للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصافحة السوريين للمصريين

يوجد في مصر الأوربي من إنكليزي وفرنسي , إلخ والأمريكي والهندي
والفارسي والأرمني , والمغربي من تونسي , وجزائري , ومراكشي , والعثماني
من تركي , وكردي , وعربي , ومِن العرب: الحضرمي, واليمني , والحجازي ,
والعراقي , والسوري. ولم نَرَ صنفًا ممن ذكرنا وممن لم نذكر من الأصناف أقرب
إلى المصري من السوري , فهو جار له في بلاده , وموافق له في لغته وأكثر
عاداته مع كونه عثمانيًّا مثله , ولكننا على هذا كله لم نَرَ المصري في مناظرة أو
منافسة مع صِنْف من أصناف البشر الذين تضمهم بلاد مصر إلا مع السوري فما هو
سبب ذلك؟
يرى من دقق النظر أن السبب في هذا هو ذلك القرب نفسه , فإن السوري لما
كان صنوًا للمصري امتزج به امتزاج الماء بالراح , وشاركه في عامة شئونه من
مأكله ومشربه ولهوه وجدِّهِ وهزْلِه , فما من سوري في هذا القطر إلا وله من
الأصدقاء المصريين مثل ما له من السوريين، أو أكثر. ومن طبيعة المنافسة أن
تكون بين الخلطاء ما لا تكون بين البعداء، فالأفراد ينافسون إخوتهم وأقاربهم
وجيرانهم , وأهل البلد ينافسون أقرب البلاد إليهم , وكذلك أهل المديريات فأهل
الأقطار فأهل الممالك.
قد كانت المنافسة الأولى بين المصريين والسوريين في أعمال الحكومة , ثم
ضعفت أو تلاشت , وخلفتها المنافسة في الصحافة أو السياسة. كانت بين المقطم
والمؤيد , ثم بين المقطم واللواء. وحقيقة هذه المنافسة أنها منافسة أفراد لا أصناف؛
إذ رأي المقطم في السياسة ليس هو رأي السوريين , وإنما هو رأي أصحابه وأول
من قارعهم فيه صاحب جريدة الأهرام من السوريين.
ولكن اللواء كان يرد عليهم من حيث إنهم سوريون ودخلاء , فكان ذلك من قبيل
تعليق الحكم بالمشتق وهو كما قال علماء الأصول يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق.
أعني أن رد اللواء على أصحاب المقطم من حيث هم منسوبون إلى سوريا ودخلاء
في مصر يفيد أن علة ما يرميهم به من خيانة مصر هو كونهم سوريين. فلو كان
الأمر كما يدعي - وهو ليس كذلك - لكان كل سوري خائنًا لمصر , أو لَكَان
مجموع السوريين كذلك. وهذا باطل؛ لأنه مبني على أصل باطل , ولكنه
سرى في أوهام كثير من الناس لا سِيَّمَا الأغرار.
وهذا ما عناه حافظ بقوله:
لولا أناس تغالوا في سياستهم ... منا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا
ونحمَدُ الله أن كلاًّ من المقطم واللواء اللذين يعنيهما حافظ قد رجع - مع إصراره على أنه كان حسن النية - عن الخطة التي كانت تعد غُلوًّا , وكادت تجعل المنافسة بين جريدتين سببًا للتعادي بين شعبين كل منهما صنو للآخر وشريك له في كل مقومات الحياة حتى أوشك أن يصدق في ذلك ما قيل من أن سوء التفاهم كثيرًا ما يكون أضر من سوء القصد.
لقد حسن في هذه الفرصة ما قام به سليم أفندي سركيس من تأليف جمعية من
خيار السوريين علمًا وأدبًا , وجمع طائفة من النقود منهم ومن غيرهم من السوريين
بالاكتتاب؛ لأجل دعوة جماعة من خيار المصريين علمًا وأدبًا إلى الاحتفال باسم
السوريين لإكرام حافظ أفندي إبراهيم الشاعر المصري الشهير.
ولما كان الغرض من هذه الحفلة موادة السوريين للمصريين كانت الخُطَب
والقصائد التي أشرنا إليها في الجزء الماضي ممثلة لذلك أحسن تمثيل , وقد وقع ذلك
موقعه الذي يستحقه؛ فأثنت الصحافة المصرية كلها كالصحف السورية على سليم
أفندي سركيس , وأيدت الغرض من الاحتفال بالكَلِم الطيب في التأليف بين
العنصرين اللذين هما بمنزلة الأخوين.