مرت بضعة أشهر على اشتداد النزاع بين الإمامين وخوض الجرائد فيه، ثم انقضى الشهر الذي سُلَّ فيه الحسام واشتعلت نار القتال بين الطائفتين فراعت الأمة العربية والشعوب الإسلامية، وكانت أخبار هذه الحرب غير المتوقعة عند الجماهير من أكبر ما شغل الناس، وكثر الذين خاطبوا الإمامين بالبرق والبريد داعين إليهما أن يحقنا الدماء ويجنحا للسلم ويقبلا تحكيم الشرع وخواص المسلمين في النزاع، فكان منهم محبو الصلح ومحبو الشهرة، ولكنني لم أر لأحد ممن نشروا آراءهم في الصحف المنشرة قولاً في بيان محل التنازع الواقع كما هو، ولا في مصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة ولا كُنْهِ مطامع الأجانب فيه، ولا في عاقبته على كل تقدير ينتظر، فأكثر الذين كتبوا في الجرائد وخطبوا في المجامع حتى الذين تصدوا للسعي إلى الصلح لم نسمع منهم ولا عنهم ما يدل على أنهم على علم مما ذكرنا، بل قال رئيس جمعية في محفل جامع: إننا لا نريد أن نعرف المحق من المبطل ولا المتعدي والمعتدى عليه، وإنما نريد السعي إلى الصلح، أي بغير علم! ! لمحل التنازع وجهة حقيقة واقعة، ووجهة نظرية طامعة، ووجهة مصلحة إسلامية عامة، ووجهة مصلحة عربية خاصة، فأما الحقيقة الواقعة فهي أن ملك العربية السعودية قد سبق إلى وضع اليد على عسير بقسميها، ولم يكن لإمام اليمن يد قبله عليها، ولكنه كان يطمع فيها، وإن الإمام سبق إلى وضع يده على نجران بقوة السيف وكانت مستقلة بنفسها، كما سبق الملك إلى عسير بالاتفاق مع حكامها والملك لا يطمع في نجران، ولكنها متصلة بحدوده، ولها سابق عهد وولاء له، ولبعض قبائل (يام) من أهلها علاقة تَابِعِيهِ به وتدفع الزكاة له، وهو يرى أنه يجب أن تبقى على ما كانت عليه من استقلالها لتكون فاصلا بين المملكتين حتى لا تكون مثارًا للاعتداء. وسبب هذا الحذر من الاتصال أن الملك يطلب منذ بضع سنين عَقَدَ معاهدة سلمية بينه وبين إمام اليمن والإمام يأبى هذا، وقد كان هجوم جنده على نجران واحتلالها عقب رجوع الوفد السعودي الذي مكث في عاصمته صنعاء عدة أشهر يبغي عقد المعاهدة وعاد أدراجه خائبًا، فعدها الملك تمهيدًا للاعتداء على ما وراءها من بلاده. وكان قد سبق جند الإمام فاحتل جبل العرو من أمنع جبال عسير فجهز الملك جيشًا لاستعادته وكادت تقع الحرب ولكن الإمام يحيى حكَّم الإمام عبد العزيز في الأمر رضًا بحكمه، فحكم له على نفسه، وترك له هذا الجبل المنيع، فهو يقول الآن: إنه لا يأمن سير الإمام معه على هذه الخطة، ويقول أيضًا: إنه قد حرَّض آل الإدريسي على ثورتهم الأخيرة التي سفكت فيها دماء غزيرة، وأنفقت ألوف كثيرة، وهو الآن يحرضهم على القتال، ويمدهم بالذخائر وبالمال، وإن قيل: إن المال الذي يمد هذه الفتنة هو من أفراد الحزب الوطني الحجازي المقيم في اليمن وهو الذي كان يمد الثورة التي قبلها. ومن الحقيقة الواقعة التي لا مراء فيها أن المفاوضات الكتابية بين الإمامين بالبرق والبريد انتهت إلى الاتفاق بينهما على بقاء عسير على ما هي عليه بيد الدولة السعودية وعلى تسليم الإمام من عنده من آل الإدريسي إلى الملك، وعلى حل مشكلة نجران بالمفاوضة في مؤتمر أبها وكان المرجو أن يتساهل الملك فيها لو أن وفد الإمام لم يطلب إعادة النظر في مسألتي عسير وآل الإدريسي بعد الاتفاق عليهما، فهذا الطلب هو الذي أوجب قطع الوفد السعودي للمفاوضة وصيرورة الدولتين في حالة حرب. هذه خلاصة الأمر الواقع الذي عرفه كل أحد. وأما مسألة المصلحة العامة للعرب وللمسلمين في هذه المشكلة فالرأي الصحيح فيها من جميع نواحيها، يتوقف على العلم بظواهرها وخوافيها، وقوادم أجنحتها وخوافيها. وأما شرفاء الحجاز فقد ظهر في أحدهم الاستعداد للملك فأوتيه وهو الملك فيصل رحمه الله تعالى، وقوى المتنازعين فيها، والخطر الأجنبي عليها، فأما الخطر البريطاني فقد بيَّناه في المقالة التي قبل هذه، وأما الطلياني فلم يظهر لنا منه شيء في هذه الفتنة. وأما المتنازعان الظاهران فهما الإمامان الحاكمان، ومن دونهما بقية آل الإدريسي وهم يجهزون على أنفسهم بجهلهم، ولم يظهر بعد السيد محمد الكبير أدنى استعداد للإمارة في أحد منهم، وقد عرف جميع المشتغلين بالسياسة ما فعل علي وعبد الله في اقتطاع منطقة العقبة ومعان من الحجاز ووضعها في قبضة الإنكليز، وعرفوا ما كان من عرض الملك عَلِيٍّ الحجازَ كله على الإنكليز باسم الحماية كما دونه الريحاني في كتابه، وعرفوا كيف وضع عبد لله إمارة شرق الأردن تحت السيادة الإنكليزية باسم الانتداب ورضي منهم بلقب الأمير، وراتب حقير، ويعرفون كيف يستخدمونه الآن وسيعلمون ما هو شر منه، كما يعلمون أن هذين الشريفين اللذين يعتقدان أنهما خلقا ليتحلى كل منهما بلقب ملك من دولة أجنبية عدو للعرب وللإسلام ليس لهما عصبية قومية ولا ثروة ولا نفوذ شخصي في الحجاز ولا في غيره، وأنهما يطلبان ملك الحجاز وغيره من الأجانب فكيف يكون أمر الحجاز إذا ولي أحدهما أو غيرهما من أسرتهما أمره، إن خرج منه ابن السعود بما يكيدون له؟ لا جرم أنه يكون مجالا للثورات والفتن، وتبطل فريضة الحج والعياذ بالله تعالى فالحق أنه لم يبق في جزيرة العرب إلا قوتا الإمامة الزيدية، والمملكة السعودية فأيهما أرجى لمصلحة الشعوب الإسلامية، والأمة العربية؟ إن الجواب الصحيح عن هذا السؤال يتوقف على العلم بحقيقة قوة إمام اليمن في بلاده وبصفة إدارته، وإخضاعه لزعمائها وعشائرها، ومعاملة قومه الزيدية للشافعية في تهامتها وبقدر استعداده لحفظ الحجاز وتأمينه للمسلمين، إن قدر على إخراج ابن السعود منه وحل محله دون الحجازيين، أنا لا أصف لهم ما أعلم من ذلك. وإن كثيرًا منهم ليعلمون ما أعلم وأكثر مما أعلم، وإني قد عنيت بخدمة ملك الإمام يحيى وإمارته بما يعلمه هو وقليل من الناس، وإنني لا أقول في هذا الموضوع شيئًا الآن، وإنما أدع القول للزمان، وربما قال كلمته الفاصلة قريبًا في قوته الحربية، وطال بعد المدى في انتظار قوته الإدارية، ولا يعلم إلا الله ما يحدث فيما بين الكلمتين مما أشار إليه الحديث (ويل للعرب من شر قد اقترب) كذلك لا أقول شيئًا في استعداد ابن السعود لأمن الحجاز وعمرانه فوق ما عرفه العالم كله بالتواتر عن مشاهدة مئات الألوف من حجاج الأقطار كلها، فما هو معلوم من تأمين الدولة السعودية للحجاز باليقين تعجز اليمن عن مثله باليقين عند العارفين، وإن شك فيه غيرهم، واليقين مقدم على الشك والظن. وأما مصلحة الأمة العربية في جزيرتهم فالقضية القطعية فيها الآن أن يحفظ كل من الإمامين قوته لنفسه في بلاده لإبقاء ما كان على ما كان، وعقد محالفة بينهما على السلم والأمان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان. ((يتبع بمقال تالٍ))