للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية

تمهيد
كان الأزهر مستدبرًا لطريق النشوء والارتقاء، يمشي القهقرى أو يسير كل
يوم إلى الوراء، وكان ما حاولته الحكومة من تغيير في نظمه وتبديل في إدارته
عبثًا، لم يزده إلا ضعفًا وخللاً، فكبراء الشيوخ الجامدين لم تفدهم أطوار الزمان
المتبدلة مظهرًا لقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: ٢٩) عبرة ولا
موعظة، بل ظلوا شديدي التعصب لتقاليدهم وخرافاتهم المنفرة عن الإسلام نفسه لا
عن الأزهر وعلمه فقط، وإنما كان يسرهم من تدخل أولي السلطان في إدارتهم
وتصديهم لإصلاحها ما يبذلونه كل مرة من المال الكثير ولا سيما في عهد جلالة
الملك فؤاد الذي كان أشد مِنْ كل مَنْ سبقه في هذا العصر إغداقًا للمال على هذا
المكان وأهله، انتهى الأمر بيأس الحكومة من إصلاح هذا المعهد أو (المعاهد
الدينية) وشعورها أنه كَلٌّ عليها وعلى الأمة، وأن نفقاته السنوية التي زادت على
مائتي ألف جنيه في السنة صارت مغرمًا وصارت ثقلاً على خزينتها وخزينة
الأوقاف.
***
حديث مع سعد باشا في
الأزهر والإصلاح الديني
كلمت سعد باشا في إصلاح الأزهر في عهد زعامته الأخير - بعد أن دانت له
الأمة والحكومة بما كان من سياسة الوفاق والتعاون بين الأحزاب - فقال لي: لا،
لا، إذا كان شيخنا (ويعني الأستاذ الإمام) لم يقدر على إصلاح الأزهر، فماذا
عسى أن أفعل أنا. فلما رأيته يتكلم بوجدان اليأس والألم لم أَحْتَجَّ عليه كعادتي بأن
شيخنا لم يقدر على إصلاح الأزهر؛ لأنه لم يكن بيده من النفوذ الحكومي مثل ما
بيدك؟ لا لأن الإصلاح المطلوب كان مجهولاً عنده أو متعذرًا عليه أو مُحَالاً في
نفسه، بل كل نفوذ ذي سلطان معارضًا له بقدر ما هو موات لك، وإنما قلت له:
حدثني الشيخ رحمه الله أنك كنت وإخوانك تبالغون في لومه على إضاعة أوقاته في
محاولة إصلاح الأزهر وتتمنون عليه لو يشتغل بغير ذلك من خدمة الإسلام
كتصنيف الكتب النافعة مثلاً، وأنكم كنت تظنون في بعض الأوقات أن الأستاذ
رحمه الله قد اقتنع بكلامكم وأنه سيترك من أول غده الاختلاف إلى الأزهر؛ ثم
تجدونه في غده أشد نشاطًا وهمة منه في أمسه، وأن هؤلاء الإخوان تحدثوا إليك مرة
في التعجب من ذلك، وفي الحيرة في تعليله مع ظهور اقتناع الأستاذ بكلامهم
الوجيه المعقول في نفسه فأجبتهم بقولك: وما يدريك لعل الرجل يشعر في وجدانه
بأنه مسخر من الله تعالى لهذا العمل الواجب عليه، حتى يكاد يكون فاقدًا للاختيار
فيه؟ فهل تذكر هذا يا دولة الباشا؟ قال: نعم وهو ما كنت أعتقده ولا أزال أعتقده
إلى الآن.
ثم قلت له: إنني سمعتك مرارًا تقول: إنه لا يرجى نهوض المسلمين إلا
بالإصلاح الديني وفاقًا لما كان يقوله شيخنا الأستاذ الإمام وأستاذ الجميع حكيمنا
السيد جمال الدين وتستدل على ذلك كما كانا يستدلان بأن أوربة لم تتمكن من
النهوض المدني العلمي إلا بعد القيام بالإصلاح الديني الذي دعا إليه لوثر وأقرانه؛
إذ ما دام المسلمون يفهمون الإسلام فهمًا خرافيًّا أو يلبسونه كالفرو مقلوبًا كما قال
سيدنا علي كرم الله وجهه فلا يُرْجَى أن يصلح لهم شأن في علم ولا عمل.
قال: نعم ولا أزال أرى هذا، فالترقي المدني مع المحافظة على الإسلام
يتوقف على الإصلاح الديني الذي تترك به الخرافات والأوهام إلخ.
قلت: إذًا لا بد أن تعمل في سبيل هذا الإصلاح شيئًا ولديك الأزهر والمنار،
فإذا كنت قد يئست من الأزهر، فلماذا لا تساعد المنار وتنشره في مدارس الحكومة
قال: الحق معك في المنار، وأنا آذنك أن تكلم الشمسي (أي علي باشا الشمسي
وزير المعارف) في هذا عن لساني. قلت: ولِمَ لا تكلمه دولتكم؟ قال: هو بعد
ذلك يسألني وأنا أكلمه.
بعد هذا ذهبت إلى دار وزارة المعارف لأكلم الوزير فعلمت أنه في شغل مانع
من مقابلته في ذلك الوقت فكتبت إليه أنني جئت لأقابله وأنني سأعود، ولكنني لم
ألبث أن ندمت على ذلك ورأيته مخالفًا لخلقي وما ربيت عليه من عدم السعي لنفسي،
أو لمصلحة عامة أقوم بها وحدي، وكراهة التملق للكبراء، فلم أعد إليه ولا إلى
سعد باشا، وتلا ذلك مرض سعد باشا الذي اشتد عليه بعد ذلك فسافر إلى مصطافه
ثم عاد وقضى نحبه ولم أزره بعد تلك الجلسة معه في خزانة كتبه من بيت الأمة،
وقد كان مرادي من بدء هذا الحديث ذكر يأس سعد باشا من الأزهر كغيره من
رجال الحكومة في جميع الوزارات السابقة، ثم رأيت من الفائدة أن أنشر سائر
الحديث؛ لأنه مفيد في موضوع الإصلاح الديني المقصود من إصلاح الأزهر،
ففعلت.
***
تدلي الأزهر وارتقاء
المدارس الدنيوية
وأعود إلى ذكر تدلي الأزهر من حيث يعلو ويرتقي غيره من المدارس المدنية،
بل إلى موته وحياة غيره من المعاهد العلمية الدنيوية، كدار العلوم والجامعة
المصرية، وغيرهما من مدارس الأجانب حتى دعاة النصرانية ومدارس الأفراد
التجارية، فإنها في نجاح مستمر بإقبال أولاد المسلمين أنفسهم عليها وبذل أموالهم
لها لنعلمهم ما يرون أو يرى أولياء أمورهم أنه لا بد لهم منه وإن أفسد عليهم دينهم،
فأقول:
إن المرحوم علي باشا مبارك الوزير المسلم المصلح لم ينشئ مدرسة دار
العلوم إلا ليأسه من قيام الأزهر وحده بتخريج من يصلح لتدريس الفنون والعلوم
العربية ومدارس الحكومة على الطريق الفني (البيداجوجي) وكان من أساتيذها في
أول عهدها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى.
ثم إن الأستاذ الإمام لم يضع أساس نظام مدرسة القضاء الشرعي لوعد
الحكومة إياه بتفويض أمرها إليه إلا بعد اضطراره إلى ترك الأزهر ويأسه منه
باضطهاد الأمير ومقاومته وجمود شيوخه وتعصبهم وعجزهم.
ثم إن سعد باشا لم يتم النظام للمدرسة ويجعلها تابعة لوزارة المعارف دون
الأزهر إلا لاعتقاده واعتقاد الحكومة معه أن جعلها تابعة للأزهر يجعلها عقيمًا لا
تنتج إلا خِداجًا.
ثم إن الحكومة حاولت سلب الأزهر كل شيء وقرَّر البرلمان جعله تابعًا في
إدارته لرئيس الوزارة تحت إشرافه بعد أن رأت أن أمل جلالة الملك فيه في غير
محله، ثم مات شيخ الأزهر الشيخ أبو الفضل فأمسكت الحكومة عن تعيين خلف له
عدة أشهر لحيرتها فيه وفي شيوخه كما قلنا في الفصل السابق.
***
رياسة المراغي للأزهر وتأثيرها
ثم كان من قضاء الله وقدره أن وقع الاختيار على نوط هذا المنصب بالشيخ
محمد مصطفى المراغي الذي عرفت الحكومة مكانته بسيرته الحسنة في القضاء
الشرعي بعد أن ارتقى إلى أعلى درجاته، وهي رياسة المحكمة الشرعية العليا.
فماذا كان بعد هذا؟
كان أن زال يأس الحكومة المتولد من طول التجارب في إصلاح هذا المعهد،
وزال يأس أهل الذكاء والشعور بالفساد الذي يفتك بالشعب وبالحاجة إلى الصلاح
الذي لا يكون إلا بإصلاح من الأزهريين، ومن سائر طبقات الأمة، وتجدد لمسلمي
مصر ولحكومتها ولرأس الحكومة والأمة جلالة ملكها رجاء في هذا المكان لم يكن
شيئًا مذكورًا.
ثم سرى هذا الرجاء إلى سائر الأقطار الإسلامية فرددت أخبار الأزهر،
وباتت ترقب ما سيكون من الإصلاح بسرور عظيم.
بل شعر الأجانب من أهل البصيرة والتأمل في أمور العالم في أوربة بأن هذه
المدرسة الإسلامية الجامعة ستكون مدرسة علم عصري ودين معقول إصلاحي،
وأن سيكون لها أثر عظيم في الشعب المصري وحكومته، وفي سائر الشعوب
الإسلامية وقد رددت الصحف الأوربية، ولا سيما الإنكليزية منها، هذه الآراء
والأنباء ونشرتها في جميع الأنحاء والأرجاء.
كل هذا وشيوخ الجمود التقليدي من أهل الأزهر لم يشعروا بأي معنى من
معاني الإصلاح الصوري ولا المعنوي الذي شعر به المشرقان والمغربان، وخفق
له الخافقان وإنما شعروا باضطراب وزلزال يتهدد تقاليدهم وخرافاتهم التي بها تقبل
العامة أناملهم، وترضخ لهم من فضول أرزاقها، فطفقوا يتململون ويتبرمون،
ويجهرون بما يهجرون، ويجأرون بما يجرؤون يا مسلمين قد أبيح الاجتهاد، وفتح
باب الكتاب والسنة للعباد وهو الذي أغلق بابه بعد أولئك الأئمة الأفراد، فأمسى
الأزهر عرضة للفساد.
وكتاب الله يصيح بهم، بما يذكرهم سنن الله فيمن قبلهم: {لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ
إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ *
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: ٦٥-٦٩) .
ماذا فعل هذا الشيخ الجديد محمد مصطفى المراغي، وماذا قال الشيخ عليش
بلسان أمثاله، لقد جئت شيئًا إمرًا، لقد جئت شيئًا نكرًا، إنه لم يخرق سفينة
الشريعة الراسية بل أراد تسييرها، فقال:] بسم الله مجراها ومرساها [، وما قتل
نفسا زكية بغير نفس بل نفخ في هذه الأمة ما لو سرى فيها لأحياها، كانت نفس الأمة
ميتة بالجهل والتقليد والخرافات، فأراد إحياءها بآيات القرآن البينات، وما دعا إليه
القرآن من علم كوني وشرعي، ومن عمل ديني ودنيوي، وما بينه به رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالح، وهو ما لا يرجى بغيره صلاح هذه الأمة
كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما
صلح به أولها) ، وفتح للأزهر أبواب الرزق والجاه الصحيح الذي يمكنهم من النفع
بعلمهم، وتعميم هداية دينهم.
ولكن ما بال هؤلاء الشيوخ والأمة صلحت أم فسدت؟ علمت أم جهلت؟
حيت أم هلكت، ما داموا يرون في العامة من يقبل اليد ظهرًا أو بطنًا، ويرضخ
لها سرًّا وجهرًا، فكيف حال من له منهم في الأزهر أو في القضاء الشرعي راتب
ينعم به ويربي به أولاده ويعلمهم في المدارس المدنية التي يصف هو وأمثاله أهلها
بالكفر؛ لشعوره بأن الأزهر صار أضيق أبواب الرزق على أكثر الذين يتخرجون
فيه.
نعم إن شيوخ الأزهر الجامدين المعادين للإصلاح يعلمون أن أهله في كل عام
يرذلون ويضيق رزقهم كما يقل احترامهم، ويعدون هذا من استحواذ الكفر والفسوق
والعصيان على جماهير الناس من دونهم، ولكنهم لا يفكرون في سبب هذا الكفر
والفسوق والعصيان، ولا يخطر في بالهم أنه يجب عليهم مقاومته ونشر العلم الذي
يهدي إلى الإيمان والبر والتقوى، ولو فكروا وتأملوا وتدبروا لعرفوا ما عليهم من
التبعة، وما لهم من الشركة في كل ما يشكون منه وفي أسبابه، ولعلموا أن الأمة
مع حكومتها صارت في غنًى عنهم، وعن أزهرهم؛ لأنه أمسى في نظرها عضوًا
أشل، أو عضوًا أثريًّا كما يقال في هذا العصر، وهذا ما كان يعالجه الأستاذ الإمام
بحكمته ويحاول تلافيه بكل ما أوتي من علم وعرفان ونفوذ وعزيمة: كان يحاول
أن يجعل الأزهر عضوًا عاملاً تشعر الأمة والحكومة بالحاجة إليه وعدم الاستغناء
عنه، بل كان يطمع فيما هو فوق ذلك: كان يطمع أن يجعله عضوًا رئيسيًّا في
بنية الأمة الإسلامية لا في بنية الشعب المصري وحده، وإنما تكون به مصر مركز
هذا العضو الرئيس وهذا عين ما يقصد إليه تلميذه الشيخ محمد مصطفى المراغي،
وقد سنح له من الفُرَص وتهيأ له من الأسباب ما لم يكن شيء منه في عهد أستاذه
وأستاذنا الإمام رحمه الله تعالى.
توجهت همة الأستاذ الأكبر - وفقه الله تعالى - من أول وهلة إلى الإصلاح
بقسميه الديني والدنيوي، ومظهريه الصوري والمعنوي، وغايته الرسمية وغير
الرسمية، فطلب من الحكومة أن تنشىء مباني جديدة لإقامة المجاورين ونومهم
وأكلهم وشربهم كأبنية المدارس الأميرية في نظافتها وموافقتها للصحة ومراعاة
كرامة الطلبة في أكلهم وشربهم ونومهم واستحمامهم فوافقته على ذلك كما وافقته
على قبول خريجي الأزهر أساتذة للتعليم في مدارسها ولغير ذلك من وظائف
الحكومة التي كانوا محرومين منها، ففتح لهم أبواب الرزق مع الشرف والكرامة
من طريق العلم والدين كما فتح لهم أبواب خدمة الدين بالوعظ والإرشاد والدعوة إلى
الإسلام بما لم يكونوا مستعدين له من قبل بعلمهم الناقص من كل وجه، ولا
بتربيتهم الفاسدة باقترانها بالوساخة والمهانة والضغط على الأفكار والعقول فهم
يأكلون البصل والكرات وغير ذلك في المسجد أفرادًا وجماعات، وإذا سأل أحد
منهم أستاذه عن شيء يسوءه السؤال عنه ولا سيما إذا كان استشكالاً لما قرَّره سبَّه
وشتمه وربما رماه بالحذاء.
***
شبهة الطاعنين في
إصلاح الأزهر ودحضها
لا يستحي أعداء الإصلاح من هؤلاء الشيوخ وأنصارهم أن يقولوا ما حاصله
أن الأزهر أسس من أول يوم على التقوى والصلاح والتواضع وهضم النفس
والتقشف في المعيشة تدينًا واستعدادًا لخدمة الدين لوجه الله تعالى لا للتمتع بالدنيا،
ويريد الشيخ الجديد أن يربيهم تربية دنيوية كما يتربى الأغنياء والمترفون،
والعظماء المتكبرون، وهذا مخالف لغرض الدين، ولما ينبغي لعلماء الدين
وللمنقطعين لخدمة الدين، ابتغاء مرضاة رب العالمين، وإنما الإسلام دين زهد
وقشف، لا دين عظة وسرف، يدل على ذلك كله هدي السلف.
***
ونقول في دحض شبههم
أولاً: إن الأزهر لم يؤسس على ما ذكروا، بل كان كمسجد الضرار، بنيانه
على شفا جرف هار، فانهار بمؤسسيه في نار جهنم وبئس القرار، فإن الله تعالى
أنقذه من شر الذين أسسوه وكفرهم وضلالهم، وهم باطنية العبيديين الذين كانوا
يستترون بمذهب الشيعة على ما فيه من بدع لم يسلم قطر إسلامي من شرها،
ويخفون الكفر وما يقصدون من هدم الإسلام بدعايتهم التي بيَّن العلامة المقريزي في
خططه المشهورة درجاتها.
ثانيًا: إن الإسلام نفسه ليس دين زهد وقشف، ولا دين سرف في ترف، بل
دين وسط جامع بين حسنتي الدارين وطلب سعادتهما، كما بيَّناه بالتفصيل في
مواضع من المنار ومن التفسير، وقد كان قشف بعض السلف اضطراريًّا وبعضه
اختياريًّا للقدوة، كما كان توسُّع بعضهم في الزينة والطيبات كذلك، وقد قال بعض
الصحابة لفضالة بن عبيد رضي الله عنهما وكان على مصر: ما لي أراك شعثًا
وأنت أمير الأرض؟ قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن
كثير من الإرفاه) قال: فما لي لا أرى عليك حذاء؟ قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحيانًا) .
فتأمل كيف سأل صحابيًّا عن شعاثة شعره؛ إذ رآه غير مُتَرَجِّل؟ وظاهر أن
السؤال للتعجب، وأن وجه التعجب كونه أميرًا قادرًا على الزينة المحمودة شرعًا،
ومنها ترجيل الشعر ودهنه وتأمل كيف أجابه بما هو الفصل في المسألة، وهو
الاقتصاد في الرفه وعدم الإسراف فيه، يقال: رفه الرجل من باب فتح وأرفه
وترفه واسترفه، إذا استراح وتنعم، وأرفه غيره جعله رافها، وفي (عون المعبود)
شرح سنن أبي داود: قال الحافظ: القيد بالكثير في الحديث إشارة إلى أن الوسط
المعتدل من الإرفاه لا يذم وبذلك يجمع بين الأخبار اهـ.
أقول: وهذا ما عليه أهل العلم بفنون الصحة والاجتماع في هذا العصر، فإن
الإسراف في الرفه يُضْعِف الأجسام والهمم، ويُفْسِد الأفراد والأمم، ومن ذلك عملهم
ببقية الحديث ارتياضًا لا اتباعًا وهو الاحتفاء في بعض الأحيان حتى إنك ترى
أكابر أهل هذه البلاد في مصطاف رأس البر يمشون حفاة وهم من أشد أهل الدنيا
رفاهة.
ثالثًا: إن القشف الاختياري من تربية النفس التي تقوي الجسم والإرادة،
وقلما يوجد في الأزهر من تخطر هذه التربية بباله، والإصلاح الجديد يساعدهم
عليها.
رابعًا: إن المعروف بالاختبار أن أهل الأزهر قد استحوذ عليهم حب المنافع
المادية فهم لا يقلون فيه عن غيرهم، وكل ما طلبه أفرادهم وجماعاتهم من الحكومة
لأزهرهم في السنين الأخيرة يدندن حولها، ولكن هممهم دون همم غيرهم في طلبها.
خامسًا: قد سبق لنا أن طالبنا شيخ الأزهر السابق المرحوم الشيخ أبا الفضل
الجيزاوي بإصلاح الأزهر فقال لنا في سياق حديثه في ذلك: إنه لا يعرف أحدًا من
أهل الأزهر يطلب العلم لوجه الله تعالى، بل كلهم من طلاب الدنيا بعلم الدين،
وقال الأمير عباس حلمي الثاني في أواخر عهده بهذه البلاد: إنني اختبرت علماء
الأزهر مدة ثماني عشرة سنة ثبت لي فيها أنهم طلاب منفعة شخصية من الجراية
والرواتب وكساوي التشريف ما كانوا يطلبون مني غير ذلك.
فإن قيل: إن من المعلوم بالبداهة أن شيخ الأزهر لا يعرف حال جميع طلاب
العلم فيه، ولا العلماء أيضًا، وكذلك الخديوي بالأولى، فمن الجائز أن يكون فيه
من يشتغل بالعلم لوجه الله تعالى، قلنا: نعم، ولكن هؤلاء لا يكونون إن وجدوا في
هذا العهد إلا أفرادًا قليلين، وما يفتحه الإصلاح الجديد من أبواب الرزق لكثير من
الذين يتخرجون في هذا المعهد أو المعاهد لا يكون عثرة في سبيل أولئك الأفراد من
الزهاد، كما أنه لا يمنع أن يوجد فيمن تفتح لهم أبواب الرزق بالعلم من هم أشد
منهم إخلاصًا في طلبه ابتغاء وجه الله تعالى في خدمة الدين وأهله به، فالإخلاص
والزهد من الصفات النفسية الباطنة، فكم من فقير هو أشد رغبة في حطام الدنيا
وحرصًا عليه وطمعًا فيه من الأغنياء، ففقر النفس شر من فقر اليد، وأجدر منه
بما روي من قرب الفقر من الكفر [١] ، وقد رُوي عن الشيخ عبد القادر الجليلي إمام
الصوفية وأحد كبار العلماء في عصره أنه شكا إليه بعض مريديه إقبال الدنيا عليهم
فقال لهم: (أخرجوها من قلوبكم إلى أيديكم فإنها لا تضركم) .
هذا وإن أحمز ما مس شيوخ الأزهر من علم الشيخ المصلح وألذعه هو أخذه
بعض المعلمين من خريجي دار العلوم لتعليم اللغة العربية، وأنكى منه وأنكأ
اختياره واحدًا منهم [٢] لدرس الفقه في قسم التخصص، وذلك من إنصافه ومحاولته
إبطال تلك العصبية الأزهرية، وما كان له أن يستهدف لسخط الأزهريين لولا
اعتقاده أنه لا يوجد في خريج المعاهد الدينية من يغني غَنَاء هؤلاء، فكان هذا في
عرفهم طعنًا ضمنيًّا في كفاءتهم وكفايتهم، ولذلك أذاعوا بين الناس أنه يريد أن يعهد
إلى طه حسين الأستاذ في الجامعة المصرية بإلقاء بعض الدروس في الأزهر ليبث
شبهات الكفر والإلحاد فيه، وحاشاه من ذلك، والذين اختارهم للتدريس في الأزهر
من خيار رجال الدين علمًا وأدبًا وعملاً ونحن نراه أشد احتياجًا إلى أساتذة آخرين
للتربية الدينية الروحية العقلية بالعلم والعمل منه إلى هؤلاء وغيره، فهل يجدون له
في الأزهر من يغنيه عن التماس هؤلاء المربين في غير الأزهر؟ لعله يعوزهم أو
يعجزهم إحسابه في هذا.
***
الحاجة إلى التربية العقلية
إننا نرى أن أمر هذه التربية أعظم أركان الإصلاح المطلوب وأعسره، وأنه
إن وجد قد يأتي بغيره من ضروب الإصلاح، وإن غيره لا يأتي به؛ لأن النفس
البشرية إذا صلحت أصلحت كل شيء، وإذا فسدت أفسدت كل شيء، كما جاء في
الحديث الصحيح، ولكن بلفظ القلب الذي يلاحظ في استعماله معنى العقل والوجدان
معًا، وهذه المسألة لا تتجلى إلا بمقال خاص، بل يتسع المجال فيها لعدة مقالات
بل لتصنيف سِفْر كبير.
وغرضي منها الآن أن إصلاح الأزهر الذي يطلبه الشعب المصري ويرقبه
وسائر الشعوب الإسلامية على تفاوتها في الاستعداد والقرب والبعد يتوقف على هذا
الأمر، وإن كان ما طرقه الأستاذ الأكبر من أبواب الإصلاح غير هذا فهو كالجسد
وهذا كالروح له، وإن شئت قلت: إن إصلاح الألسنة والأقلام باللغة الفصحى،
وإصلاح الأفكار بالتعليم البيداجوجي لعلوم الدين والدنيا، هما كأركان الصلاة البدنية
من قيام وركوع وسجود وتلاوة وذكر باللسان، وإن إصلاح القلوب بالتربية الروحية،
والعقول بالتربية الاستقلالية، هما كتدبر القرآن وأذكار الصلاة والاعتبار بها
والخشوع فيها.
فإذا لم يقرن الإصلاح الفني النظامي اللساني البدني فيه بالإصلاح الروحي
العقلي، فإن الأفكار المادية النفعية تستحوذ على المتعلمين في الأزهر، فيكون
المتخرجون فيه كالمتخرجين في المدارس الدنيوية الرسمية التبشيرية والكسبية،
ويكون ذلك قضاء على الدين وأهله، وإذا وجد الإصلاحان كلاهما كان الغلب
والسلطان للأزهر على المدارس الدنيوية ووسيلة إلى الإصلاح الروحي الأخلاقي
فيها ثم في الأمة كلها، فالآن الآن قد دخلت جامعة الأزهر الدينية في طور التنازع
مع الجامعة المصرية المادية أو الدنيوية، فإما أن يتفقا على الجمع بين الحسنتين
لنيل السعادتين، وإما أن تُفْسِد الثانية الأولى، ما كان للأزهر أن يكون غالبًا ولا
منازعًا لو بقي على جموده الأول.
ويحزننا أن منتقدي الإصلاح الجديد لم يعيروا هذا الأمر العظيم شيئًا من
عنايتهم على ما يدعون من غيرتهم على الدين، وإنما أقاموا النكير ودعوا الويل
والثبور أن ذكر الأستاذ الأكبر في مذكرته الإصلاحية الاجتهاد في العلم، أي
الاستقلال في فهم الكتاب والسنة، ومعرفة مدارك الأئمة، وأخذ مسائل الأحكام
بأدلتها، ومراعاة حكمة التشريع فيها، ولماذا؟ لأنهم يحرمون العلم بتحريم الاستدلال
الاستقلالي، ويوجبون الجهل بإيجاب التقليد الذي ذمه الله في كتابه، وصرح الأئمة
المجتهدون بتحريمه وإيجاب الاستقلال في الفهم، والاستدلال في العلم، وكان
المتقدمون يعبرون عن المقلد بالجاهل، ثم وجد من العلماء من أوجب تقليد كل إمام
مجتهد بشرطه، ولكن هؤلاء المتأخرين الجامدين يحرمون أخذ الدين من كتب
المجتهدين أنفسهم، ويوجبون تقليد المؤلفين من أتباع أتباعهم المقلدين لهم؟ بل
يوجبون تقليد طلاب المعاهد الدينية لهم هم، وإنما هم مقلدون للمقلدين لا للمجتهدين،
فجعلوا دون اقتباس نور الشارع عدة حُجُب كما قال الغزالي في مشكاة الأنوار، بل
نصَّبوا أنفسهم للتشريع بدون إذن الله تعالى، فأي طالب أنكر على أستاذ منهم قولاً أو
خرافة قرَّرها في الدرس نبزه بلقب الكفر أو ما يقرب منه عنده، وربما يسعى لطرده
من الأزهر، ولا يمكن أن يبقى ببقاء هذا النوع من التعليم علم ولا دين ولم يعد يقبل
هذا أحد يعرف قيمة نفسه في هذا العصر.
***
ما لا تتم التربية والتعليم
الإصلاحيان بدونه
ألا وإنه لا يتم الجمع بين التربية الدينية الروحية العقلية وبين التعليم الديني
المدني الاستقلالي، وإن وجد أهلهما إلا بمراقبة الطلاب في أعمالهم وأخلاقهم
ومعاشراتهم وباختيار كتب للمطالعة تعين على ذلك، وبإنشاء كتب جديدة لعلوم
النفس والأخلاق والاجتماع والتاريخ، ولا سيما التاريخ الديني والمقارنة بين الأديان
وسائر ما يُسَمى بالعلوم الجديدة تكون هذه الكتب خالية مما يثير الشبهات والشكوك
في الدين وممزوجة بما يوثق عروة الإيمان واليقين.
ولا يتم هذا إلا بتأليف لجنة للتأليف والترجمة وتحضير الدروس يكون بعض
أعضائها من الراسخين في لغات العلم الثلاث الألمانية والإنكليزية والفرنسية
والآخرون من أهل البصيرة والرسوخ في علوم الدين، ولا سيما التفسير والحديث
والأصول وحكمة التشريع، وقد ذاكرنا الأستاذ الأكبر في هذا كله فوجدنا له من
نفسه وعقله المنير خير عطف وتقدير، وأحسن تفكير وتدبير.
وأما إرسال البعثات الأزهرية إلى أوربة الذي أذاعته الجرائد فهو الآن مبتسر،
ويخشى أن إثمه أكبر من نفعه، فإننا نرى أكثر الذين يتعلمون في أوربة يرجعون
إلى بلادهم وهم زنادقة أو فسقة، وإنما تينع ثمرة هذه الفكرة بعد أن يتخرج في
حجر الإصلاح من هذه المعاهد الدينية الأزهرية أفراد كملت تربيتهم الوجدانية
وتعليمهم الاستقلالي الاستدلالي على الوجه الذي أشرنا إليه في هذا المقال، ويكون
غرضهم الأول من الإخصاء في بعض العلوم أو الفنون في هذه المعاهد الاستعداد
التام لخدمة الإسلام ونهضة المسلمين مع المحافظة على هدايته فيهم، ومراعاة
مقوماتهم الملية، ومشخصاتهم القومية، وإن فساد أزهري واحد يعود من أوربة
لأضر على الإسلام والمسلمين من فساد سبعين طالبًا من المدارس الدنيوية، ولا
يخفى شيء من هذا على ألمعية الأستاذ الأكبر شيخ جامع الأزهر.
وأختم هذا المقال بالتذكير بالحاجة إلى إنشاء لجنة في إدارة المعاهد الدينية
للفتوى العامة في كل ما يتعلق بالعقائد الإسلامية وحكم التشريع ودفع الشبهات عن
الدين، وحل عقد المشكلات في كتبه وغير ذلك مما يرى قراؤنا مثاله في فتاوى
المنار، وربما نفصل القول في هذا عند الحاجة، ونسأله تعالى تأييد الأستاذ المراغي
في عمله وتسخير الرجال الصالحين له فيه، وكفّ شر الجامدين والخرافيين عنه إنه
سميع قريب.