للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أي الفريقين المتعصب: المسلمون أم النصارى؟!

نشرت إحدى الجرائد السورية التي تصدر في نيويورك مقالة في أخلاق
(الألبان) وعوائدهم، جاء فيها ما نصه:
(ومن أشد متاعس البلقان وجود الأرناؤوط من النصارى والمسلمين في أرض
واحدة تجمع بينهم لغة واحدة ووطن واحد ونسب يرجع إلى أصل واحد وهم - مع
ذلك - منقسمون على بعضهم بعضًا متطرفون في التعصب الديني وأولئك
المتعصبون من المسلمين هم نصارى من الأصل انقلبوا عن النصرانية ودخلوا في
دين محمد فخلعوا عنهم بذلك الانتقال رداء اللين المسيحي وتقمصوا بقميص القساوة
التركية! وذلك لأن الحياة التي اعتنقوها حديثًا هي ديانة قامت بالسيف مبنية على
أساس الجهاد ولا ثبوت لها إلا بالقوة القاهرة. ومن الغريب أننا نرى أشد المسلمين
تعصبًا وقساوة هم المتحدرون من سلالة نصرانية، فإن أشد الأكراد ضراوة وهمجية
وتعصبًا بين إخوانهم الأكراد القائمين على حدود بلاد العجم هم الأولى تحدَّروا من
نسل نصارى الأرمن وأضرى مسلمي البلغار المقيمين في جبال رودوب هم
المتحدرون من نسل النصارى وكذلك نرى أن مسلمي القراوطين والسرب وأهل
البشناق من المتسلسلين من عيال نصرانية أشد مسلمي تلك البلاد تعصبًا وشرًّا.ا. هـ
بحروفه.
(المنار)
من عجائب تأثير التقليد أنه يجعل نتيجة الدليل الموجبة سالبة والسالبة موجبة
ويجمع لصاحبه بين النقيضين، فيستدل على إقبال الليل بطلوع الشمس وعلى
إقبال النهار بغروبها. شاع بين الناس أن دين الإسلام قام بالسيف وهي قضية
بديهية البطلان، فإن الداعي إلى هذا الدين قام يدعو إليه وحده ولا سيف معه
ولو كان معه سيف لكان من المُحال أن يغلب به سيوف العالمين الذين جاء
لدعوتهم إلى دينه، ثم إنه بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته هاجر مستخفيًا من بلده وليس
معه إلا رجل واحد وذلك لأنه كان على خطر من قومه، ولولا حفظ الله وعنايته
لقتلوه هو وتلك الفئة القليلة التي آمنت به وهربت من مكة مهاجرة إلى الحبشة
لنجاة أرواحها.
ثم إنه لما صار له في مهاجره أتباع يتيسر لهم المدافعة كانوا يدافعون
المشركين ولم يعتدوا عليهم في قتال قط اتباعًا لقوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) ، ولا سعة
في هذا الرد لتطويل في شيء سبق القول فيه، ونرجو أن نوضحه بعدُ أتم الإيضاح
وإنما نقول: إن الناس قلد بعضهم بعضًا في تلك القضية الكاذبة حتى المسلمين، كما
قلد بعضهم بعضًا في أن الدين المسيحي انتشر بالدعوة، مع أن التاريخ يشهد أنه لم
ينتشر لا سيما في أوربا إلا بالقوة القاهرة. كان من تأثير هذا التقليد أن تشاهد القسوة
وشدة التعصب في النصارى أضعاف ما هي في المسلمين حتى أن الجنس الواحد يوجد
فيه العريق في الإسلام والحديث العهد به فيكون الثاني أشد تعصبًا من الأول ويلاحظ
هذا أهل البحث والذكاء ويثبتونه بالكتابة ثم يقرنون به القول بأن شدة التعصب قد
لابست نفوس هؤلاء الداخلين في الإسلام بتأثير الإسلام وكونه دين قسوة وجهاد! ألم
يكن الأقرب إلى الإنصاف أن يقال إن هؤلاء المرتقين إلى الإسلام عن النصرانية قد
حملوا ما كان عندهم من شدة التعصب في دينهم القديم إلى دينهم الجديد وبذلك امتازوا
في التعصب على الأصلاء فيه الذين ورثوا التساهل وتربوا على الدين القاضي باللين
والمجاملة، فلم يكن عندهم شيء من ذلك التعصب الذميم؟ ولكن التقليد يحول دون
هذا الحكم العادل.