضد الأعرابي. قال: والأعراب سا كنو البادية من العرب الذين يقومون في
الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة) اهـ.
أقول: وإذا رجعت إلى كتب التفسير وشروح كتب الحديث لا تجد للأعرابي
تفسيرًا غير ما في القاموس وشرحه وهو عين ما قلناه، فقال فينا الشيخ بخيت ما
قال، لما اخترعه هو في تفسير الأعرابي من الاحتمال، وأما كون الأعراب أقسامًا
منهم المؤمن والكافر والمنافق فهو لا يُخرجهم عن كونهم سكان البادية ورعاة الأنعام،
ومن هاجر منهم وأقام في المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج عن
كونه أعرابيًّا لغةً وعرفًا وصار حضريًّا مهاجرًا وكذلك من ترك البادية وأقام في
العمران في كل زمان يخرج من صنف الأعراب والبدو ويصير من أهل الحضارة.
فقول الشيخ بخيت (في ص٥١) : (ليس المراد بالأعرابي من يسكن
البوادي وإن كان عالمًا ورعًا زاهدًا عدلاً فقيهًا، فإن هذا لا يدخل بالضرورة تحت
النهي في الحديث، بل ربما يكون أقرأ القوم وأعلمهم، فيكون هو الأولى في
الإمامة في الصلاة بالتقدم عملاً بعموم الأحاديث الواردة بتقديم الأقرأ ثم الأعلم مطلقًا)
لا يقوله إلا من يجهل اللغة والتفسير والحديث والسيرة النبوية، ويكون العلم عنده
عبارة عن إيراد الاحتمالات الكثيرة في كل قول كما هو دأب أهل الأزهر إلا من
أنقذه الله تعالى وحفظه، وقليل ما هم.
أما اللغة والتفسير والحديث فلما تقدم، وأما السيرة النبوية فلا يجهل من اطلع
عليها أن الأعراب لم يكن منهم علماء فقهاء بحيث يكون الواحد أعلم من المهاجر
حتى إذا اجتمعا - كأن ألمّ المهاجر بالبادية أو جاء البدوي المدينة لحاجة - يقدم
الأعرابي في الإمامة على المهاجر بعلمه وقراءته وفقهه؛ لأن القراءة والعلم والفقه
لم يكن لها مصدر إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون البعيد عنه في البادية
أعلم من المصاحب له في المدينة؟
اللهم، إن احتمالات أكثر الأزهريين لا يحتملها عقل غيرهم من عبادك، وإن
من احتمالات الشيخ بخيت ما لا يكاد يحتمله عقل أحد من الأزهريين حتى يوافقوه
على زعمه أننا خالفنا كتاب الله في تفسير الأعراب والمهاجرين، وإنما كان هو
المخالف لكتاب الله وكتب علماء اللغة والدين.
(للرد بقية)