(الوجه التاسع والستون) قولكم: إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام المتبوع مع التابع فالركب خلف الدليل؛ جوابه: إنَّا والله حولها ندندن، ولكن الشأن في الإمام والدليل والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تَأْتَمَّ به وتتبعه , وتسير خلفه، وأقسم الله سبحانه بعزته أن العباد لو أتوه من كل طريق واستفتحوا من كل باب لم يفتح لهم حتى يدخلوا خلفه. فهذا لعمر الله هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقًّا , ولم يجعل الله منصب الإمام بعده، إلا لمن دعا إليه ودل عليه وأمر الناس أن يقتدوا به ويأتموا به ويسيروا خلفه , وأن لا ينصبوا لنفوسهم متبوعًا ولا إمامًا ولا دليلاً غيره , بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلين كل واحد يصلي طاعة لله وامتثالاً لأمره وهم في الجماعة متعاونون متساعدون، وبمنزلة الوفد مع الدليل كل واحد يحج طاعة لله وامتثالاً لأمره , لا أن المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي، بل هو يصلي؛ صلى إمامه أو لا. بخلاف المقلد فإنه إنما ذهب لقول متبوعه لأنه قاله لا لأن الرسول قاله، ولو كان كذلك؛ لدار مع الرسول أين كان ولم يكن مقلدًا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج عليهم، يوضحه. (الوجه السبعون) إن المأموم قد علم أن هذه الصلاة هي التي فرضها الله على عباده، وأنه وإمامه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على كل من استطاع إليه سبيلاً، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء فهو لم يحج تقليدًا للدليل, ولم يصل تقليدًا للإمام، وقد استأجر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دليلاً يدله على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه , وصلى خلف عبد الرحمن بن عوف مأمومًا. والعالم يصلي خلف مثله ومن هو دونه , بل خلف من ليس بعالم , وليس ذلك من تقليده في شيء، يوضحه. (الوجه الحادي والسبعون) إن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركب يأتون بمثل مايأتي به الدليل , ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا مُتَّبِعًا فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت فهذا يكون متبعًا لهم، وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم، ويسلك غير سبيلهم ثم يدعي أنه مؤتم بهم فتلك أمانيُّهم ويقال لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) . (الوجه الثاني والسبعون) قولكم: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فتحوا البلاد وكان الناس حديثي عهد بالإسلام , وكانوا يفتونهم ولم يقولوا لأحد منهم: (عليك أن تطلب الحق في معرفة هذه الفتوى بالدليل) ؛ جوابه: إنهم لم يفتوهم بآرائهم وإنما بلغوهم ما قاله نبيهم وأمر به فكان ما أفتوهم به هو الحكم وهو الحجة، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا , وهو عهدنا إليكم فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم فإن كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الحكم وهو دليل الحكم وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفعله وأمر به , وإنما تبلغهم الصحابة ذلك فأين هذا من زمان إنما يحرص الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر , وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرًا لكلامهم، وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بَعُد العهد ازداد كلام المتقدم هجرًا ورغبة عنه حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئًا بحسب تقدم زمانه [١] ، ولكن أين قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للتابعين: لينصب كل منكم لنفسه رجلاً يختاره ويقلده دينه، ولا يلتفت إلى غيره، ولا يتلقى الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال فإذا جاءكم عن الله ورسوله شيء وعن من نصبتموه إمامًا تقلدونه (قول يخالفه) فخذوا بقوله ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله؟ فوالله لو كشف الغطاء وحقت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل وكما قال الثاني: سارت مُشَرِّقًة وسرت مُغَرِّبًا ... شتان بين مُشَرِّق ومُغَِّرب وكما قال الثالث: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني (الوجه الثالث والسبعون) قولكم: إن التقليد من لوازم الشرع والقدر , والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد , كما تقدم بيانه من الأحكام، جوابه: إن التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع وإن كان من لوازم القدر , بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع كما عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة. وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدًا، وإنما هي متابعة وامتثال فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدًا فالتقليد بهذا الاعتبار حق وهو من الشرع , ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع ولا من لوازمه، وإنما بطلانه من لوازمه، يوضحه. (الوجه الرابع والسبعون) إن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع , فلو كان التقليد من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع , فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر وصحة أحد الضدين توجب بطلان الآخر. ونحرره دليلاً، فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يجز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه. فإن قيل: كلاهما من الدين وأحدهما أكمل من الآخر فيجوز العدول من المفضول إلى الفاضل؛ قيل: إذا كان قد انسد باب الاجتهاد عندكم وقطعت طريقه وصار الفرض هو التقليد؛ فالعدول عنه إلى ما قد سد بابه وقطعت طريقه يكون عندكم معصية وفاعله آثم، وفي هذا من قطع طريق العلم وإبطال حجج الله وبيناته , وخلو الأرض من قائم لله بحججه ما يبطل هذا القول ويدحضه. وقد ضمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه لاتزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث الله به رسوله فإنهم على بصيرة وبينة بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر. والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع فالمتابعة والاقتداء وتقديم النصوص على آراء الرجال وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء. وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها , والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نصب عينيه , وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فبطلانه من لوازم الشرع ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله، فهذا لون والاتباع لون والله الموفق. (الوجه الخامس والسبعون) قولكم: كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلدون لحملتها، ورواتها ليس بيد العالم إلا تقليد الراوي ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا بيد العامي إلا تقليد العالم إلى آخره. جوابه ما تقدم مرارًا من أن هذا الذي سميتموه تقليدًا هو اتباع أمر الله ورسوله، ولو كان هذا تقليدًا لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة مقلدًا , بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين، ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغب أو ملبس يقصد لبس الحق بالباطل. والمقلد لجهله أخذ نوعًا صحيحًا من أنواع التقليد، واستدل به على النوع الباطل منه لوجود القدر المشترك , وغفل عن القدر الفارق , وهذا هو القياس الباطل المتفق على ذمه وهو أخو هذا التقليد الباطل كلاهما في البطلان سواء. وإذا جعل الله سبحانه خبر الصادق حجة وشهادة العدل حجة لم يكن متبع الحجة مقلدًا. وإذا قيل: إنه مقلد للحجة فحيهلاً بهذا التقليد وأهله وهل ندندن إلا حوله، والله المستعان. ((يتبع بمقال تالٍ))