للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مذكرة
مقدمة إلى مؤتمر الخلافة العام
في مصر القاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم
] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[*]
أيها الإخوة الكرام، الذين اجتمعوا لخدمة الإسلام، بالنظر في مسألة الخلافة
التي هي أهم المسائل الدينية والدنيوية، إن أخاكم هذا قد درس هذه المسألة من جميع
جوانبها الشرعية والتاريخية والسياسية، وألّف فيها كتابًا حافلاً يشتمل على جُلّ ما
يلزم لمن يريد درس المسألة والإحاطة بوجوهها، ثم كتب بعد ذلك مقالات أخرى
فيها عقب إلغاء الحكومة الجمهورية التركية للخلافة العثمانية.
ثم انتظم في عقد مجلس إدارة مؤتمركم هذا الذي قرر دعوتكم إلى هذا
الاجتماع ووضع النظام له، وكان عضوًا في لجانه الفرعية، وهو يعرض عليكم
رأيه فيما يراه أهم مسائل البرنامج الذي وضعه مجلس الإدارة معبرًا عن هذا الأهم
بما يجب على المسلمين عمله والسعي له إذا رأى المؤتمر أن نصب إمام عدل
مستجمع للشروط الشرعية على الوجه الشرعي الذي هو مبايعة أهل الحل والعقد
من المسلمين الموصوفين بالصفات المقررة في موضعها من كتب الشرع لا يتيسر
الآن.
أيها الإخوة الكرام:
إنني قبل بيان رأيي فيما أذكر أقول كلمة وجيزة في رأي سمعته من كثير من
الباحثين والمفكرين وهو: أنه إذا تعذر نصب الخليفة الشرعي الذي هو الإمام الحق
الذي تجب طاعته بمجرد مبايعته الشرعية على جميع المسلمين ملوكهم وأمرائهم
ودهمائهم، ويعد الخارج عن أمره في غير معصية الله تعالى عاصيًا يجب على
المسلمين قتاله إذا كان ذا شوكة - فالواجب في هذه الحالة نصب خليفة مستجمع
للممكن من الصفات والشروط المطلوبة شرعًا كخلفاء دولة آل عثمان التي كان أكثر
المسلمين يعترفون بها، عملاً بقاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور، وقياسًا على ما
أجازه بعض الفقهاء من توليه القاضي المقلد (الذي يعبرون عنه بالجاهل) عند فقد
العالم المجتهد، ويحتجون لذلك بما ورد في الصحيح أن (من مات وليس في عنقه
بيعه مات ميتة جاهلية) ووجوب اعتزال المسلم لجميع فرق المسلمين إذا لم يكن لهم
إمام وجماعة ولو بعضِّه بأصل شجرة حتى يموت على ذلك.
وإنني أشير إلى أهم ما كنت أقوله لهؤلاء (وتجدون له تفصيلاً في كتابي
الخلافة أو الإمامة العظمى) وهو:
١ - إن لبعض الشعوب الإسلامية مبايعًا جماعته يدعون أن بيعته شرعية لا
ينقصها شيء من الشروط الشرعية، ولبعض آخر إمامًا يدعون أنه هو الذي يقيم
الحق والعدل والسنة دون غيره، وإن لم يكن مستجمعًا لجميع ما ذكر العلماء من
الشروط، ولكن سائر الشعوب الإسلامية لا تقر لهؤلاء ولا لأولئك بإمامتهم، فما
الفائدة من مبايعة إمام آخر لا يمكن ادعاء استجماعه للشروط، ولا أن بيعته هي
الصحيحة دون غيرها، وهل تكون البيعة إلا مزيدًا في التفرق والشقاق؟
٢ - كما توجد شعوب تدعي وجود الخلافة فيها ويوجد أفراد يدعون الخلافة
ببيعة توجب على جميع المسلمين اتباعهم، وإن كان المعتدون قد فصلوهم بالقوة من
شعوبهم، وهم محمد وحيد أفندي التركي السلطان الأخير من آل عثمان [١] وعبد
المجيد أفندي التركي الذي سُمي خليفة بدون خلافة ولا سلطنة ثم طُرد من قصره
ومن بلاد شعبه، والشريف حسين بن علي الذي كان أميرًا لمكة ثم صار ملكًا
للحجاز، ثم بايعه بالخلافة فريق كبير من أهل فلسطين وسورية بالاختيار، ثم
أهل الحجاز بالاضطرار، فماذا استفاد المسلمون من هذه البيعات؟ وهل من
الحكمة أن يعود فريق آخر إلى مثلها؟
(٣) إن خلافة سلاطين بني عثمان لم تكن خلافة شرعية صحيحة بحيث
يعد الواحد منهم إمام المسلمين الحق كما اعترفوا بذلك، وإنما كانت خلافة تغلُّب
يطاع أمر خلفائها شرعًا فيما لا يخالف الشرع لحفظ النظام وإقامة الأحكام واتقاء
الفتنة وسفك الدماء، وقد نقل الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن المتغلبين على
الحكم بالقوة حكمهم حكم البغاة الخارجين على الإمام، فإذا وجد الإمام الحق وجب
عليه قتالهم وإكراههم على طاعته إذا قدر، وإنما كان أكثر المسلمين في غير بلادهم
يعترف بخلافتهم لاعتزاز المسلمين بدولتهم التي صارت الدولة الإسلامية الوحيدة
التي تعترف جميع دول الأرض بها وتحسب حسابًا لجيشها. فكان اعترافًا سياسيًّا
وجدانيًا، أشد المسلمين تعصبًا له وعطفًا عليه، هم المستذلون باستيلاء الأجانب
عليهم. وكانوا يتناقلون أنهم ورثوا الخلافة إرثًا شرعيًّا بنزول آخر الخلفاء
العباسيين لهم عنها، ومن أدلة عامتهم عليها وجود الآثار النبوية عندهم وحفظهم
للحرمين الشريفين. فمجموعة مزاياهم لا توجد في حكومة إسلامية ولا شعب
إسلامي. والمهم منها هو القوة العسكرية المنظمة مع الاستقلال المعترف به من
جميع دول الأرض. على أن هذا كله لم يُخرج خلافتهم من حكم التغلب إلى حكم
الإمامة الحق، ولم ينالوا بها ما كانوا يرجون في الحرب العامة عندما أعلنوا الجهاد
الشرعي.
فتبين بهذه الأمور أن نصب خليفة غير مستجمع للشروط الشرعية ببيعة
صحيحة شرعية لا يكون إقامة للشرع، ولا وسيلة لجمع كلمة المسلمين على إمام
واحد، ولا لاعتراف أكثر شعوبهم به، وانتفاعهم بما عسى أن يوضع من نظام
لخلافته. وبعد هذا التمهيد أعود إلى أصل الموضوع فأقول:
من المعلوم بالقطع أن ذهاب الأصل يتبعه الفرع، وأن لا بقاء للثمرة إلا ببقاء
الشجرة، فإضاعة المسلمين لنظام الإمامة العظمى، وتفريطهم في منصب خلافة
النبوة، أضاع عليهم ما أوجبه الشرع بهذا النظام وجعله ثمرة له، من حراسة الدين،
وعزة الملة والدعوة، ووحدة الأمة، وحفظ مصالحها الدينية والدنيوية. وكل ما
يشكوه عقلاؤهم ودهماؤهم منه في أمورهم العامة من مصالح ضائعة، ومفاسد ذائعة،
وفرائض متروكة، ومحرّمات مستباحة، فهو من فروع ذلك الأصل، ولا سبيل
إلى إقامة تلك المصالح، ودرء هاتيك المفاسد، إلا بإعادة منصب الخلافة النبوية
على وجهه الشرعي الصحيح الذي أجمع عليه سلف الأمة، فإذا تعذر ذلك الآن فما
الذي يجب على زعماء المسلمين الذين يعنون بمصلحتهم العامة من اتخاذ الوسائل
له والتمهيدات لإقامته؟ والذي يطالب هذا المؤتمر بتقريره والسعي لتنفيذه، الذي
أراه أنه يحب السعي إلى إيجاد الوسائل الثلاث الآتية:
***
(١) أهل الحَلّ والعقد:
قد ناط الشرع الإسلامي أمر الحكم والسلطان بالأمة، وجعل إجماعها حجة،
وضمن لها أن لا تجتمع على ضلالة، وإنما يمثل إرادة الأمة ويعرب عن إجماعها
الكلي أو الأغلبي زعماؤها الذين هم محل ثقتها، وأهل الحل والعقد في شؤونها،
الذين تُتّبع جماعتهم في جملة المصالح العامة، وتُتبع الأفراد أو الهيئات الخاصة
منهم من كل نوع منها، كعلماء الدين في الأحكام الدينية، وقواد الجيوش في الأمور
العسكرية، والأطباء في الاحتياجات الصحية، وأولي الرأي والتجارب والمعرفة
في المصالح السياسية والإدارية، والفنيين البارعين في الأعمال الفنية ... إلخ.
ويعتبر في كل فريق من هؤلاء وغيرهم الغيرة على الأمة، والصدق والإخلاص
في خدمتها بحيث يكون موثوقًا عند الجمهور منها.
وقد صرح أعلام الملة من علماء الأصول والفروع بأن مدار انعقاد الخلافة
على بيعه أهل الحل والعقد في الأمة، فهم الذين ينصبون الإمام، وهم الذين لهم الحق
في خلعه عند وجود المقتضي وانتفاء المانع الراجح، فأول ما يجب على أهل العلم
بمصلحة الأمة ذوي الغيرة والرأي من أعضاء مؤتمر الخلافة وغيرهم هو البحث
عن أهل الحق والعقد في كل شعب من شعوب المسلمين حيث وجدوا، والسعي
لإيجادهم حيث فقدوا، ووضع نظام للتعارف والتعاون بينهم، وإعلام الجاهلين منهم
بما أوجبه الله عليهم، فإن أكثر زعماء القبائل البدوية وكثير من البلاد القريبة من
البداوة قد استحوذ عليهم الجهل المطبق، فهم لا يعرفون مصلحة قبائلهم وبلادهم في
دينهم ودنياهم فضلاً عن مصالح الملة العامة، بل أقول إن أكثر زعماء البلاد
الحضرية لا يعرفون أحكام الخلافة الإسلامية ومزاياها التي تفضل بها سائر أنظمة
الحكم في شعوب الحضارة.
(٢) النظام الذي يوضع لمعرفة من يوجد من أهل الحل والعقد وأين
يوجدون ومن هم؟ ولإيجاد جماعة منهم بالوسائل العصرية المعروفة في تأليف
الأحزاب والجمعيات والنقابات.
فإنه لا يمكن إيجاد خلافة عامة تعترف بها جميع الشعوب الإسلامية أو أكثرها
إلا بوجود جماعة أهل الحل والعقد في جميعها أو أكثرها، وتعارف هذه الجماعات
أو أكثرها وتواطئهم (أولاً) على نظام للخلافة يناسب حال هذا الزمان (وثانيًا)
على المكان الذي يُختار لنصب الخليفة فيه (وثالثًا وأخيرًا) على الشخص الذي
يُختار للخلافة ثم تبايعه تلك الجماعات.
إذا ابتدأ المسلمون بالسعي لهذا عقب انفضاض المؤتمر، فمن الجائز أن يتم
النجاح في آحاد من السنين، وليس من الكثير أن يحتاج إلى عشرات السنين، ولا
يجوز لهم اليأس إذا لم يتم لهم في العشرات، فإن ما هدم في عدة قرون لا يسهل
إعادة بنائه في أقل منها إلا بتوفيق من الله تعالى.
***
٣ - نظام الخلافة المناسب لهذا العصر:
يجب أن يراعى في هذا النظام:
(أولاً) ألا يستطيع الخليفة أن يستبد بالأمر إذا زينت له نفسه ذلك.
(ثانيًا) أن يكون مستجمعًا للشروط الشرعية حتى لا يكون لأحد زعماء
المسلمين عذر في رفض بيعته، أو استحلال عصيانه، وذلك بإنشاء مدرسة يتخرج
فيها الخلفاء والمجتهدون المستجمعون لصفات أهل الحل والعقد شرعًا ولشروط
القضاء الشرعي.
(ثالثًا) أن تبنى الأحكام ونظم الدولة في مملكة الخلافة على التشريع
الإسلامي بنصوص الكتاب والسنة القطعية الجامعة بين العدل والرحمة والمساواة
الصحيحة، وبالاجتهاد في غير القطعي الذي مداره على درء المفاسد، ومراعاة
المصالح، واليسر ورفع الحرج، وإباحة الضرورات للمحظورات، مع تقديرها
بقدرها، وغير ذلك من القواعد العامة الصالحة لكل زمان ومكان.
(رابعًا) أن يكتفي من الشعوب الإسلامية غير الحرة المستقلة في أمرها،
ولا القادرة على اتباع سلطان الخلافة في أحكامها، بأن تكون مرتبطة بمقام الخلافة
في شؤونها الدينية كدعاية الإسلام الدينية المحضة، والدفاع عنه، وصيانته من
الإلحاد والتعطيل، ومن البدع والخرافات، وفي منهاج التعليم الديني، وخطب
الجمعة والأعياد، وغير ذلك من التعاون على البر والتقوى وأعمال الخير البريئة
من السياسة وشبهاتها.
(خامسًا) اتقاء كل ما يُعد عدوانًا على حكومات هذه الشعوب أو حجة
صحيحة لها تحملها على اضطهاد رعيتها، وقطع الصلة الروحية المعنوية بينها
وبين إمام دينها الأعظم.
وإنني مستعد لتأليف رسالة أو كتاب في تفصيل هذه المسائل إذا قررها
المؤتمر لأجل عرضها على المؤتمر الثاني الذي ينعقد بعده، وأختم كلامي باقتراح
عقد مؤتمر آخر لذلك يعين مكانه بأصوات الشعوب والأقطار التي يتألف المؤتمر
من رجالها، بحيث يكون لأهل كل قطر صوت واحد في ذلك، وأحمد الله على
توفيق الأمة لعقد هذا المؤتمر، وأسأله تعالى أن يوفقها في مستقبلها إلى خير مَنّه،
وصلى الله وسلم على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين،
وخلفائه الراشدين، وصحابته المرشدين وسائر الخلفاء وأئمة العلم العاملين،
والسلام على جماعة المؤتمرين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... من أخيهم
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار الإسلامي
((يتبع بمقال تالٍ))