(س٢٣) أ. ت بقزان (روسيا) أعرض عليكم أيها الأستاذ ما اعترض به عليَّ أحد الروسيين -بعدما ترجمت له تفسير القرآن من مجلتكم المنار الأغر - على قول الأستاذ بالاتصال بين الآيات والسور، قال: إن المتفق عليه عند علماء المسلمين أن القرآن نزل إلى الرسول عليه السلام مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة وأول سورة نزلت {اقْرأْ بِاسْمِ} (العلق: ١) على قول الأكثرين، وهذا المصحف الذي أوله سورة الفاتحة ليس على ترتيب النزول بل جمع ورتب بهذا الترتيب في عهد أبي بكر -رضي الله عنه - فكيف تكون الآيات والسور متصلة مع ما يليها، على أن بعض الآيات من السورة الواحدة أنزلت بمكة وما يليها بالمدينة وبين نزولهما عدة سنين؟ وأيضًا كيف جمعوا السور والآيات على الترتيب هل كان بتعيين من النبي عليه السلام أم لا؟ وهل في هذا خبر متواتر أو مشهور؟ وأنا الحقير أجبت الروسي بقدر وسعي والآن أرفع المسألة إلى حضرتكم راجيًا منكم الجواب ولكم من الله الأجر والثواب. (ج) لا خلاف بين المسلمين في أن بعض السور نزل جملة واحدة وبعضها نزل متفرقًا على حسب الوقائع والأحوال، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يجمع كل سورة عند اكتمالها ويمليها على كتبة الوحي ويقرِئها القارئين، ولكن جمع السور كلها في مصحف واحد هو الذي كان على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكتبت النسخ ووزعت على الأمصار في خلافة عثمان فعملهم هذا كان عملاً إجماعيًّا ونقلاً متواترًا، لم يختلفوا في ترتيب السور فضلاً عن ترتيب الآيات، وإنما تردد عمر أولاً في جمع القرآن في مصحف واحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك ثم وافق منشرح الصدر وكأنه تذكر أن زمنه - عليه السلام - كان كله ظرفًا للوحي، وإنما يكون الجمع بعد التمام، وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: ٢٨١) الآية، وعاش النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات، فأنت ترى أن تسع ليال في المرض لا تتسع لجمع القرآن في مصحف واحد، وأنه لم يكن ذلك ضروريًّا فإنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر عند نزول كل آية بأن تلحق بسورة كذا ويعين موضعها ويقرِئهم السورة بعد تمامها، وكان عالمًا بأن كل ذلك محفوظ في الصدور وفي الطروس ونحوها مما يكتب عليه، ولو لم يكن هذا الترتيب متفقًا عليه؛ لأنه مأخوذ عنه - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر لاختلفوا فيه اختلافًا عظيمًا فلا حاجة إلى الإطالة بذكر الروايات مع هذه الحجة. وأما الاتصال بين السور وما فيه من التناسب والتناسق ونكت البلاغة، فهو تابع للترتيب، وقد علمت أن الترتيب كان مقصودًا بتوقيف من الشارع، وما كان بالقصد يراعى فيه مثل ذلك، ولو رتبت الآيات كلها على حسب النزول لكان اتصال بعضها ببعض والتناسب بين المتقدم منها والمتأخر من مثارات العجب التي يسأل فيها عن السبب، أما وقد رتبت بالقصد وبالتوقيف من الوحي فهي كأنها نزلت مرة واحدة بهذا الترتيب، فاعتراض الروسي على ما نذكر من وجوه الاتصال والتناسب بين الآيات مبني على الجهل بأن ترتيب الآيات كان توقيفيًّا، على أنه لو كان من عمل الصحابة لما كان ذلك فيه غريبًا إلا إذا ثبت أن هذا التناسب قد انتهى في البلاغة إلى حد الإعجاز فكان بنفسه معجزًا، وليس هذا ببعيد فوجوه الإعجاز في القرآن كثيرة ومنها هذا الوجه الوجيه. هذا وإن التناسب في اتصال الآيات بعضها ببعض بيِّن ظاهر لا تكلف فيه ولا تعسف، وليس هو قبيل الدعاوى النظرية فيورد عليه ما أورد بل هو من الأمور الوجودية الحقيقية، فليفرض ما شاء في جمع القرآن وترتيبه فهو شيء قد مضى وهذا شيء حاضر لا يمارينَّ فيه إلا مكابر، وإننا إن شاء الله تعالى سنجرد تفسير المنار ونطبعه على حدته ونضع له مقدمة نشرح فيها هذه المسائل وأمثالها شرحًا كافيًا، والله الموفق والمعين.