للدكتور خليل سعادة (١) كتبها عند إذاعة خبر هذا الاكتشاف ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود أومض من كعبة العلم نبأ خطير، دوت له أرجاء العالم المتمدّن أي دوي، وعندي أنه أعظم اكتشافات البشر، وأسمى ما بلغت إليه مداركهم، فلا يحسب بجانبه كشف العالَم الجديد شيئًا مذكورًا، وما بلوغ القطب الشمالي إليه سوى ألعوبة من ألاعيب الصبيان، كيف لا وهو الأمنية الكبرى التي طمحت إليها أبصار فلاسفة العصور، والغاية القصوى التي اشرأبت إليها أعناق الحكماء في جميع الدهور، حلم رآه أسلافنا في ليل مُدْلَهِمّ بظلمات الأوهام، فتجلى لنا نورًا باهرًا يبدد دياجي الجهل، وينير بصائر الأفهام، بل قل هو الحق أنزل على عيون مبصرة، وآذان مصغية، وقلوب واعية، فزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا. نريد بهذه التوطئة الاكتشاف الحديث الخطير، وهو استحالة المادة الواحدة البسيطة من عضو إلى آخر، كما تبين الآن في استحالة بخار الراديوم إلى عنصر الهليوم. أجل أماطت الطبيعة أخيرًا نقاب الخفاء عن وجهها الوضاح، ورفعت الحجاب بعد دلال ونفار، طال أجله ألوفًا من السنين، غادة وضاءة لا كالغادات تعشقها العالم، فهام لأجلها في البيد والقفار، وجرى وراءها إلى قنن الجبال ولجج الأبحار، تقفى أثرها في الرمضاء اللاذعة تحرقه أشعة شمسها، وفي الثلوج المتراكمة يلذعه قارس بردها، سهدته قرونًا طوالاً وهو يرقبها طول ليله في السيارات والدراري وليل العاشقين طويل، وتطلبها في قطرات الماء ورشاشه يحدق فيها بمجهره، وهي غزال نفور كالزئبق الفرار، إذا دنت نأت، وإن قربت بعدت، هي أشبه بِرَهْرَهَات الآل وسراب الظمآن، لم تكشف القناع عن ثغرها البسام لحظة من الزمن، تطلبها في الحرارة والنور، وامتطى في أثرها الكهربائية والبخار، وكالمها بين الزهور والرياحين، وشرح لها وجده بين الرياض والبساتين، فكانت إذا أدنته منها ابتسامة، أوقفته عن الدنوّ منها مهابة، جمال تكلل بالجلال، وأنفة إلا أنها دلال، منها نحل العاشق سقمًا، وضاق ذرعًا، فلما أيقنت منه التفاني في سبيل غرامها، والاستقتال في هيامها، أماطت الآن اللثام، بعد آلاف سنين في التحجب والدلال، والتلاعب والمطال. طمحت أبحاث أسلافنا منذ الأعصر المترامية في القدم إلى اكتشاف أمرين خطيرين، أولهما أكسير الحياة الذي يتذرع به المرء إلى دَرْء كأس الحمام , ونيل الخلود على وجه البسيطة، وثانيهما حجر الفلاسفة الذي يباح له به تحويل المعادن إلى ذهب، فيصبح المرء بهذين الاكتشافين خالدًا مثريًا، ولبث القدماء يخطون في دياجير الأوهام، ويتلمسون الحقيقة في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى نبغ نحو أواخر القرن الثامن رجل هو لغز من ألغاز التاريخ، غريب الأطوار، كثير المطامح، بعيد المرامي، يسمى جابرًا، تفرغ إلى البحث في المعادن، وانقطع إلى إجراء الامتحانات المتعددة بشأنها تذرعًا لتحويلها ذهبًا، وكان مذهبه أن المعادن خليط من عناصر متعددة يمكن ترقية الدنيا منها إلى الأشكال العليا، ومافتئ يكثر من التجارب، ويعيد في الامتحانات، وهو في كل ذلك يتراوح بين الحقيقة والضلال، حتى أصبح له في عصره شأن خطير، ومنزلة راقية في عيون أهله، وهو أحق رجل بأن يسمى شيخ الكيماويين، ولكنه منطق الحقيقة بالجهالة، واكتنف الحقّ بالباطل، ولم يدر خطورة قوله، ولم يحلم حينئذ أن سيقوم في فجر القرن العشرين رجل من أشهر الكيماويين ويكتشف أعظم اكتشاف قدر للمرء حتى الآن، ويجيء به مصداقًا لأقواله. بيد أن العلوم الراقية لبثت قرونًا طوالاً خليط فن واحد، فكان الباحث متكهنًا في الطب، وعالمًا في التنجيم وطوالع السعد، وصهارًا للمعادن، وطال أمره دهورًا يتلمس الحق على غير صراط الهدى، حتى بزغت عليه أشعة العرفان فانبثق الطب من الكهانة والفلك من التنجيم وكيمياء الحق من كيمياء الباطل. ولما انتظمت الكيمياء فنًّا قائمًا بنفسه نبذ طلابها آراء الأقدمين نبذ النواة فتبين لهم أن العناصر الأربعة التي قال بها السلف، وهي النار والهواء والماء والتراب، ليست بعناصر، بل هي مواد مركبة تنحل إلى مواد أخرى بسيطة، أطلقوا عليها لفظ العناصر الصحيحة، وكان من أوائل اكتشافاتهم بهذا الصدد الأكسوجين. ولما تم لهم هذا الفتح المبين، نشطت الهمم من عقالها، واستولى على المنقطعين إلى هذه الأبحاث هوس شديد. نضرب لك مثلاً واحدًا لتفقه إلى أي حد بلغ بهم ذلك الهوس، وهو الكيماوي الطائر الصيت (لافوازيه) ، فإنه كان في صدر جلة الكيماويين الذين تحروا البحث والامتحان بشأن الأكسوجين، فبعث إلى الأكاديمي في أواخر القرن الثامن عشر رسالة ضافية الذيول بخصوص تأكسد المعادن، [١] وكانت له أثرًا خالدًا، ومازال يوالي التجارب حتى انفجر بركان الثورة الفرنساوية، واندلع لهيبها في باريس وسائر أرجاء فرنسا، وكان (لافوازيه) ، لنكد الطالع رجلاً عريقًا في نسبه، كبيرًا في حسبه، وافرًا في ثروته، فأصبح هدفًا للثائرين، وغرضًا لسهام الحاسدين، فصوب أعداؤه نحوه شكايات باطلة أصابت منه مقتلاً، فحكم عليه بالإعدام، وكان إذ ذاك منهمكًا في تجارب كيماوية خطيرة، فطلب من لجنة الثورة أن تمهله بضعة أيام ريثما يتمّ أبحاثه واكتشافاته، فعاملته بغلظة يندى منها جبين التمدن، وأجابته بفظاظة يحمر لها وجه الحرية، قائلة أنْ لا حاجةَ بالجمهورية للعلماء! فقيد من كعبة العلم إلى باحة (الغليوتين) [٢] وهو الذي قال بشأنه ساعتئذ (لاغرانج) أحد مشاهير مواطنيه: بعد دقيقة يسقط رأسٌ تَمرُّ بكم أجيال وقرون قبل الحصول على مثله. فانقشعت إذا ذاك غياهب الجهل عن بصائر أولي النهي، ففقهوا أن جل المواد المعروفة إنما هو مركبات وخليط مواد بسيطة متعددة، فحسروا عن ساعد الجد وقذفوا بالأوهام القديمة من حالق، وتواردت عندئذ اكتشافات العناصر تَتْرَى على نوادي العلم ومجامع العرفان، فبنيت صروح المعارف على أطلال الخرافات، ووطد بنيان الكيمياء على عمد راسخة الأركان، واكتشف الباحثون في العناصر نواميس كيماوية عجيبة لم تكن لتخطر في بال أسلافنا ولا في الأحلام. العروة الوثقى التي وقفت عندها الألباب حيرى، هي الذريرات الأصلية لهذه العناصر، فقالوا: إنها جواهر مادّيّة تتألف من جواهر فردة إذا تجزأت بَطَلَ العنصر أن يكون عنصرًا بالخصائص والمقومات التي يتميز بها عن سواه، غير أنه لما كان الجوهر الفرد لا يقبل التجزؤ فعلاً إذ لم يكشف البشر ذريعة أو وسيلة تؤدّي إلى ذلك، لبث العنصر ثابتًا على ممر الأدهار. بَيْدَ أن القول بوجود هذه العناصر المتعددة الأشكال، المتباينة الخواص ثابتة على هذا المنوال منذ الأزل، مناف لمطمح الفلسفة السامية القائلة بوحدة المادة , وخصوصًا إذا اعتبرت أرضنا نفسها ذريرة من مجاميع ونظامات هذا الكون العجيب الذي يملأ القلب مهابة ورهبًا متى تجلى لك خلال أستار الدجى كواكب ودراري سابحة أو معلقة في فضاء يتطاول الطرف إلى الإحاطة بعظمته وفقه رموز أسراره، فيرتدّ عنه وهو كليل. ذلك ما حدا جلة المتضلعين من العلوم الطبيعية إلى القول بأن سائر العناصر المعروفة مشتقة من عنصر واحد، متناه في بساطة التركيب، ولطافة القوام، وخفة المادة، غازي الشكل، ولما لم يكن معروفًا عندهم حينئذ من العناصر التي يمكن الحصول عليها، ما يصح أن يكون أصلاً لجميع المواد سوى الهدروجين، حسبوه ذلك الأصل حتى أنبأ بعضهم من هذه الاستدلالات بوجود عناصر أخرى كانت لم تزل مجهولة، لكي تملأ فراغًا في حلقات العناصر المعروفة، فجاءت الاكتشافات التالية مصداقًا لنبوتهم. ثم إنه تبين من الأبحاث الحديثة أن الجوهر الفرد للهدروجين على ما فيه من التناهي في الصغر، هو كبير جدًّا في حجمه بالنسبة إلى ما كشف مؤخرًا من الذريرات الكهربائية، التي أطلقوا عليها اسم الإلكترون، بحيث إن جرم الجوهر الفرد الواحد من الهدروجين يوازي ألف جرم من الإلكترون، وثبت لهم أن هذه الذريرات الكهربائية تستقل عن الجواهر الفردة، وتقوم بنفسها، ويكون لها جميع الخواص المقومة للجوهر الفرد، حتى تَرجَّحَ عند كبار الطبيعيين الآن أن الجواهر الفردة لجميع العناصر تتألف من هذه الذريرات الكهربائية فقط، التي بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، بمقادير متساوية، وأن اختلاف العناصر متوقف على اختلاف مقادير هذه الذريرات في تأليف جواهرها الفردة، فما العناصر إذًا سوى مجاميع هذه الذريرات التي يثبت قوامها بقوتي الجذب والدفع. فمتى فقهت ذلك علمت كيف تتأتى استحالة المادة من عنصر إلى عنصر على ما صدرنا به هذه المقالة، بَيْد أنه لم تتح لبشر مشاهدة هذه الاستحالة عيانًا، إلا منذ نحو أسبوعين من الزمن، وتفصيل ذلك أنه قدم إلى مدينة باريس، منذ بضع سنوات، في أواخر القرن المنصرم، فتاة بولونية المحتد في غضاضة الشباب وريعان الصبا، لمتابعة بعض دروس فلسفية، ولو علم أهل تلك المدينة ما سيكون لهذه الفتاة في العالم من خطورة الشأن والصيت الذائع لاحتفوا بها احتفاءهم بالأميرات والملكات من زوّارهم، فينقضي ذكر الملوك والملكات الذين زاروا باريس، أما اسم مدام كُري، فيبقى خالدًا، وهي الفتاة التي نعنيها، فإنها ما لبثت حينًا من الدهر حتى تزوجت الأستاذ كُري، فأقاما في بيت بعيد عن ضوضاء المدينة وجلبة القوم، يواليان الامتحانات الكيماوية، حتى ظفرا أخيرًا بأمنية ما وراءها أمنية، ألا وهي اكتشاف الراديوم. أما وجه أهمية هذا الاكتشاف، فهو أن العلماء وجدوا أن معدن الراديوم يختلف عن جميع المواد والعناصر المعروفة على وجه البسيطة في أمر هو إشعاع الحرارة والنور على الدوام، دون أن يخسر شيئًا منهما، فسواء وضعته في الماء والثلج، أو الهواء، بقيت حرارته مرتفعة عما يحيط به، وهو أمر لو سمعه العلماء في حلم لما صدقوه، ولما وجد الباحثون عنصرًا يختلف في خصائصه عن سائر العناصر ذعروا منه، بيد أنهم توسموا به أخيرًا خيرًا، إذ علموا أنه سيلقي بين أيديهم مقاليد الكون، وينشر أمام أبصارهم رموز الطبيعة وأسرارها، فتهافتوا عليه تهافت العطاش على الماء، حتى بلغت أثمانه في الأشهر الأخيرة مبلغًا فاحشًا، لم يسمع بمثله من قبل، فإن المقدار الذي لا يتعدى جزءًا من خمسة عشر جزءًا من القمحة منه، يساوي خمسين ألف جنيه. وكان في عداد الذين اشتغلوا بالبحث في الراديوم وأسراره الكيماويّ الشهير السير وليم رمزي، فوجد نظير غيره من المشتغلين به أن في جملة ما ينبعث من هذا المعدن مادة غازية كثيفة بقيت لديهم حينًا من الدهر لغزًا من الألغاز، لأنها كانت تلبث ردحًا من الزمان , ثم تخفى دون أن يتمكن أحد من الوصول إلى كنهها، فوضع السير رمزي أخيرًا هذا الغاز في زجاجة دقيقة جدًّا سدها سدًّا محكمًا، ومافتئ يراقبها حتى تبدت له معجزة من المعجزات، وهو أن تبدى من هذا الغاز بعد يومين من الزمن بواسطة السبكترسكوب خط ضارب إلى الاصفرار، وهو الخط الذي يشير إلى وجود عنصر الهليوم، وهو مادة توجد في الشمس، ولم يعثر عليها في أرضنا إلا حديثًا، ثم بعد نحو أسبوع من الزمن، زاد الخط إشراقًا دلالةً على أن مادّة الراديوم الغازية استحالت إلى عنصر الهليوم، ولم يبق لها من أثر. وهذا الاكتشاف الذي نحن بصدده هو باكورة الاكتشافات العظيمة في فجر القرن العشرين، وسيكون له من الخطورة ما هو أهل له، وسَيُقَيَّضُ لنا على يده كشف كثير مما غمض على أفهامنا من أسرار الطبيعة، وغرائب الكون، فإن الباحثين جارون إلى هذه الغاية سباقًا، يبذلون النفس والنفيس، ويجودون بالمال والأرواح، لغرض ترقية شأن العقل البشري والنهوض به من حضيض الجهل إلى فتن العلم، ولعله لا تغيب شمس هذا القرن حتى تبزغ شموس من سماء الحقيقة والعرفان تتجلى نورًا باهرًا على الأفهام، وتميط الطبيعة عن محياها الصبوح حجاب الإبهام , ومن يعش يره. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعادة ...