كان دائم العمل (٢) إن كثيرين من شبان اليوم - وغير اليوم أيضًا - يكثرون من التحدث عن كثرة أعمالهم إذا كان للواحد منهم عمل منتظم في الحكومة أو في دائرة من الدوائر الأهلية، وقد لا يتجاوز عمل الواحد منهم ست ساعات يعمل فيها ببطء وتؤدة وهو يستطيع إنجاز عمله كله في نصف هذا المقدار من الزمن إذا أجهد نفسه قليلاً. وأما السيد رشيد فقد عرفته من عام ١٩٠٧ وكنت مقيمًا في منزله إلى أواخر عام ١٩٢٢، فكنت أدهش من عمله المتواصل: يستيقظ في الصباح مبكرًا جدًّا فيصلي الصبح حاضرًا ويكون قد تهجد قسمًا من الليل قبل حلول وقت الصلاة، ثم يستريح قليلاً وبعد ذلك يجلس في مكتبه فيقرأ ويكتب ويظل على ذلك إلى أن يحضر له الفطور فيجلس إلى المائدة، وفي أثناء الفطور تتاح له فرصة قراءة الصحف الصباحية وبعد ذلك يرجع إلى مكتبه إلى أن يحين وقت الغداء فيتغدى ثم يأوي إلى فراشه قليلاً، وبعد ذلك يصلي العصر ثم يذهب إلى مكتبه للعمل، وقد يستمر في عمله إلى ساعة متأخرة من الليل، وفي أثناء الليل يصحح كثيرًا من المسودات التي جمعت من مجلته (المنار) أو مؤلفاته المختلفة أو ما يطبع في مطبعة المنار من كتب النجديين أو ما شابهها مما يحتاج للدقة في المراجعة من جهة سند الأحاديث أو صحة النقل أو وجاهة الرأي. قلت: إنه ينام بعد صلاة الفجر والواقع أنه ينام أحيانًا، وأحيانًا يخرج إلى النزهة في تلك الساعة الهادئة، وكثيرًا ما يذهب إلى مسافات بعيدة جدًّا ويصل أحيانًا إلى الأهرام والناس نيام ثم يعود ماشيًا أو راكبًا، وقد اتخذ هذه الخطة ولا سيما عندما سكن بجوار كوبري الملك الصالح، ويسير في تلك الساعة حاسر الرأس وقد يكون الجو باردًا. وفي نزهته هذه يصطحب معه مصحفًا أو مسبحة فيتلو ما تيسر له من القرآن أو يسبح الله كثيرًا. ولقد اشتهرت فسحته هذه وجعلت كثيرين من أهل الأحياء المجاورة يقلدونه فيها. ولقد كان نشيطًا في عمله في مكتبه وفي نزهته وكان يسير بقوة يعجز عنها الشبان، وأذكر أنني كنت أسير معه أحيانًا - وهو في الكهولة وأنا في أول مراحل الشباب - فما كنت أستطيع السير بجواره، فكنت أسير وراءه بكل مشقة وعناء، ولو أنه - رحمه الله - نظم عمله ووظف من يريحه من قراءة المسودات واشتغل في الوقت الذي كان يشغله بالمسودات بالتأليف، لزاد عمله نحو النصف، ولكان محصوله العلمي أكثر مما خلَّفه، مع كثرته وعظيم فائدته العلمية وحسن تنظيمه وإتقانه وإبداعه. الإتقان في العمل وله ذوق مشهور في إتقان كل شيء، ويتجلى ذلك في مؤلفاته وحياته العامة والخاصة. وقراء مجلته المنار يعرفون له الفضل العظيم في وضع تلك الفهارس المتقنة للموضوعات والأعلام، ولم يقصر فهارسه المنظمة على المجلة، بل وضعها لتفسيره فوضع لكل جزء من التفسير فهارس منظمة تسهِّل على الباحث العثور على طلبته بسرعة. وعمل هذه الفهارس يأخذ قسمًا كبيرًا من وقته، لو تيسر له العثور على من يعملها له لوفر جزءًا من وقته. وأذكر أنني عندما كنت في داره في شارع درب الجماميز - وكنت لا أزال مراهقا - كنت أساعده في عمل تلك الفهارس مساعدة آلية، فقد كان - رحمه الله - يكتبها متتابعة وكنت أتسلمها منه وأقصها ثم أضع ظروفًا عليها حروف الهجاء فأضع في كل ظرف الموضوعات التي تدخل في حرفه، ثم أرتب كل حرف ترتيبًا منظمًا وألصقها مرتبة ثم نقدمها للطبع. وقبيل وفاته أراد أحد الأصدقاء عمل فهرس لمجلد المنار الأخير وعمله بالفعل؛ ولكنني سمعت المرحوم ينتقد عمله بأنه غير وافٍ بالموضوعات المهمة كلها؛ ولذلك لم يعتمد عليه فلم يطبع. هذا ولكثرة عمله كانت الفهارس تتأخر؛ لأنه ما كان يعتمد على أحد في عملها، وهذا يرجع إلى عظم دقته وإتقانه في عمله رحمه الله. ولم تقتصر دقته على أعماله العلمية، بل إنه كان يحب الإتقان والدقة في مأكله ومشربه وملبسه إلى درجة يعرفها كل من خالطه عن قرب أو بُعد، وأما إتقان مطبخه فذلك حديث الجميع، حتى إن السيد محمد الغنيمي التفتازاني طالما كان يتفكه بقوله: (إن الواجب على وزارة المعارف العمومية أن تعهد إلى بعثة من البنات بالتخصص في فن الطبخ في منزل السيد رشيد رضا) . وكان كرمه مضرب المثل - ولا يزال كذلك - في جميع البلدان الشرقية؛ فقد كان حريصًا على إضافة كل قادم إلى مصر، وأما أصدقاؤه فقد كانوا يذهبون إلى داره من غير كلفة؛ غير أنه في أواخر أيامه كان يواظب على صيام أيام مخصوصة منها الأيام البيض؛ ولذلك كان أصدقاؤه يعنون بمعرفة أيام صيامه حتى إذا ما حضروا استطاعوا أن يأكلوا معه فيشبعوا أجسامهم بطعامه وأنفسهم بعلمه ومعارفه. عطفه وكرمه ولا زلت أذكر عندما كنت يافعًا وكنت في داره بشارع درب الجماميز، وكان الوقت وقت شهر رمضان، فكان إذا أحس أن الوقت أشرف على الفجر ولم يبق مجال للأكل فكان يسرع إلى إيقاظي ويحضر لي اللحم المحمر وما أشبه، ويقف فوق رأسي يحثني على الأكل بسرعة، قالت مرة جدتي - والدته -: (إن محيي الدين يجزع من رمضان كثيرًا) فقال لها ضاحكًا: (الله يحفظك يا والدة، أنت سمينة تتغذين من شحوم جسمك، وأما هو فنحيف يحتاج للغذاء حتى يستطيع النهوض والعمل) . وكان كريمًا جدًّا بالمال ولا سيما في الأعياد والمواسم؛ فكان يعطيني في العيد ما لا يقل عن نصف جنيه ذهبًا - طبعًا عندما كنت صغيرًا - فلما كبرت صار ينفح أولادي بالنقود، وكنت أراه يعطي كثيرين من الشبان الشرقيين وطلاب العلم نقودًا، ولا زلت أذكر مرة أنه دفع لشاب عراقي جنيهًا ذهبًا في أيام الحرب وكان بائسًا، فامتنع عن الأخذ فألح بقوة، وقال له: (إنني لا أتصدق عليك، وإنما يمكنك أن تحسبه سلفة من محيي الدين، وعندما توسر ترده إليه) وبذلك أخذ الجنيه، وهو الآن محامٍ وكان موظفًا بالحكومة العراقية في بغداد. ولطالما مد إليه كثير من العظماء أيديهم فردها مملوءة، ولم يكن يذكر ذلك لأحد ما؛ وإنما سمعت هذا من الخادم الذي كان واسطة الدفع، وهنا أنقل للقراء كتابًا ورد إليَّ من الشيخ محمد بن سياد أمين مكتبة الحرم المكي، قال - حفظه الله -: عزيزي السيد محيي الدين: حزني على الأستاذ السيد مثل حزن الولد على الوالد، فإنا لله وإنا إليه راجعون. كان سمع نبأ وفاته - رحمه الله ورضي عنه - ليلة الجمعة التي قبض فيها في جدة في الراديو، وبلَّغنا الخبر الأخ محمد أفندي نصيف صباحًا بالتلفون فأحسست بالمصيبة ودب الحزن في نفسي، غير أني كابرت الناس فيه وأنكرت وقع ذلك الخبر وكذَّبت الخبر بادئ بدء، ثم جعلت أتمنى أن يكذب الناس معي هذا الخبر، وهيهات أن يفعل الناس ما تمنيته وقد أرغمتهم الحقيقة على الاعتراف بالواقع، فإذا هم يكتبون به في جرائدهم ويتحدثون في أنديتهم ويصلون على المرحوم في مساجدهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأعظِم اللهم لنا الأجر وأحسن لنا العزاء وألهمنا السلوان يا سيد محيي الدين في هذا العالم الكبير والأستاذ الجليل والمرشد العظيم، وتغمده الله وأخاه الوالد المرحوم برحمته، وقابلهما برضوانه، وجعلهما في فسيح جناته. أذكره - رحمه الله - حين كان يمدني وأمثالي من طلبة العلم المنقطعين في أثناء الحرب العمومية بشيء من ماله الخاص، وكان - رحمه الله - يمثل بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأكبر صلى الله عليه وسلم: (إنك لتحمل الكل وتكسب المعدوم) وأذكره رضى الله عنه حين أنقذني من السجن بكفالته الشخصية - ونعمت - يوم اعتقلني الإنكليز في أوائل الحرب العمومية اعتقالاً سياسيًّا، ولولاه رضي الله عنه لامتد اعتقالي إلى أواخر الحرب كما وقع لكثيرين أمثالي، وكذلك كان يمثل بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأعظم صلى الله عليه وسلم (وتعين على نوائب الدهر) وكان - رحمه الله - يعمل حسبة لله لا عن إيعاز من أحد ولا عن مسألة وتعرض، فواحسرتاه على هذا البر المجسم الذي فقدناه وواحسرتاه، وكان - رحمه الله - ذا الجناحين يعلم علوم الدين ويفقه في أمور السياسة، وما أعظم فقر العالم الإسلامي إلى مثله وما أشد الخطر على الثغر الذي كان - رحمه الله - مرابطًا عليه يدافع عن بيضة الإسلام بعد فقدانه. * * * هذا ما كتبه عالم صوفي جليل، وهو يكشف لنا عن ناحية كانت مخفية من نواحي عظمة فقيدنا، وما إنشاء دار الدعوة والإرشاد إلا غرة في جبينه، رحمه الله؛ فقد جمعت طائفة من طلاب العلم من بلدان الشرق أحدثوا أثرًا محمودًا في النهضة الإسلامية العربية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحزين ... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين رضا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة