للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين


الخيال في الشعر العربي
(٧)

أطوار الخيال
كان العرب زمن الجاهلية يعيشون في مواطن لا يشهدون فيها غير مناظر
فطرية كالكواكب وبعض النبات والحيوان أو مرافق حيوية ووسائل حربية كالرحى
والجفنة والرمح والحسام، ولصفاء قرائحهم وسلامة أذواقهم أضافوا إلى هذه
الحقائق ما يخطر على ضمائرهم ويدركونه بحاسة وجدانهم من المعاني التي لا
تنالها الحواس الظاهرة كالحب والبغض والرضاء والغضب، ونسجوا منها على
مثال التخيل صور بديعة.
وإن رأى المدني اليوم أن معظم تلك الصور من التخيلات القريبة، فعُذرهم في
ذلك أنهم لم يدخلوا في مسالك الفلسفة ولا عودوا أنفسهم التنقيب عن المعاني
الغامضة، وإنما كانوا ينطقون بالشعر على البداهة، فمن وقفت له على معنى رائع
كقول النابغة:
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فقد لفظته قريحته عفوًا وانساق إليها بدون إجهاد نظر، ومن ثم كانت أمثال
هذا التخييل البديع نادرة في أشعارهم، ولو كانوا ممن يذهب في صوغ المعاني إلى
إزعاج الفكر وحثه على استخراجها من مغاصها العميق كما يفعل المولدون لظفرنا
لهم بنظائر لا تحصى، ثم إن التخييل كسائر الملكات والصنائع إنما تترقى شيئًا
فشيئًا، وتتكامل يومًا فيومًا.
فتطلَّع لزهير بن أبي سلمى مثلاً على تخيلات لا تظفر بها في أشعار من
تقدموه بأمد بعيد، فالعهد الذي يعبر فيه هذا الشاعر عن معنى أن من لم يُجٍب إلى
الأمر الصغير يقع تحت وطأة الأمر الخطير بقوله:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
يكون من أوائل العصور التي ظهر فيها التخيل الشعري، فإن هذه الغاية من
حسن البيان لا يدركها الناس بفطرتهم إلا بعد أن يتقلبوا في سبيلها أطوارًا ويقضون
في السير إليها أحقابًا، كما أن ابن سفر الأندلسي لو نشأ في البيئة والعصر اللذين
نشأ فيهما زهير لم يسهل عليه أن يصف نهر إشبيلية الذي يصعد فيه المد مسافة بعيدة
ثم يحسر بقوله:
شق النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطيه يطلب ثاره
فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزؤا فضم من الحياء إزاره
ثم بزغت شمس الإسلام وكان من أساليب القرآن في الدعوة أن ضرب
الأمثال الرائعة وصاغ التشابيه الرائقة والاستعارات الفائقة والكنايات اللطيفة،
ويضاف إلى هذا ما كان ينطق به الرسول عليه الصلاة والسلام من الأقوال الطافحة
بالأمثال والاستعارات والكنايات التي لم تخطر على قلب عربي قبله، فكان مطلع
الإسلام مما زاد البلغاء خبرة بتصريف المعاني وترقى بهم إلى رتبة سامية في
صناعة الخيال.
أخذ الخيال يتقدم بخطوات أوسع مما كان يسير به في الجاهلية، ولكن الأدباء
إلى أواخر عهد الدولة الأموية لم يحيدوا عن طرقه المعهودة ويغيروا أساليبه تغييرًا
يحس به كل أحد، فلو قال قائل أن عبد الله بن الدمينة أو عمر بن أبي ربيعة أو
جَميلاً أو كُثيرًا شاعر جاهلي - لم يكن لك أن تدخل إلى مغالبته وإبطال دعواه بإقامة
الحجة من مناهج تخيلاتهم، كأن تجلب له من أشعارهم أمثلة ينكشف بها جليًّا أنهم
ساروا في التخيل على نمط لم تنسج عليه الجاهلية، ولكنك إذا نظرت في مجموعة
الشعر الجاهلي ثم وازنته بمجموعة الشعر الإسلامي تيقنت أن الخيال قد بعد شأوه
واتسع نطاقه؛ لأنك تقف على تصرفات كثيرة من تشابيه مبتكره واستعارات لم يحم
عليها شعراء الجاهلية، وإن كانت مفرغة في قوالبهم مرسومة على خططهم.
ثم ظهر في أوائل عهد الدولة العباسية مثل بشار بن برد وأبو العتاهية وأبو
نواس وعبد السلام الملقب بديك الجن فأصبحت مسافة الفرق بين الشعر الجاهلي
والشعر الإسلامي واضحة لكل من له أدنى تعقل، فلو ادعى مدعٍ أن عبد السلام
الملقب بديك الجن شاعر جاهلي لكفاك أن تتلو عليه نبذة من شعره الذي أوغل فيه
إلى حد يبدو عليه أثر التصنع كالبيت الذي أعجب به أبو نواس وقال له عندما
اجتاز به وهو بحمص أنك قد فتنت به أهل العراق، أعني قوله يصف الخمر:
موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
وجاء بعد هؤلاء ابن المعتز وابن الرومي ومسلم بن الوليد وأبو تمام وقد
استحكمت عرى المدنية وتجلت لهم الحضارة في أجلى مظاهرها، فكانوا أكثر ممن
تقدمهم تفننًا في صناعة التشبيه والاستعارة وما يلحق بهما من تصرفات الخيال
كالتورية والمقابلة وحسن التخلص من غرض إلى آخر، وهذا لا يمنعك من أن
تقضي للسابقين بأنهم أقوى عارضة وأدرى بصناعة الشعر من ناحية سبك الألفاظ
ومتانة بنائها.
وبعد أن عني الناس بالنظر في شؤون الكون وسلكوا في البحث عن أسراره
طريقًا فلسفيًّا أخذ الخيال الشعري يعمل في الحقائق الفلسفية ويجري وراء الفكر
كالمسعف له في تصوير تلك المعاني الغامضة كما تراه في مثل قصيدة ابن سينا في
النفس، المفتتحة بقوله:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
وقصيدة المعري المفتتحة بقوله:
غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد
وقول أبي بكر بن الطفيل يصف حال الروح والجسد:
نور تردد في طين إلى أجل ... فانحاز علوا وخلى الطين للكفن
يا شد ما افترقا من بعد ما اجتمعا ... أظنها هدنةً كانت على دخن
إن لم يكن في رضا الله اجتماعهما ... فيالها صفقة تمت على غبن
وفي هذه الصبغة خرج كثير من أشعار الصوفية كما تراه فيما ينسب إلى
الشيخ محيي الدين بن عربي وابن الفارض.
وقام بإزاء هذا المنزع الفلسفي أن الشعراء عندما اتسعت دائرة العلوم
الإسلامية ونقلت العلوم النظرية إلى العربية مد بعضهم يده إلى قضايا هذه العلوم
واصطلاحاتها وخلط بها تصرفاته الخيالية كقول أبي تمام:
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء
وقول حيص بيص:
لا تضع من عظم قدر وإن كنـ ... ـت المشار إليه بالتعظيم
ولع الخمر بالعقول رمى الخمـ ... ـر بتنجيسها وبالتحريم
وقول ابن الخطيب:
ونقطة قلب أصبحت منشأ الهوى ... وعن نقطة موهومة ينشأ الخط
وكذلك كانوا يقتبسون من سائر العلوم والصنائع حتى راق لكثير من
المتأخرين أن يجعلوا قصائدهم كنموذج يلوح به إلى علوم شتى.
ومما حدث من ممارسة هذه العلوم إيراد التشبيه في أساليب منطقية كقول
بعضهم:
لو لم يكن أقحوانًا ثغر مبسمها ... ما كان يزداد طيبًا ساعة السحر
ومن تقصى أثر الشعر العربي ولاحظ الأطوار التي تدرَّج فيها الخيال، أخذ
في نفسه قوة تساعده على الفصل في بعض الأبيات أو القصائد التي يتنازع الرواة في
نسبتها إلى قائلها، فالقصيدة التي جاء في أثنائها:
قالت لِطيفِ خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تُنقص ولا تَزِدِ
فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن زلال الماء لم يَرِدِ
يعزوها بعضهم إلى الوليد بن اليزيد. ومن لاحظ أن القصيدة جمعت فنونًا من
الخيال لا يفحص عنها ويجمعها في نظم واحد إلا شاعر نشأ أيام دخل التصنع في
الشعر وهو عهد الدولة العباسية - أعرض عن هذه الرواية وذهب إلى أن تكون كما
قيل لأبي القاسم بن طباطبا المتوفى سنة ٣٤٥ أو ذي القرنين بن حمدان المتوفى
سنة ٤٢٨.
ترقى التخيل يوم دخل الشعر في طور التصنع ولكن التصنع هو الذي جر
إلى استعارات مكروهة وتشابيه سمجة أيضًا، فقد اقتحم أبو تمام والمتنبي ومن
بعدهم في هذا الغرض مساوئ لم يرتكبها الجاهلية، فالعربي الصميم - وإن كان
معظم تخيلاته ساذجة - لا يعالج قريحته ليستنبط لك منها مثل قول أبي نواس:
بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح
أو قوله:
ما لرِجل المال أضحت ... تشتكي منك الكلالا
وتمادى الشعر ما بين تخيل فطري وتخيل فلسفي وتخيل علمي إلى هذه
الأعصر، وإن كان النوع الأول هو الغالب في النظم والمألوف في التخاطب لأن
التخيلين الفلسفي والعلمي، إنما يليقان بكلام يوجه به إلى الخاصة من الناس وأما
التخيل الفطري فيصلح لخطاب الخاصة والجمهور.
والضرب الفلسفي لا يعد في الحقيقة تطورًا في نفس التخييل وإنما هو تطور
لَحِقَه من جهة دخوله في منزع جديد أعني الخوض في حقائق وسنن كونية على
طريقة النظر العميق.