للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح بن علي اليافعي


السنن والأحاديث النبوية

بحث العمل بأحاديث الآحاد والحديث المتواتر
وَلْنَعُدْ , فنقول: التواتر هو وإنْ كانَ من الطرق المفيدة للعلم إذا وجد إلا أنا لا
نحصر إفادة العلم بالأخبار فيه , كما إنا لا نلزم به كل أحد قبل أن يعرف أنه متواتر
إذا لم يقصر في الطلب أو كان معذورًا لبعده عن أهله.
قال حضرة الدكتور: لم يتواتر من أقواله - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل
الذي لا شيء فيه من أحكام الدين.
أقول ما ذكره غير مسلَّم , والتواتر هو ما نقله جَمْعٌ عَن جمع , يبعد تواطؤهم
على الكذب، أي عن محسوس، وقد اختلفوا اختلافًا كثيرًا في تعيين هذا الجمع.
وبناءً على تعيين الجمع فيما نظنّ قال بعضهم بندرة وعزة المتواتر في الأحاديث
النبوية. وهذا أولى ما يقال في الاعتذار عن ابن الصلاح في قوله بذلك.
قال السيوطي نقلاً عن شيخ الإسلام: إن قول ابن الصلاح نشأ عن قلة
الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن
يتواطئوا على الكذب أو يجعل منهم اتفاقًا - قال: ومن أحسن ما يقرر به كون
المتواتر موجودًا وجودَ كثرةٍ في الأحاديث أن الكتب المشهورة (أي المتواترة عن
مؤلفيها) بأيدي الناس شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها إذا
اجتمعت (أي أو اجتمع بعضها كما قال ذلك جمهور أهل الحديث) على حديث ,
وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أفاد العلم اليقيني بصحته
إلى قائله. قال: ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ.
وأقول أيضًا: إن مَن تجرد عن التعصب والتقليد لا تخفى عليه الحقيقة
المنشودة في هذا الباب. وبما قدمناه وما يأتي يظهر للمنصف مكانة الخبر الذي ينقله
آحاد ثقات قد عرفوا بقوة الحفظ والذكاء والعدالة والورع والتقوى , وعرفوا أن
الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ككذب على أحد، وأن مَن
كذب عليه متعمِّدًا يتبوأ مقعده من النار , اعتقدوا ذلك وهم بالصفات التي عَرفتَ
وتحملوا من الرواية ما اعتقدوا وُجُوب العمل به , ثم وجوب تأديته لغيرهم كالأمانة,
وقد علموا ما في الخيانة من الوعيد والترهيب عن كتم العلم.
فإذا اتصل سند الخبر بمثل من ذكرناه فهو فيما نعتقد مفيد للعلم أي يبعد أن
يمنع العقل عن مثل من نعتناه الكذب عادة , ورب رجل يعدل رجالاً - فإن قيل:
سلمنا أنّ مَن كان مثل هذا يبعد منه الكذب عادة إلا أنه لا يؤمن عليه النسيان , قُلْتُ:
قد علم من عادة المحدثين كتابة ما سمعوه , وعلى الأقل للمراجعة إلى وقت التأدية ,
وهم لا يعتمدون على المكتوبات إلا ما كان موثوقًا به ومحفوظًا بغاية الاحتياط ,
ولا يقبلون المكتوبات التي لا يُدرى حالها وإنْ كانَ كاتبها ثقة - وهذا أكبر دليل على
أن ما عندهم من الأخبار أصح ما وجد من الأخبار في العالم بعد كتاب الله - وإنما
كان تواتر القرآن مقدمًا على كل خبر؛ لأنه نقل بمثل هذه الأسانيد اليقينية متواترة.
على أنا نستبعد عادة أن الراوي الذي ذكرنا صفاته يحدث بما نسيه إذْ لو فعل
ذلك لم يكن بالمرتبة التي ذكرناها لا سِيَّمَا في أحاديث الأحكام والأعمال لشدة حاجته
وحاجة معاصريه إلى العمل بها. على أنه إذا نسي ذلك لا يحدث به , وإن حدث
فإنه يذكر اللفظ بالشك. ويبعد كل البعد أن ينسى نسيانه لذلك وأبعد من ذلك أنْ لا
يوجد هذا الحديث عند غيره.
على أنه لو فرض وقوع ذلك وهو غاية الندور فلا نسلم أن ذلك يضر في
الدين إذْ قد اغتفر ذلك، أي النسيان والخطأ، فيما حاجة الناس إليه أكثر، وفيما
وجب فيه زيادة الاحتياط، وهما فيه أشد ضررًا وفيما هو سبب للضرر بلا واسطة
وذلك في القضاء؛ لأن أحد الخصمين قد يكون أَلْحَنَ بحُجّته من الآخر , فلم يضر
الحاكم أن يحكم بخلاف الواقع في هذه الحالة إذا لم يقصر فلأَنْ يغتفر ذلك في
الرواية أولى لكون الضرر منها إن وجد لا يكون هو السبب المباشر للضرر غالبًا.
فتبين بذلك أن ما عسى أن يطعن به في الرواية التي وصفناها مع كونه لا يضر في
الدين هو بناء شاذ على شاذ على شاذ , كلُّ منها يبعد وقوعه عادة - بل هو أولى
بالوثوق من خبر الجمع الفسقة غير الموثقين الذين يقال في خبرهم يمنع أو يبعد
العقل تواطؤهم على الكذب عادة. فبعد الكذب عمن ذكرناه أكثر من بعده عن جمع
التواتر الذي ذكروه.
وحَيْثُ كان الأصل في جميع العلوم سواء كانت تصورية أو تصديقية هو ما
أدركه الشخص بأحد مشاعره الظاهرة أو الباطنة , أو ما دل العقل عليه أو الوحي
السماوي، وهذا الأخير لا يكون إلا علمًا حقًّا دائمًا، وما تقدمه يتفاوت الناس فيه
تفاوتًا لا يحصره حد , فقد صحّ لدينا عن المتقدمين وشهدنا ورأينا ما لا يحصى في
زماننا أنه قد تصحح الجماعات ما يعدونه علمًا لديهم بتطبيقه على معلومات فرد
واحد، بل قد يتبين فساد معتقدهم في جانب معلومات الفرد الواحد - وذلك دليل
واضح على أن الفرد الواحد الممتاز بالكمال في صفاته وعاداته يعادل بل يرجح
بالأفراد الكثيرين من بني نوعه.
ونحن أيضًا نرى الشخص المنصف قد يتهم نفسه فيما سمعه بأذنه إذا خالفه فيه
من يعتقد أنه أحفظ منه فمثل هذا المنصف إذا اتهم نفسه فيما سمعه بأذن نفسه , وقدم
على ذلك الخبر الممتاز الذي ذكرناه قد يبعد كل البعد أن يقدم على خبر سمعه بنفسه
خبر الكثيرين غير العدول - وهل يمكن أن يقال ما علمه الإنسان وسمعه لا يسمى
علمًا لجواز زواله بالنسيان؟ فتبين بطلان الخبر أو العلم بعد اعتقاد ثبوته هو عندنا
يضارع زوال العلم بالنسيان.
وأيضًا احتمال النسيان في الخبر مع الذهول عنه كما أنه لا يضر الخبر وهو
علم في حقه ما لم يتذكر أنه نسيه، فكذلك لا يضر المُخبَر بالفتح إذا كان المُخبِر
بالكسر بالصفات التي ذكرناها.
إن خبر الآحاد قد اتَّفَقَ على اعتباره جميعُ البشر كما هو مشاهد واعتبرته
الكتب السماوية في شرائعها وأنبياء الله ورسله في التبليغ عنه والله ورسوله أمر
الأمة أن يبلغوا عنهما جمعًا وفُرَادَى، وبعبارة أخرى كل فرد من الأمة مأمور
بالتبليغ , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكليم الله موسى بن عمران عليه
السلام ترك بلدًا من أمره الله بإنذارهم , وخرج من بين أظهرهم إلى مَدْيَن معتمدًا
على خبر الواحد. وأثنى الله على من احتج بخبر الواحد كمؤمن آل فرعون إلى
غير ذلك مما لا يكفي لبسطه المجلدات.
كل ذلك معلوم بالضرورة ولا ينكره إلا مكابر، فكيف يصح قول حضرة
الدكتور: لا يجب العمل بخبر الآحاد مطلقًا , ومِنْ ثَمَّ قال الإمام أحمد رحمه الله:
إن خبر الآحاد الصحيح يفيد العلم، وبه قال داود الظاهري والكرابيسي والمحاسبي ,
وحكي هذا عن مالك بن أنس.
فإن قيل: إن الجمهور قائلون بأن خبر الآحاد يفيد الظنّ. قلنا: أولاً إذا كان
غرض الباحث مقصورًا على طلب الحق , وهو ضالته فلا محل لهذا الاعتراض من
أصله , على أنه يحتمل أنْ يكونَ قولهم (خبر الآحاد يفيد الظنّ) قضية مهملة أي
وهي في قوة الجزئية [١] , وبهذا الاعتبار يكون بعض أخبار الآحاد قد يفيد العلم.
وأيضًا المعروف من مذهب الجمهور أن المشهور والمستفيض لا يجري فيه
الخلاف , وذهبوا أيضًا إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا تلقته الأُمّة بالقَبُول بحَيْثُ
يكونون بين عامل به ومتأول له، لأن التأويل فرع القبول وجعلوا من هذا القسم
أحاديثَ الصحيحين - بل أكثر أحاديث ما صنف فيما يحتج به من الكتب التي
صنفتْ في الصحاح والحسان لانجبار الحسان بتعدد الطرق - ولا يهولنك ما قد
تسمع به من التفرقة بين رجال الصحيح ورجال الحسن , فإن شرائطهم في رجال
الحديث الحسن ربما لا يبلغها من وسم بأعلى سمات الفضل والعدالة في زماننا هذا -
يدلك على ذلك ما عرف عنهم من أقوالهم في الجرح حتى إنهم قد يعدون أحاديث
من سمع في بيته الغناء موضوعة - فإن قيل: إن هذا إفراط قد يؤدي إلى ضياع
كثير من السنن. قلنا: لكنه يدل على أن ما في أيديهم مما وسموه بالصحة والحسن
مُنَقّى ومبرّأ من كل احتمال يؤدي إلى عدم قَبُوله - على أنّا لا نسلّم انحصار وجود
ذلك عند من تركوه , بل يجوز وجود ذلك عند غيره مِن الثقات إنْ كانَ هو مِن السُّنَّة
في نفس الأمر , وإنْ كانَ مكذوبًا فلا حاجة لهم ولا لنا به.
إن أحاديث الكتب المشهورة عن مؤلفيها فيما يحتج به من السنن النبوية قد
عرفت الأمة بأسرها صحتها أو حسنها؛ لتعدد الطرُق، وصارت مقبولة عند الكل
وأكثرها قد جمعت ودونت في عهد التابعين أو تابعيهم , أما مجرد الكتابة بلا ترتيب
للعمل أو للحفظ فقد كان في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - كما ثبت ذلك من
طرُق عديدة.
وعليه فما قرروا صحته فقد اتفقت الأمة على قبوله إذْ كانوا بين عامل به
ومتأول، وهو يفيد العلم، لأن سكوتهم عن الطعن فيما هو كهذا بل قبولهم له يدل
على معرفة كل واحد من العاملين به أو المتأولين له بصحته، وهم في كل طريق
وطبقة عدد كثير , لا يُجَوِّزُ العقلُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكذب عادة.
وأيضًا يدل ذلك على أن هناك طرقًا معضدة كثيرة ألجأتهم إلى عدم الرد،
ولهذا نرى من لم يلتزم ذلك بالعمل عدل إلى التأويل - وإن ما هذه حاله لا يبعد أن
نقول: إنه أَعْلَى من بعض أنواع المتواتر - وما ذكرناه معلوم إن عرف حال
المحدثين واحتياطهم في رواية السنة.
ألا تراهم قد عمدوا حتى إلى جميع ما شاع على ألسنة العوامّ مما نسب إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صرحوا بتزييف الزائف وما له أصل ردوه إلى
أصله، فما بالك وما رأيك فيهم إذا وجدوا ما لا يصح مكتوبًا في كتب الهداية؟
أَتُرَاهُم يسكتون عليه , وقد عرف من عادتهم أن ما في إسناده ولو مجهول واحد لا
يُحتجُّ به عندهم؟ إن أهل الحديث لا يعتبرون رواية من انحطت درجته عن مرتبة
رجال الحسن لاعتقادهم أن كثرة الكذابين ونحوهم لا يزيدون الخبر إلا وهنًا.
لو كانوا يأخذون برواية كل من روى حتى الكذابين والفسقة والكفار كما هي
عادة التواترية لبلغ رواة كل حديث من أحاديث الأحكام في كل طبقة إلى حدّ الكثرة
التي يعتبرها التواترية - فإنْ كانَ أحدٌ يشكّ في قولنا فليتتبع كتب الصحاح
والحسان , وكتب الأحاديث الضعيفة , وكتب موضوعات الحديث , وغيرها مِن كتب
السير والمغازي والتواريخ المسندة والتفاسير وغيرها - أنا لا أشك أنه يجد أسانيدَ
متعددةً لكل حديث , فإذا لم يتقيد بطريقة أهل الحديث في شرائط الرواية وجرى
على طريقة التواترية فهو يجزم بأن رجال هذه الأسانيد يبعد تواطؤهم على الكذب -
لا سِيَّمَا إذا لاَحَظَ من عمل بكل حديث من العلماء من عهد النبي - صلى الله عليه
وسلم - إلى حين كتابتها في كتب الحديث.
يقول التواترية: إن خبر الآحاد يفيد الظنّ , وقد قدمنا فساده , ويرتبون على
ذلك كبرى قياس من الشكل الأول، وهي فكل ظنّ أو كل عمل بالظنّ فهو مذموم
بنص القرآن، وقد عرفت فساد الصغرى [٢] , والحق أن بعض الآحاد يفيد العلم.
وأيضًا نحن لا نسلم الكبرى كلية؛ لأن القرآن إنما ذمّ الخرص وبعض الظنّ
لقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: ١٢) , وأيضًا ما ذكره الله مِن
الظنّ المذموم إنما هو الظنّ في تأسيس الشرائع بلا اعتماد على بينة من الله في ذلك،
ومَن تتبع آياتِ القرآن في ذلك وجده إنما يذم هذا النوع من الظنّ , أو ما هو في
معناه كما قال تعالى قبل ذلك: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (يونس: ٦٨) ,
وقوله: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (يوسف: ٤٠) , وقد يذمهم الله
بمعارضتهم ما أنزل من الحق بهذا الظنّ الفاسد الذي لا يستند إلى أصل صحيح كما
يرد عليهم تعالى شأنه في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (يونس:
٣٦) .
وهذا لا يصدق على الأحاديث الصحاح , ولو كانت آحادًا ولا على من يعمل
بها ولو كان يعتقد أن ذلك من الظنّ؛ إذْ لا يصدق ولا نسلم أنها من الظنّ المذموم إذْ
هؤلاء لم يعارضوا بها المقطوع اليقيني، غاية ما في الباب أن بعض أهل الحديث
أو أكثرهم قد جوزوا نسخ القرآن بأحاديث الآحاد الصحاح، وقد قدمنا أن جمهورهم
يقول: إن بعض الآحاد تفيد العلم، ومن كان هذا قوله فلا إيراد عليه، وأمّا مَن
يقول بأن ذلك يفيد الظنّ , فكذلك لا إيراد عليه لأنه يقول: إن بقاء الحكم ظنيًّا
والحكمِ المتأخرِ عنه في الحديث الصحيح أقوى وأرجح , فهو إنما أجاز نسخ الظنّ
الضعيف بالظنّ القوي.
إن من قال بأن جميع أخبار الآحاد تفيد الظنّ، وإن كل الظنّ مذموم عند الله
وفي كتابه القرآنِ الكريم - لزمه أن القرآن متناقض متخالف , وأنه مِن عِنْدِ غير الله؛
لأن الله أمر وأوجب الحكم بخبر الآحاد وسمّاه عدلاً في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) - وكون الشيء هناك مذمومًا , وهنا
عدلاً تناقض وخلف، وهو في القرآن محالٌ , وما أنتج المحال فهو مثله فلزم أن الذم
لا يتناول خبر الآحاد حتى على التسليم بأنه ظنّ , فعلى كل تقدير خبر الآحاد
الصحيح عدلٌ , واجب العمل به على كل من عرف أنه صحيح، والله أعلم.
وأيضًا إطلاق الظنّ مقابلاً للعلم إنما هو اصطلاح حادث مخالف لاصطلاح
القرآن وعادته في محاوراته , لأن الله جل وعلا قد أطلق على العلم اسمَ الظنّ في
مواضعَ كثيرة مِن القرآن , كما قال تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن
نُّعْجِزَ اللَّهَ} (الجن: ١٢) , وقوله: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} (الحاقة:
٢٠) {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (يونس: ٢٢) {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (يوسف: ١١٠) {فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} (الكهف: ٥٣) إلى غير ذلك مما أطلق
في لفظ الظنّ، والمراد به العلم، فكذلك حملة القرآن مِن العلماء لا يبعد أن يطلقوا
على العلم لفظ الظنّ كلهم أو بعضهم.
فمن يقول منهم: إن بعض الأحاديث الصحاح تفيد الظنّ يمكن أن يحمل قوله
على ما ذكرنا على أنَّا قد قدمنا أنه لا تصدق على ذلك تلك الآيات الواردة في ذمِّ
بعض الظنّ لعدم العلة الجامعة - وفوق ذلك نقول: إن عملهم بالأحاديث الصحاح
إنما هو من باب الاختبار والعمل بأحسن الأمرين , أو الأمور التي انحصر الحق
فيها وما ذلك إلا لمرجح علموه لا ظنوه كما قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم} (الزمر: ٥٥) - {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} (الأحقاف: ١٦)
إلى غير ذلك، فإذا تعارضت أدلّة , ولا سبيلَ للخروج عنها كلها لانحصار الحق
فيها - والحالة أن الاتباع فرض لازم , كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١) , فيجب على العالم أن يجتهد، وإذا
رجح أحدها فهو إنما يرجح بمرجح علمه لا ظنه , فلا يصحُّ أنْ يقال: إن هذا
عمل بالظنّ حتى يقال: إنه مذموم.
ثم نقول للتواترية: إن كل ما ألزمتم به متبعي حديث الآحاد الصحيح هو لازم
لكم في تواتركم بمعناه عندكم , وزيادة على ذلك تلزمكم شناعات وفظائع لا يلتزمها
إلا من نفض يديه من دين الإسلام , بل من سائر الأديان ونحن نبرئ حضرة
الدكتور عن التزام ما يؤدي إلى ذلك لما عرفنا من كتابته السابقة التي أعلن الرجوع
عنها نعتقد أنه إنما يحب الحق وإظهاره وأنه عند تجليه له لا يتوانى عن قَبُوله بغاية
السرور والبشاشة , بل يُظْهِر للملأ رجوعه، وإن ذلك لَمِمّا يَزِيدُهُ عند كل منصف
إجلالاً.
* * *
(بحث التواتر)
ما هو التواتر؟ هو غير معروف عند السلف من المسلمين، وإنما يعبرون
عما كثرت رواته أو ما روته الجموع بالمشهور وهو عندهم كغيره لا بُدَّ من رواية
الثقات له وإلا لم يكن مقبولاً.
أما من عرف عنه التواتر فقد اختلفت عباراتهم في تفسيره أي حدّه , فمنهم من
قال: هو ما نقله جمع يحصل العلم بروايتهم ضرورة - ومنهم من قال خبر جمع
عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة من حَيْثُ كثرتهم - ثم اختلفوا هل
يمكن تعيين جمع يكون أقل نصاب جمع التواتر، فقال بعضهم: أقله أربعة وقيل:
خمسة , وقيل: عشرة , وقيل: اثنا عَشَرَ , وقيل: عشرون , وقيل: أربعون ,
وقيل: سبعون , وقيل: ثلاثمائة وبضعةَ عَشَرَ , وقيل: أربعَ عَشْرَةَ مائة ,
وقيل: جميع الأمة , وقيل: بحَيْثُ لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد، والمرجح
عند التواتريين عدم تعيين عدد مخصوص، وإنما مداره عندهم على حصول العلم
من حَيْثُ كثرةُ العدد تارةً , ومِن حَيْثُ القرائنُ أخرى.
أقول: مَن أحاط علمًا بما ذكرناه مِن اختلافهم في هذا التواتر , وفي شرائطه
تحقق أن هذا شيء ليس مِن عِنْدِ الله؛ إذْ لا يمكن القطع به , ولا يمكن طرده , ولا
تطبيقه على كل ما في الأعيان من الوقائع طردًا على وتيرة واحدة بحَيْثُ يتفق عليه
كافة الناس , ويكون قاعدةً يصحّ المرجع إليه لفصل النزاع.
يوضح ذلك أنه يمكن على معتمد التواترية وقول جمهورهم أنْ يكونَ خبر أهل
البلدة العظيمة متواترًا كباريس مثلاً , وإذا كان خبر الثلاثة والأربعة أو الخمسة
يصحّ أنْ يكونَ متواترًا , بمعنى أنه يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة , والامتناع هذا
يكون تارةً لمجرد الكثرة , أي بِلا اعتبار قيد من القيود المعتبرة في الرواة عند أهل
الرواية: كالبلوغ , وكمال العقل والإسلام , والعدالة , إلى غير ذلك. وإذا كان
الأمر كذلك فإذا أخبر خمسة من الفَجَرَةِ بِخَبَرٍ مثلاً فنحن نناشدُ اللهَ كل ذي عقل
وبصيرة , هل يحصل له العلم الضروري بخبرهم؟ وهل يمتنع عنده تواطؤهم على
الكذب؛ لكونهم جمعًا حتى لو كانوا كفارًا فَجَرَةً أخبروا مرة دفعة واحدة؟ فإن كابر ,
وقال: نعم، قلنا له: وهل يجب أن يحصل لكل أحد مثل علمك من خبر هؤلاء؟
وهل تعد من خالفك مكابرًا بدلاً عن تكون أنت المكابر؟ نحن نستبعد ادعاء عاقل
مثل هذه الدعاوى الباطلة.
وكذلك نقول: إن كل جمع يفرضه التواتر مفيدًا للعلم من جهة أنه جمع فقط لا
بُدَّ أن يرد عليه إيراد صحيح ينقضه إلا أنه في بعضها أبين وأظهر مِن بعض، ألا
ترى أن أعلى ما مثلوا به لذلك هو قولهم: كأن يخبر أهل باريس بقتل أو موت
كبيرهم مثلاً، قالوا: إن هذا يفيد العلم بسبب كثرتهم. ونحن نقول في الجواب عن
ذلك: هذا مثال واحد , ولا يمكن وجود مثله دائمًا حتى يصحَّ طرده في كل موضع
مما يتنازع الناس فيه. ويُقال فيه أيضًا: يمكن أنْ يكونَ إفادة الخبر العلم في مثل
هذا المثال إنما كان لقرائن ككونهم أي أهل باريس ونحوهم لا فائدة ولا نقصان ولا
مضرة عليهم مِن إظهار مثل هذه الواقعة , فصدقهم هنا إنما هو للقرائن لا الكثرة؛
لأنا نجد الفرق بين مثل هذا المثال وبين خبر أهل باريس أنفسهم فيما إذا كانوا
محصورين بعساكر الإنكليز مثلاً , فأخبروا بقدوم عساكر الروس إلى بلدهم
لإمدادهم، فهل خبرهم والحالة ما ذكرنا يفيد العساكر المحاصرة العلم الضروري
بحَيْثُ لا يتشوقون إلى صحته؟ وهل يمكن كذبهم والحالة هذه أمْ لا؟ نحن لا
نستبعد الكذبَ فضلاً عن عدم إمكانه حينئذ.
فإن قيل: نحن نرى أنفسنا مطمئنةً لا ينازعها شكٌّ في وجود البلدان النائية
التي لم نَرَهَا ولا نرى سببًا لذلك إلا ما تواتر إلينا من الأخبار بوجودها.
قلنا: نعم، والأمر كذلك، لكن لا يستلزم أنْ يكونَ سبب هذا العلم مجرد
الكثرة , وإنْ كانَوا كُفّارًا أو فَسَقَةً فُجّارًا، بل لَعَلّ ذلك من الكثرة مع انضمام
القرائن.
فإن القرائن أنواع وأصناف لا يكاد يحصرها حدٌّ أو عدٌّ، بل القرائنُ قد تقارن
خبر الواحد الكاذب المعروف بكذبه وفسقه , فيفيد خبره العلم إذا قارنته وأيدته،
وهي تختلف باختلاف أماكن المخبرين وزمانهم ككونهم أخبروا دفعةً أو متفرقين ,
وباختلاف حالهم من خوف وأمان , وعسر ويسر , وحب الأوطان والإقدام والفخر
وإرهاب ورجاء , إلى غير ذلك مما يعود على الأفراد بفائدة أو نقص ولو بتوسط
فائدة أو نقص طوائفهم وأممهم وأقوامهم وأوطانهم.
ولِمَا ذكرناه وأضعاف أضعافه مما لم نذكره ولتعسر ذلك لو سلم صحته , ولأن
تكليف العباد به تكليف لما لا يستطاع , بل التزامه وحصر العلم الخبري فيه تعطيل
لأكثر معارف البشر وإلغاء لأكثر أحكام الديانات إنْ لم نقل لكلها وإخراج للناس في
جميع معاملاتهم ومعاشاتهم , وموجب لتقاطعهم فردًا فردًا كالبهائم لم يجعل الله ذلك
أصلاً ولا قاعدة ولا مناطًا لتحقيق شيء من الأمور الدينية ولا الدنيوية ولا نبه عليه
أحد من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم نعرفه عن أحد من السلف الصالح لا
الصحابة ولا تابعيهم بإحسان.
فالحق عندنا أن أخبار الجموع لا تفيد العلم إلا إذا أيدتها القرائن أو شاركهم
الثقات - وخبر الثقات المتواتر هو أعلاها كتواتر القرآن الكريم - ثم خبر الآحاد
الأثبات الضابطين بشروطهم يفيد من عرف حالهم أو حال من وثقهم العلم ويجب
على مَن بَلَغَهُ خَبَرٌ عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - أن يبحث عن حاله وحال
رواته، فإذا وجدهم بالشروط المعتبرة فلا يجوز له إهمال ذلك الخبر لأجل كونه لم
يتواتر لما عرفت مما قدمناه كما هو إجماع المسلمين، والله المستعان.
(للرسالة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))