الشمس مشرقة تطوق بأشعتها الأرض كل يوم، والأبصار محدقة تحيط بما يتنزل فيها من كل أمر، يكاد كل إنسان يعرف من أخبار الأرض ما تعرفه الشمس إن كانت ترى الأشياء كما تريها للناس؛ لأنه جعلها بتصرفه في قوى الطبيعة كالمدينة الواحدة يسهل على من يشاهد أمرًا في رجًا منها أن يفضي به إلى من في سائر الأرجاء , فالبرق الخافق ما بين الخافقين، يفضي إلى المغربين بأخبار المشرقين، وينبئ المشرقين بأعمال المغربين، فطرق العبرة معبّدة، ورواحل الهجرة مذللة، وجني العلوم والعرفان دان، تتناوله الأيدي من كل مكان. هذا التواصل في المكان، والتقارب في الزمان، لم يدعا عذرًا لشعب أو جنس من الناس، إذا لم يجار ويبار سائر الشعوب والأجناس، فقد عهدنا من طبيعة أطفال هذا النوع أن يقلدوا كباره الذين ينشئون بينهم في كل ما يرونهم عليه حتى يكونوا رجالاً مثلهم في أعوام معدودة، وعهدنا من طبيعة رجاله أن يستقلوا دون من تربوا معهم بأمور تكون لهم مزايا مشهودة، فالتقليد والاستقلال في الأعمال الكسبية، كالتوارث والتباين في النواميس الطبيعية بهما يحفظ الإنسان أحسن ما وجد، وبهما يبتدع ما لم يجد، فهما الجناحان اللذان يطير بهما البشر في جواء العلوم والأعمال، حتى يصلوا إلى ما استعدوا له من الكمال. ارجع الطرف إلى ما رأيت من أحوال شعوب هذا العصر، وأصخ الأذن إلى ما تسمع من أخبارهم في كل يوم؛ تعلم أن جميع الشعوب والأجناس قد سارت على طريق الفطرة البشرية التي أومأنا إليها آنفًا ما عدا المسلمين فإنهم كادوا يكونون في هذا العصر من طبيعة غير طبيعة البشر , لكنها دونها بعد أن كانوا قد فاقوا سائر البشر، وسادوهم فكانوا فوقهم أجمعين. إن أرقى المسلمين في هذا العصر مسلمو تركيا ومصر والهند فهل تستطيع أن تقول: إن أحدًا منهم ساوى شعبًا من شعوب الملل المجاورة لهم؟ قد انقدّ من جسم الدولة العثمانية عدة شعوب نصرانية ما منهم شعب إلا وهو الآن أرقى من مسلمي هذه الدولة تركها وعربها وكردها - أرقى منهم في الحكومة والمدنية، أرقى منهم في العلوم والفنون، أرقى منهم في الصنائع والأعمال، أرقى منهم في الآداب والاجتماع، ولك أن تستغني عن ذلك كله بأن تقول: إنهم أرقى منهم في جميع شئون الحياة. وإن تعجب فأعجب من هذا أن يكون النصارى الذين لا يزالون تحت سلطة هذه الدولة أرقى من مسلميها في جميع شئون الحياة على أنهم أقل منهم عددًا ومالاً وحقوقًا في مناصب الدولة , فماذا تقول إذا قابلت بين مسلمي تركيا ونصارى فرنسا وألمانيا وإنكلترا وسائر دول أوربا اللواتي أصبحن مسيطرات على تركيا حتى في كثير من شئونها الداخلية , وقد كن منذ قرنين أو ثلاث قرون يرتعدن من مهابتها والخوف منها. ماذا فعل مسلمو مصر بعد الاشتغال بالتربية والتعليم على الطريقة الأوربية قرنًا كاملاً؟ إنه لم يوجد فيهم فلاسفة ولا مخترعون ولا مكتشفون ولا محررون لشيء من العلوم، بل لم تَسْمُ هممهم إلى إنشاء مدرسة كلية , بل لا يكاد يوجد في عشرة آلاف ألف منهم عشرة رجال مستقلين في الرأي والإرادة لا يهابون في الحق حاكمًا , ولا يخافون فيه لائمًا، قد خرج حكم بلادهم من أيديهم , وهذه رقبتها تكاد تخرج أيضًا بما يمتلك أفراد الأجانب وشركاتهم من أطيانها في كل عام، وما يبتزون من أموالها في كل يوم , ولا نطيل في وصف حالهم فجرائدهم اليومية تغنينا عن ذلك بما تسهب فيه آنًا بعد آن، فكيف يكون حكمنا عليهم إذا قسناهم بنصارى أوربا أو وثنيي اليابان؟ . وهؤلاء مسلمو الهند يعيشون بين أمم من الوثنيين البوذيين والبراهمة ومن المجوس والإفرنج , وكانت لهم في تلك البلاد السيادة العليا في العلم والحكم قد أمسوا وراء هذه الشعوب كلها في العلم والعمل والتربية والثروة فلم تَسْمُ هممهم لمسابقة من هم أكثر منهم عددًا كالهندوس، ولم يخجلوا أن يسبقهم من هم أقل منهم كالمجوس. حدثني سائح مسلم جال في بلاد الهند جولان مختبر قال: رأيت المجوس أرقى شعوب الهند علمًا وعملاً وأخلاقًا وآدابًا وأكثرهم برًّا وإحسانًا لأنفسهم ولجميع من يعيش معهم. رأيتهم في بعض البلاد قد زادت مدارسهم عن حاجتهم فكانوا يبنون المدارس لتعليم سائر الطوائف من المسلمين والوثنيين. سمعت خطيبًا منهم يخطب في محفل حافل فأدهشني بسمو أفكاره، وسعة عرفانه، فقارنت بينه وبين شيخ مسلم سمعته يخطب في مجتمع عام في بومباي يشبه ميدان الأزبكية في مصر وقد أحدق به الناس، من جميع الملل والأجناس، فرأيت الفرق بين المسلم والمجوسي عظيمًا. سمعت المسلم يذكر في خطابه من مكانة الشيخ عبد القادر الجيلاني عند الله تعالى أنه إذا اختطف غراب عظمًا من عظام الذبائح التي تذبح في مولد الشيخ عبد القادر فوقعت منه في مقبرة للكفار فإن الله تعالى يغفر لجميع من دفن فيها كرامة للشيخ. وسمعته يذكر تلك الكرامة التي ذكرت في بعض كتب مناقبه , وملخصها أن مريدًا له مات , فحمل أهله الشيخ على إحيائه فطار في الجو ليدرك ملك الموت فيستعيد منه روح المريد فامتنع عليه ملك الموت قائلاً: لا يمكن أن أعيد روحًا قبضتها بإذن الله إلا بإذن من الله , فغضب الشيخ واجتذب الوعاء الذي أودع ملك الموت فيه الأرواح التي قبضها في ذلك اليوم فوقعت وانكبت الأرواح منها فطارت كل روح إلى جسدها فحيي جميع من مات في ذلك اليوم كرامة للشيخ ولا نجرؤ على ذكر ما قيل في شكوى ملك لربه وما أجيب به. السواد الأعظم من مسلمي الهند يسلمون بمثل هذه الأقوال , ومن ينكرها منهم في نفسه لا ينكرها بلسانه، وإنما ينكر الأكثرون كل دعوة إلى الإصلاح بالعلم الصحيح والتربية القويمة كما هاج أرباب العمائم في بمباي على خطيب المسجد ذي المنارات أن قال في خطبته: (إخواننا الشيعة) وكادت تكون فتنة لولا عناية بعض العقلاء , وإنهم ليبذلون في مولد الشيخ من النفقات ما لو بذلوه في تعميم التعليم لوفى به. في الهند حركة إسلامية جديدة يرجى خيرها , ولكنها ضعيفة المنة بطيئة السير لا يقارب أصحابها أحدًا من أهل الملل الأخرى في سعيهم وجدهم، فماذا جرى للمسلمين، وما الذي دفع بهم من عليين إلى أسفل سافلين؟ . بينا غير مرة أن بلاء المسلمين قد جاءهم من ناحية دينهم فمثاره غرورهم بدينهم , أو ابتداعهم في دينهم , أو جهلهم بدينهم , أو لبسهم لدينهم كما يلبس الفرو مقلوبًا , قبلوا كل داهية عرضها عليهم رؤساؤهم المفسدون بشكل ديني وإن كانت ناكسةً له على رأسه، أو ناسفةً له من أساسه، وأعرضوا عن كل علم وعمل وخير ونعمة وفائدة لم يلونها لهم رؤساؤهم الجاهلون بلون ديني , وإن كانت من لباب الدين وصميم الدين أو من سياج الدين الذي يتوقف عليه حفظ الدين أو بقاء الدين. ولكن هؤلاء الذين قبلوا كل شر باسم الدين، وقد يرفضون كل خير بشبهة الدين قد خويت قلوبهم من الدين حتى لا تجد في الألوف منهم واحدًا يُحَكِّمُ ما يعتقد من الدين في أهوائه وعاداته , فالعادات والتقاليد المتبعة هي المُحَكَّمَة دون ما يعتقد بالبرهان، أو يعترف به؛ لأنه منصوص في القرآن. لا نطيل في شرح هذه المسألة , ولا ندع التمثيل لها بما فعل المسلمون بأساسيها الديني والدنيوي أو الروحاني والجسماني - أساس الإسلام الروحاني توحيد الله تعالى , وإسلام الوجه إليه وحده , فجميع العبادات إنما شرعت للتذكير بهذا الأصل والإمداد له والمحافظة عليه , ومن معناه أن لا يلتمس الإنسان شيئًا ما إلا من الله تعالى، أي: من السنن العامة التي ربط بها الأسباب بالمسببات , ومن الشرك بالله أن يطلب الإنسان شيئًا ما من غير سببه العام، المبذول من مقام الرحمة والإحسان لجميع الأنام، فإن جهل السبب أو تعذر عليه توجه إلى الله وحده لعله يهديه إلى سبب آخر أو يسهل له الحَزَنَ ويذلل له الصعب. ولكنك ترى جماهير المسلمين قد صاروا أبعد الأمم عن استعراف سنن الله تعالى في خلقه والاعتماد عليها دون الأسباب الوهمية، وما نحلوه لبعض الناس من السلطة الإلهية الغيبية، وبهذا صار غيرهم أقرب من جماهيرهم إلى حقيقة التوحيد الخالص في الاعتقاد والعمل، وإن كانوا هم أصحاب القول والدعوى. وأساس الإسلام الدنيوي جعل أمر المسلمين في حكومتهم شورى بينهم لا يستبد بها الآحاد منهم كما يستبد الملوك والأمراء في الحكم عادةً , ومن ثم أجمع الصحابة على أن الإسلام لا ملك فيه ولا سلطان لغير الله تعالى على أهله , وأن أحكامه شورى بين أولي الأمر وهم أهل العلم بالمصلحة العامة والرأي الذين تحترمهم الأمة وتثق بهم , وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم في زمنه في الشؤون الدنيوية تربيةً للمسلمين بالعمل على ما أرشد إليه الكتاب العزيز , وكان خلفاؤه من بعده يعملون برأيهم أيضًا , فهذا الأساس في القسم الدنيوي من الإسلام كالتوحيد في القسم الديني الروحاني منه , فكما شرعت العبادات لتدعم التوحيد وتحفظه شرعت الأحكام المدنية والقضائية , وفوض غير المنصوص منها إلى جماعة أولي الأمر لتدعم الشورى التي هي أساس الحكم الإسلامي , ولكن المسلمين قد فعلوا بهذا الأساس شرًّا مما فعلوا بالأساس الأول؛ لأن نزعات الوثنية التي زلزلت التوحيد لم تكن عامةً لجميع المسلمين , ولكن الرضى بحكم الأفراد الاستبدادي , وهدم ما بناه القرآن وأجمع عليه الصحابة من حكم الشورى قد رضي به جميع المسلمين في بلاد لهم فيها سلطة إلا ما لا يخلو عنه الزمان من أفراد ينكرون هذه السلطة بألسنتهم دون أن يؤلفوا جمعيات تقوضها. على أن الإنكار باللسان، لم يتيسر لهم في كل زمان، ولذلك اكتفوا بإنكار القلب الذي سماه الرسول أضعف الإيمان. للإسلام أصول وفروع فمن حفظ الأصول وقصر في الفروع لا يقطع رجاؤه من مغفرة الله تعالى , ومن ترك الأصول كان تاركًا للدين بالمرة غير معدود من أهله ولا رجاء له مع تركها , وأهم أصول الإسلام ما ذكرنا من التوحيد في القسم الروحاني , وحكم الشورى في القسم الجسماني , فمتى يرجو النجاة في دينه من ترك الأصل الأول فجهل سنن الله تعالى , وعلق قلبه ببعض عبيده الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا كما قال القرآن في شأن خير الخلق من النبيين والمرسلين. وكيف يرجو النجاة في دنياه من رضي بحكم الأفراد الاستبدادي , وجعل لنفسه رئيسًا من البشر مقدسًا غير مسئول، أي: إن له في ملكه ما أثبت الله تعالى لنفسه خاصةً بقوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) بل كيف ينجو في آخرته من خالف نص القرآن وإجماع المسلمين في الصدر الأول , وهو يسلم بقول الفقهاء عامةً أن من ترك أو رضي بترك نص القرآن ومخالفة الإجماع المعلوم من الدين بالضرورة فهو كافر خالد في النار كعباد الأصنام. طال الزمان على إهمال القرآن وترك الإجماع حتى صار أكثر المسلمين يجهلون حقيقة السلطة في الإسلام , بل صار الكثيرون من عامتهم يعتقدون أن للسلطان أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بتفويض من الشرع كأن الشرع جعل له سلطانًا على الشرع ينسخ منه ما يشاء , ويحكم ما يشاء , وينفذ من أحكامه ما يشاء , ويلغي منها ما يشاء فله من التصرف فيه ما لم يكن لمن جاء به؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري , بل منهم من يعتقد أنه غير مساو لسائر المسلمين في الأحكام الشرعية , ومما امتاز به عند بعضهم أنه إذا نظر إلى امرأة متزوجة واشتهاها فإنها تحرم على زوجها وتحل له! ! وهذا كفر صريح. وحدثني محمود باشا داماد أن الفلاحين في الأناطول يعتقدون أن السلطان مخالف للبشر في صورته , ومن ذلك أن شعر لحيته أخضر. أما أهل العلم والفهم فهم يَدَّعُونَ أنهم أُخِذُوا بالقهر وغلبوا على أمرهم فإذا نطقوا بالحق عمل سيف الباطل عمله في رقابهم، فلم يبق لهم إلا الرضى بأضعف الإيمان وهو الإنكار بقلوبهم. هل يصدق بهذه الدعوى - دعوى أضعف الإيمان - من يمدح المستبدين ويدهن لهم ويدافع عنهم؟ هل يصدق بها من يعمل لهم ويقبل وظائفهم ورتبهم وشارات الشرف التي ابتدعوها لأعوانهم؟ هل يصدق بها من لم يبذل جهده في دعوة أمثاله إلى الاجتماع سرًّا، لتأليف جمعية تطالبهم بحكم الشورى جهرًا، وتقسرهم عليه بقوة الأمة قسرًا، فإن الله تعالى ما فرض القيام بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمة، أي جمعية تكوّن من الأمة إلا لتكون بمأمن من المستبدين، مسيطرة عليهم باسم الدين، فماذا فعل هؤلاء العلماء بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) وبقوله عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) . إذا ادعى هؤلاء العجز عن ذلك , فماذا يقول العلماء الذين لا يمنعهم مانع من الاستبداد ولا من غيره عن دعوة الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحكام في غير بلادهم , إذا كان علماء كل بلاد يخافون بأس حكامهم فماذا يمنعهم أن يطالبوا حكام سائر بلاد المسلمين بإقامة العدل على أساسه الذي وضعه القرآن {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) ؟ إذا كتب علماء الأزهر أو علماء الهند بذلك إلى سلطاني الترك والفرس وسلطان المغرب وأعلنوا نصيحتهم في الجرائد فهل يخشون أن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض؟ أيحسبون أن كتابتهم لا تفيد ولا تنفع؟ كيف وهم يعلمون أن بعض السلاطين يهتم لكلمة يقولها في ذلك أحد أصحاب الطرابيش الذين لا قيمة لأقوالهم عند السواد الأعظم من المسلمين؟ ادعوه فأرضوه، أو خذوه فغلوه. لا شك عندنا أن كتابه علماء مصر وعلماء الهند إلى السلطان العثمانى بطلب الإصلاح تفعل في هذه الدولة - التي يتمنى الجميع صلاح حالها - ما لا تفعله الثورات التي تجرى فيها أنهار الدماء طلبًا للإصلاح وإزالة الاستبداد في سائر الممالك. علماء مصر أبعد عن فهم السياسة والوقوف على المسائل العامة من علماء الهند , ولم يتعودوا من الاجتماع للمشاورة في مصالح المسلمين ما تعوده علماء الهند الذين أسسوا جمعية (ندوة العلماء) وغيرهم , فعلماء الهند أولى بأن يبدؤوا بهذه النصيحة , وعليهم أن يعجلوا بها فإن نذر الدول الأوربية تنذر الدولة العثمانية بجعل سائر ولاياتها تحت مراقبة دول أوربا الكبرى على الطريقة التي جرين عليها في كريت ومكدونية، وإذا تحقق ذلك - والعياذ بالله - فقد زالت سلطة المسلمين إذ لا يعقل أن يقضين على تركيا ويبقين على إيران , ومراكش كادت تكون مذ الآن في خبر كان. إذا كانت آفة المسلمين من جهة دينهم قد جاءت من رؤسائهم , وكان إفساد رؤساء الدنيا لم يتم إلا بمساعدة بعض رؤساء الدين وسكوت الآخرين , وكان طول الأمد على هذا الإفساد قد أضعف في نفوس المسلمين الاستعداد للاستقلال الذاتي , وكانت عزة الأمم في هذا العصر رهينة بهذا الاستقلال , وكانت الملوك لا تترك استبدادها مختارة , وكانت الشعوب الإسلامية لم تسم للنهوض بإكراه حكامهم على العدل والشورى كما نهضت الشعوب المسيحية واحدًا بعد آخر كما أنبأنا تاريخ من فازوا في الماضي وكما نشاهد اليوم فيمن يستقبلون الفوز في روسيا , وكان الذي مكن لحكام المسلمين سلطان الاستبداد هو اعتقاد رعاياهم أن الدين يوجب طاعتهم على الإطلاق , وكان الحق المجمع عليه أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق , إذا كان ما ذكر كما ذكر فالواجب على العلماء الأحرار في مثل الهند ومصر أن يبينوا لملوك المسلمين وعامتهم الحق في ذلك ما دام في القوس منزع , أن يطالبوا الملوك بالعدل والإصلاح في الأرض بحكم الشورى , فإن لم يستجيبوا لهم فليستعينوا عليهم بالعامة والجرائد بعد أن يبينوا للعامة في الجرائد حكم الله في حكومة الإسلام , والفرق بين الخليفة أو السلطان أو الأمير المقيد بالشريعة والشورى المسئول لدى الأمة في الدنيا وعند الله في الآخرة وبين الإله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. لعل علماء الهند لا يعرفون كنه الخطر القريب الذي تتهافت عليه الدولة العثمانية؛ لأن أكثر جرائدهم كجرائد مسلمي مصر تكتم عنهم ما تعرف من مساويها- على أنها لا تعرف إلا النزر اليسير - وتحليها بالفضائل والفواضل المنتحلة التي ترى أنها تشد أواخي الآمال بها وتمثل عدوان أوربا عليها بأقبح المثل وأشنع الصور؛ فتخلق لها من ذلك كهيئة الأعذار عن إصلاح أمورها الداخلية، وتجذب به إليها قلوب الشعوب الإسلامية، وهي تظن أنها لا تفعل بذلك إلا خيرًا. والحق الذي عرفناه بعد البحث الدقيق والنظر الطويل أن ضرر هذه الخطة يرجح بجميع حسنات الجرائد , وإذا كان أكثر الناس يجهل هذا الضرر فإن بعض أصحاب الجرائد المصرية يعرفه ولا يتسع هذا المقال لبيانه , ولكننا نلفت الأفكار إلى البحث في مسألتين منه (إحداهما خارجية) وهي أن دعوة المسلمين في البلاد التي وقعت تحت نفوذ أوربا إلى الاعتصام بعروة الدولة العلية هي التي كادت تجمع كلمة الدول العظمى على الإيقاع بها والقضاء عليها من غير فائدة لها ولا لهم , وهذا ما أعني بالخطر القريب , وقد رأينا بوادره ونعوذ بالله من أواخره (والثانية - داخلية) وهي مناصبة الدولة للعلم والتعليم والكتب والاجتماع والتعاون لا سيما في سوريا وفلسطين وكثرة المكوس والضرائب والمظالم مع قلة وسائل العمران , فلينظر المحب المنصف في عاقبة أمة تعد حكومتها اقتناء أحسن كتب العلم الدينية والدنيوية من أكبر الجرائم والجنايات , وتشدد في العقوبة عليها ما لا تشدد على إزهاق الأرواح وسلب الأموال حتى صار الناس يحرقون كتبهم الموروثة! ! إذا سلمنا ما يقوله بعض أصحاب الجرائد وما يعتقده بعض المخلصين من مسلمي مصر وغيرهم أن انتقاد جرائد المسلمين لإدارة الدولة ومطالبتها بالإصلاح تشهير ضار؛ فهل يمكن أن يسلم عاقل لجاهل يقول بلا فهم: إن نصيحة يكتب بها علماء المسلمين للسلطان قيامًا بما أوجبه الله تعالى تُعَدُّ تشهيرًا ضارًّا؟ ما أظن أن الجاهل الغبي الذي يخطر له مثل هذا قد خُلِقَ , ولئن كان مثله مخلوقًا فهو من الديدان التي لا صوت لها. أيها العلماء الأعلام , إذا كان الدين عندكم كل شيء فلن تقيموه حتى تعملوا بقول من جاءكم به (عليه الصلاة والسلام) : (الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) (رواه مسلم) فإلى لجنة (ندوة العلماء) نوجه هذا التذكير , ثم ندعو من يقرأه من سائر العلماء أن يذكر به إخوانه , ومن أحب منهم أن يراجعنا في موضوع النصيحة بالتفصيل وفي كيفية الاجتماع لها وطريق أدائها فإننا مستعدون لبيان ما نسأل عنه ونضرع إلى الله تعالى أن يجعل إنقاذ هذه الأمة على أيدي علمائها , وأن يصلح الراعي والرعية بإرشادهم , والسلام على من أجاب داعي الله في كل مكان وزمان. ((يتبع بمقال تالٍ))